عرف شهرا فبراير ومارس 2012 احتجاجات عنيفة في مناطق ريفية بعيدا عن المدن المغربية التي كانت تجري فيها جل الاحتجاجات منذ أحرق البوعزيزي نفسه. تتابعت هذه الاحتجاجات في مناطق مختلفة، الجامع بينها أنها تجمعات سكانية ريفية صغرى. في بعضها لم يسمع من قبل صوت احتجاج قط. تبدأ المسألة بالمطالبة بالماء أو بالطريق. وفي كثير من الحالات جرى تدخل أمني عنيف للتخويف، لكن جاءت النتائج عكسية فهجم الناس على ممتلكات عامة واحرقوا سيارات شرطة. فلماذا انتقلت الاحتجاجات إلى خارج المدن؟
لأن في هذا المناطق ساكنة منسية تقريبا، لا تظهر في وسائل الإعلام إلا بكوارثها، مثل الجفاف وحوادث السير المميتة لعشرات العمال الفلاحين الذين يركبون جرارا واحدا ينقلب أو تصطدم به شاحنة.
في المغرب، يعيش 40 في المائة من السكان من الفلاحة، وحسب دروس الجغرافيا في المقررات التعليمية، فالمغرب بلد فلاحي، فيه 7 ملايين هكتار منها مليون ونصف هكتار مسقية.
أغلبية الأراضي بور تُسقى من السماء. وهنا نسجل أن عدالة الطبيعة تصل الجميع، لا وسيط بين الفلاح والسماء. هطول المطر مفيد لكل فلاح في أية منطقة نائية، بينما عدالة الدولة تصل لزبنائها بوسطاء ينتقصون العطاء في كل منعطف. من الطرائف أن جل وكلاء توزيع الدقيق المدعم سعره من طرف الدولة يملكون أفرانا لبيع الخبز. وبحسب أرقام وزارة الفلاحة المغربية يوفر القطاع الفلاحي أربعة ملايين منصب شغل، ويساهم بـ14 في المئة من الناتج الداخلي الخام. وهو يوفر الاكتفاء الذاتي للمغرب في اللحم والخضر والفواكه وحوالي نصف حاجيات البلد من الحبوب والسكر.
بالنزول من تجريدية الأرقام وعموميتها إلى الواقع اليومي للفلاحين بهدف الوقوف على الحالة السيكولوجية والاجتماعية للفلاح ودوره السياسي الاقتصادي... أعترف بداية أني شاهد عيان، منذ طفولتي وجدتي تردد «إذا لم تدرس ستسرح بالبقر»، كان هذا هو الكابوس الذي حفزني لأدرس بشكل مستمر... لأتجنب «قهر الفلاح»! لقد نجوت وصرت صحفيا أراقب. ومع ذلك، فلأني ابن فلاح تعلم وتوظف وسكن المدينة، لم أتوقف عن متابعة وتسجيل ما يجري هناك. وبقي إخوتي وزملائي الذين لم يتجاوزوا المستوى الابتدائي في البادية. وكثير من هؤلاء يبيعون قطعا من أراضيهم للاستمرار في العيش.
أسأل أحد الفلاحين: إذا كان الناس يحتاجون الأكل كل يوم، وإذا كان عدد سكان الأرض يزيد كل يوم، وإذا كانت أسعار الغذاء ترتفع باستمرار، فكيف يعقل أن يكون الفلاح في أزمة؟ لماذا لا يحقق الفلاح أرباحا؟ أجاب: تزايد عدد السكان وتراجع الاستهلاك. لأن القدرة الشرائية انخفضت، إذ نجد فردا واحدا ينفق على أسرة من عشرة أفراد. كثير من الأسر تتناول اللحم مرة في الأسبوع. قلت بأن فلاح اليوم كسول، يكره العمل الشاق، لا يريد العمل ساعات طويلة. أجاب مقدما عللا أخرى لتزايد الهشاشة في البوادي، عللٌ يمكن حصرها في شيخوخة الفلاحين بسبب نزوح كثيف للشباب من الارياف، تفتيت الأراضي بسبب الإرث، ضعف المكننة، صغر الملكيات الزراعية ونقص السيولة، فالفلاح يقترض للحرث والزرع وينتظر تقلبات مزاج المناخ. حين يكون مزاج المناخ سيئا، وقد كثر هذا في السنوات الأخيرة، يغرق الفلاح في الديون، وخاصة مع انخفاض المردودية. في حصاد صيف 2012، بلغ معدل المحصول في الأراضي البور أقل من عشرة قناطر للهكتار: بسبب المناخ أو التربة أو قلة اليد العاملة المؤهلة. غالبا ما يشغل الفلاح أولاده لكي لا يدفع للأجير، لذا يُحرم الأطفال من استكمال التمدرس. يبقى التلميذ في المدرسة حتى سن 13 سنة، وما أن يكون قادرا على العمل يغادرها.
هذه علل بنيوية، لكن توجد أيضا علل ناتجة عن سياسات معينة. فالمغرب أكبر منتج للفوسفات في العالم، وقد تضاعفت العائدات قبل سنتين وزادت هذه السنة بنسبة 20 في المئة، ومع ذلك يصل قنطار الأسمدة للفلاح بحوالي 50 دولارا. وهذا كثير. وكأن الدولة تعوض الإعفاء الضريبي للفلاحين بهذه الطريقة. هناك أيضا الاحتكار. فأسواق الجملة للخضر والفواكه مصدر غنى سريع لوكلائها، وذلك بسبب مصهم لعرق ودم الفلاحين. كيف؟ يعمل الفلاحون ولا يجمعون ثروة، يبيعون كيلو البطاطا بدِرهم ويصل السوبر ماركت فيصبح ثمنه 5 دراهم. من بلع الفارق؟
في مثل هذا الوضع يعجز الفلاح عن تحسين دخله، لذا ينتقل للعمل هو وزوجته وأولاده عند أصحاب الملكيات الكبيرة (الضيعات). يصير الفلاح المعتز باستقلاله مأجورا يؤمر.
بجانب العلل البنيوية، توجد علل مرتبطة بالذهنية السائدة، مثل العقلية المعاشية غير التجارية والكسولة، وهي لا تلائم تغير نمط العيش. فالفلاح الجديد شاب يستيقظ في الثامنة صباحا بينما كان والده يستيقظ في السادسة وجده في الخامسة لبدء العمل. الجيل الجديد من الفلاحين، وجلهم عرف المدرسة، في سنواتها الأولى على الأقل، لديه فكرة عن حياة الرفاهية ولا يستطيع إكراه نفسه على العمل الشاق. جلهم يريد الربح بسرعة ويفتقد للنظرة على المدى البعيد. فلاح يعاني من شيوع الثقافة الاستهلاكية في البوادي، يقضي أمام التلفزة أكثر مما يقضي في الحقل. وطبعا الكسل يفقر الفلاحين أكثر. فيبحثون عن حلول. يبيعون أو يحتجون.
يبيع الفلاحون الصغار قطعا من أرضهم، وتتشكل «ضيعات» كبيرة تصمد للمنافسة، يديرها مُلاك لديهم تمويل أفضل ويركزون على منتوجات تسويقية تمكِّن المغرب من تصدير البواكر للاتحاد الأوروبي رغم أنها زراعة تستهلك الكثير من المياه. وهذا يستنزف الفرشاة المائية وكأن المغرب يصدر الماء. النتيجة: يحفر الفلاح الصغير بئرا على عمق 30 مترا فلا يجد ماء. يحفر الفلاح الكبير 200 متر، فيخرج له نهر خالد من ماء سلسبيلا. غير أن هذه الضيعات العملاقة توفر للفلاحين عملا موسميا فيتحول الفلاح إلى عامل. لهذا الوضع تبعات، فبينما يجد الفلاحون الصغار صعوبة في الاستمرار في زراعة معاشية، تبحث برجوازية المدن عن سكن ثان في البادية. لذلك ارتفعت أسعار العقار وهذا يغري أبناء الفلاحين ببيع الأرض للهجرة للمدينة. يفضل الفلاح العمل في المدينة حيث لن يراه معارفه يقوم بعمل مذل. ما هو العمل المذل له؟ ماسح أحذية أو حمّال..
تؤدي هذه الهجرة إلى انقراض النمط الزراعي قبل الرأسمالي وإلى تضرر القاعدة الاجتماعية للنظام المخزني في المغرب... شرح إريك هابسباوم يوماً (في كتابه «عصر الرأسمال»)، بعد آخرين، عن دور رجال الريف الأصحاء في الاستقرار الاجتماعي. فهم محافظون بشكل عنيد، منهم جيوش الحكومة ورجال الأمن المركزي، بهم تُقمع احتجاجات المدينيين. لإنقاذ الموقف، يحضّر وزير الفلاحة خطة لتجميع أراضي صغار الفلاحين وذلك بإقناعهم باستعمال المكننة. هذه خطة لن تنجح لأن الفلاحين يكرهون رائحة الاشتراكية. وفي هذا الباب، ينقل هابسباوم عن جوزيف كونراد وصفه للفلاحين بأنهم يحبون ما يملكون، مرتبطون بالأرض، يحبون تراب بلادهم، وأعداء طبيعيين للأفكار الحضرية الثورية.
نظرا لهذه الفوائد السياسية، يخصص القصر الملكي اهتماما شديدا للفلاحين. فقد احتفظ في الحكومة الجديدة بوزير الفلاحة السابق رغم أن حزبه انتقل للمعارضة. لذلك استقال من الحزب وصار لا منتميا! يقال أنه وزير القصر في الحكومة. للقصر الحق أن يهتم بالفلاحة. ففي البوادي أنصاره. ذكرت إحصاءات متابعة التلفزيون أن القنوات العمومية، التي يصفها المدينيون بالمتخلفة، تحظى بنسبة متابعة عالية في البوادي، خاصة لتغطيتها المكثفة للأنشطة الملكية كل مساء تقريبا.
عادة يوصل الفلاحون صوتهم للعاصمة بفضل الأعيان، والأغنياء هم الأعيان، لأن وسيلة الاصطفاء الوحيدة هي النقود، وهم يهيمنون على النسيج الاجتماعي ببعض الخدمات والولائم، وبالمقابل يوفر الفلاحون خزان أصوات لنظام سياسي قام على أساس نمط إنتاج زراعي رعوي. عادة يكون الأعيان كرماء في الانتخابات، يوفرون ولائم لا ينساها الفقراء ويلهجون بذكرها زمنا... الناس لا ينسون اليوم الذي شبعوا فيه جيدا.
لكن هذا وضع يعرف تحولين، عددي وذهني. عدديا، قريبا سيسكن ثلاثة أرباع المغاربة المدن. الفلاح نصير العرش يتقلص ديموغرافيا، يفتقر ويشيخ ويفقد وزنه لصالح المدينة وسكانها الذين يفرضون قواعد جديدة على السلطة. ذهنيا، لا يجد الجيل الجديد من الفلاحين الشبان ذواتهم في التمثيلية السياسية للأعيان، فالفلاحون الشبان الفقراء يطرحون مطالب لم تخطر ببال آبائهم. ويقاومون العلاقة الأبوية التي يفرضها الأعيان. ثم إن هناك جيلا جديدا من الأعيان، ورثوا ثروات آبائهم، لكن لم يرثوا منهج التعامل الأبوي والحامي لأبناء القبيلة، النتيجة يفقد الفلاح الصغير مظلته الاجتماعية ليواجه مصيره معزولا كعامل مأجور لن يأكل إن لم يعمل.
لماذا يحتج الفلاح اليوم ؟
لأن وعيه بحقوقه زاد، لأنه أصبح يفهم نشرات الأخبار التي تنقل الوقفات الاحتجاجية، ويحتج بدوره منتظرا قدوم القنوات لمشاهدة صورته في التلفاز مساء. هكذا، فإن الذين لم يكونوا قط على الشاشات صاروا يظهرون فيها، لم تعد الشاشة حكرا على السلطة وأتباعها والنخب. صار المهمشون جزءا من المشهد وصوتهم مزلزل.