الهزائم الرياضية تجرح النخوة الوطنية

رجل علاقات عامة ذكي خطط لخبطة إعلامية تسوّق المغرب. برمج مقابلة بين نادي برشلونة الاسباني وأكبر ناد مغربي ("الرجاء البيضاوي"). شرع صاحب الفكرة في جني الثمار منذ الإعلان عن الحدث الكروي. فلمدة شهرين، هلل الإعلام والجمهور لقدوم ليونيل ميسي. لا يهم الثمن، فبالرغم من ندرة الموارد، يبقى المغرب بلد الجود والكرم. ثم أن الحدث سيسوق المغرب عالميا. بيعت التذاكر مبكرا، في الشباك ثم في
2012-08-29

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
"ميسي" مع ابنة وزير الرياضة المغربي "محمد أوزين"

رجل علاقات عامة ذكي خطط لخبطة إعلامية تسوّق المغرب. برمج مقابلة بين نادي برشلونة الاسباني وأكبر ناد مغربي ("الرجاء البيضاوي").
شرع صاحب الفكرة في جني الثمار منذ الإعلان عن الحدث الكروي. فلمدة شهرين، هلل الإعلام والجمهور لقدوم ليونيل ميسي. لا يهم الثمن، فبالرغم من ندرة الموارد، يبقى المغرب بلد الجود والكرم. ثم أن الحدث سيسوق المغرب عالميا. بيعت التذاكر مبكرا، في الشباك ثم في السوق السوداء.
حل وقت المقابلة - الحلم بمدينة طنجة يوم 28-07-2012. وقف 4000 رجل أمن في الملعب وحوله. دخل ميسي الميدان برفقة ابنة وزير الشباب والرياضة. النتيجة: انهزم فريق "الرجاء" بثمانية أهداف لصفر. حينها تفجر الغضب الشعبي على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى صفحات الجرائد الإلكترونية. بدأ جلد الذات. هنا الخلاصة:
"مبروك هذه الهزيمة التاريخية المدوية"، "لماذا دفعنا أكثر من مليون يورو مقابل تسعين دقيقة؟"، "نحن نبحث عن البهدلة"، "هزيمة جد مستحَقة"، "عرت المباراة عورتنا للقاصي والداني"، "الرجاء لا تصل إلى كعبي البرصا"، "لاعبو الرجاء خوافون ضعاف اللياقة البدنية وهم مدمنو شيشة دخلوا المباراة للعراك"، "هذا التصرف لم يفلح إلا في تحميس لاعبي البرصا الذين اقسموا أن يلقنوهم درساً لن ينسوه"...
بعد غضب الصدمة، أخذ المعلقون مسافة مع ما وقع، فبدأت السخرية والشماتة: "يا ليتهم لعبوا نهارا ليتحججوا برمضان"، "نحن أذكى شعب في العالم اشترينا فضيحة"، "دعَونا البرصا للمشاركة معنا في الكاميرا الخفية لكنها اعتبرت الأمر جدا فضربتنا ثماني مرات". "هل هذه نتيجة كرة يد أم كرة قدم؟"، "كلفة هذه المقابلة كافية لتشغيل الشباب"، "لعبوا يوم ثامن رمضان فخسروا بثمانية أهداف، من حسن الحظ لم يلعبوا ليلة القدر"، "الخاسر الأكبر هم الذين تناسوا صلاة التراويح لمشاهدة المباراة"، "نحتاج خمسين سنة لنلعب مع البرصا"... وفي انتظار مرور نصف قرن، اقترَح معلق ساخر ضمّ أفضل لاعب مغربي للبارصا لتكون مهمته تنظيف حذاء ميسي وجمع الكرات أثناء التدريب.
ثم، وبعد السخرية بدأ القليل من العزاء: "كان الله في عون الناس الذين حضروا الهزيمة"، "المهم هو المشاركة"، وتأسف معلق لأن البارصا لم تحترم مضيفها. وذكر أنها احترمت كرامة المنتخب الكويتي وهزمته بهدفين فقط. يبدو أن البترودولار تكلم حينها. ستكف أغلب الفرق العالمية عن اللعب حبيا أمام البرصا خوفا من العار. وكتب معلق حائر بين حبه للوطن وإعجابه بالفريق الأسباني: "تبا لك يا ميسي، قلبي الصغير لا يتحمل هذا".
هكذا يظهر أن رجُل التسويق الحاذق الذي اختار البارصا جلب كارثة جَرحت الكرامة الكروية المغربية. تسبب في إحساس مرير بالإهانة، لا تسببه لنا حتى نسبة الأمية والفقر بالبلد. طبعا للجمهور سلم أولويات مهزوز، إذ لسعته مرارة الحضيض الكروي الذي وصلنا إليه. زعم ملاحِظ أن هذه الهزيمة هي حقيقتنا في كل المجالات، وتساءلت معلقة: "هل سنأخذ العبرة؟". الجواب الرسمي أنهم يتحدثون منذ الآن عن الاستعداد لدورة الألعاب الأولمبية 2016 بالبرازيل... بكل وقاحة!
حين تحصل نكسة تعليمية أو اقتصادية، لا يغضب الشعب كثيرا. تضاعفت منذ بداية السنة فاتورة الغذاء المستورد. لم يشعر بلدنا الفِلاحي بالإهانة. بفضل الانشغال بالكرة، أخذت الأسعار راحتها في الارتفاع دون احتجاجات، ومر مرور الكرام خبر مغادرة الجنرال حسني بنسليمان رئيس اللجنة الأولمبية المغربية للندن بسرعة، وذلك لأن القاضي الفرنسي - الذي يحقق في اختطاف المهدي بركة – طلب استجواب الجنرال قائد الدرك المغربي. كما لم يلتفت أحد لطلب المغرب قرضاً أسطورياً قيمته ستة مليارات دولار ونصف من صندوق النقد الدولي، قرض سيرهن مصير حفيدي الذي لم يولد بعد.
لكن كل هذا لا يهم. الكرة أهم. إذ بعد كل هزيمة كروية يحفر جرح عميق في الوجدان الجمعي ويقوم الشعب بنقد ذاتي قاس، موسمي.
ثم ينسى الناس الهزيمة ويعودون لروتينهم اليومي. غير أن الجديد هذه المرة هو ما أن بردتْ صدمة البرصا حتى اشتعلت في أولمبياد لندن بدءا من 27-07-2012، فتوالت عناوين التراجيديا عريضة:
"المغرب يشارك في الأولمبياد بأكبر وفد في تاريخه"، "الملاكمون المغاربة يتساقطون تِباعاً في لندن، وملاكم مغربي سادس يغادر"، "مسلسل إخفاق الرياضيين المغاربة يتواصل"، "عداءان مغربيان يُطردان بسبب المنشطات"، "المعلق التونسي عصام الشوالي يصب جام غضبه على مدرب المنتخب الأولمبي المغربي، الهولندي بيم فيربيك".
انهزم المنتخب الأولمبي المصري أمام البرازيل في أولى مبارياته في لندن، فقيل أن صيام المتفرجين المصريين بطُل من كثرة شتمهم لمنتخبهم. استغربوا كيف يهدر لاعب هدفا في مرمى خال عرضه سبعة أمتار، حتى أن "أبا الهول نطق ونفى أن يكون هذا منتخب الفراعنة". "في المغرب يستبدلون لقب أسُود الأطلس بلقب راقصات الأطلس"، "عزاؤنا أن قَطر منحت العرب أول ميدالية في الأولمبياد، يضع الله سره السياسي في أصغر خلقه".
لكن هذا العزاء لا يوازي المشهد المتكرر على قناة الجزيرة:
أبطال الشعوب الأخرى يتفوقون، الأمريكيون يسددون بكرة اكبر على سلة قُطرها مثل فم قِدر، يسحقون الصين. توزع الميداليات، ترتفع الأعلام الثلاثة ويدوي النشيد الوطني للبلد المُتوج، تسري قشعريرة في جسد المتفرج. تختلط السياسة والرياضة، ويتمنى المواطن العربي أن يعيش هذه اللحظة الذهبية التي تتولد عنها أحاسيس تخترق الطبقات والحدود. ولتعويض الافتقاد لهذا المشهد، ينفِّس الجمهور عن غضبه بسخرية مريرة. ويكشف هذا الغضب أن توقعات الجمهور كانت عالية جداً، ولذا صُدم. وقد تزامن السخط على الإقصاءات مع ضعف الكوميديا الرمضانية على التلفزة، فتناسلت الأسئلة: لماذا لم نحصل على ميداليات؟ لماذا سقط الرجاء أمام البرصا؟ لماذا غاب الإبداع وحضر التهريج؟ لماذا سقط المنتخب أمام اليابان؟ أين نحن من الماكينات الألمانية؟ لماذا يستخدم عدّاؤونا المنشطات؟
وتمددت الأسئلة لتشمل التنمية والفساد والديموقراطية والتعليم ومنشطات السياسيين...
تُطرح هذه الأسئلة باستمرار، لكن السؤال الأول والأتفه هو الأبرز، لأن الرياضة تهمّ الأغلبية، لأن كرة القدم تلهب المشاعر وتحظى بأهمية مطلقة لدى الجماهير، لذا يكثر الجدل وتتعدد الأجوبة. أجاب معلق يائس: "بكل اختصار، فاقد الشيء لا يعطيه، سواء في الفن أو في الرياضة أو غيرهما، والسلام"، آخر ساخر قال: "هزمتنا اليابان لأن الكابتن ماجد لعب ضدنا". تمنى معلق مصري أن تنقطع الكهرباء، وقال آخر بصدق لافح "الواحد نفسه يبقى شكل بلدو حلو قدام العالم".
لنترك جانبا هذه الأجوبة الإنفعالية والساخرة، ونرى عمق المشكل. واضح أن هناك نسقا يفسر هذه النتائج المُحبطة. فما أسُس هذا النسق الذي تملكه الماكينات الألمانية ولا نملكه؟
1. تمتلك الجهد المنظم والمستمر لتحقيق الهدف، ولا تعتبر الحذلقة والشطارة والحيلة وسائل لتسجيل الأهداف.
2. تتجنب استيراد العقل المدبر لتدريب الفريق. تعتمد مدربا محليا يضع خطة تناسب الأرضية المحلية ونمط التفكير المحلي بعين الاعتبار.
3. تمتلك اللياقة البدنية القائمة على تغذية متوازنة ومراقبة طبية مستمرة. لياقة تمكِّن اللاعب من سرعة التواجد في الموقع المطلوب ليستقبل الكرة في اللحظة المناسبة، بدل أن يصل بعد مرورها أمام الشِباك الفارغة. اللاعب الذي لا يملك اللياقة يلجأ للغش، للمنشطات أو لعرقلة الخصم. في المغرب، بعد الغش في الامتحانات جاء دور الغش في ألعاب القوى. قال المعلقون: "هؤلاء نكّسوا راية المغرب، نطالب بمحاكمة كل عداء ثبت تناوله للمنشطات بتهمة الخيانة العظمى".
4. تحرص على تماسك المعنويات حتى في حالة الهزيمة. يحافظون على المعنويات حتى بعد هدف مبكر مفاجئ. دون معنويات متماسكة ومتحفزة، دون حماس وطني حقيقي، لن يصلح لا التعليم ولا القضاء ولا المنتخب.
5. الانسجام، والانضباط للخطة. كتبت الصحف: "المنتخب الياباني يدك شباك مصر بثلاثية". السبب تشتت الدفاع المصري. حصل هذا في حزيران 1967! حين يغيب الانسجام تهيمن النزاعات: نزاع المشير والرئيس، نزاع الوزير مع الكاتب العام للوزارة، نزاع النفوذ في محيط الملك، نزاع يشقق الأحزاب ويضعفها فتستفرد بها وزارة الداخلية، نزاعات بين الورثة تشل الشركات وتشتت الرأسمال، نزاعات في هيئات تحرير الصحف...
6. تمتلك الماكينات لاعبا قادرا على ضبط سلوكه تبعا لهدف محدد مسبقا، لاعب يسلم بالقواعد المقررة، يسلم بالبديهيات، لا يعتبر أن الحرية هي أن يفعل ما يريد، بل ما يجب. وهذا بخلاف لاعب عنيد تقوده الأهواء لا العقل، يبحث عن لفت الانتباه حتى لو تسبب ذلك في طرده كما حصل للاعب مصري.
من شاهد اليابان تضرب مصر في لندن، يستخلص هذه. لم يكن الكابتن ماجد في الملعب، كان هناك دليل على أن الرياضة علم وممارسة تتطلب نفس قواعد النجاح في مجالات أخرى. هذا ما تمتلكه الماكينات الألمانية وباقي الدول. هذه هي العبرة، يجب ألا تظل الهزائم فرصة للنقد الذاتي الموسمي، بل لمراجعة العقلية المتفشية في المجتمع، عقلية تشبّع بها اللاعب وبها يدخل المنتخب الملعب. ومن الواضح قبل صفارة البداية أن الخلل ليس في القدم واليد. الخلل في الدماغ الذي يسدد وليس القدم التي تركل. ولا بد من "تعديل" الدماغ... بالتربية لا بقطعة حشيش.
 

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه