عمارات بدل مدن الصفيح: تحديث البؤس في المغرب

حين يقوم الملياردير أنس الصفريوي بجولة استطلاعية بإحدى طائراته الخاصة فوق مدن المغرب، يَسعَد من السماء بمئات الأحياء الجديدة التي بناها ويبنيها. وهو حريص على تسمية كل موقع بناه بلغة دينية تفيض إيمانا، فهناك إقامات الضحى، النور، السلام، والبركة... لذلك بارك الله في ثروة أنس فذكرته مجلة فوربيس ضمن أغنياء العالم. من الطائرة يظهر الناس صغارا، بل لا يظهرون حتى، تظهر عمارات تمتد الى
2012-07-03

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
حي باشكو في الدار البيضاء حيث يوجد 43 حيّاً ليسوا كلهم من صفيح لكنهم نُفِّذوا بلا تخطيط أو بنى تحتية (منير أمحيمدات)

حين يقوم الملياردير أنس الصفريوي بجولة استطلاعية بإحدى طائراته الخاصة فوق مدن المغرب، يَسعَد من السماء بمئات الأحياء الجديدة التي بناها ويبنيها. وهو حريص على تسمية كل موقع بناه بلغة دينية تفيض إيمانا، فهناك إقامات الضحى، النور، السلام، والبركة... لذلك بارك الله في ثروة أنس فذكرته مجلة فوربيس ضمن أغنياء العالم.
من الطائرة يظهر الناس صغارا، بل لا يظهرون حتى، تظهر عمارات تمتد الى ما لا نهاية، مكنت المغرب من الحصول على الجائزة الشرفية للإسكان لمنظمة الأمم المتحدة "إسكان 2010" عن برنامجه الوطني لمحاربة السكن غير اللائق. وهكذا تزول مدن الصفيح وتحل محلها عمارات. في ظرف سنتين بنيت في المغرب 800 ألف شقة لا يزيد ثمن الواحدة منها عن 30 ألف دولار وتبلغ غالبا مساحتها 60 مترا مربعا لا أكثر. وهي تقع في الضواحي، بعيدا عن البنى التحتية الأساسية وعن وسط المدينة. ويسمي الكثير من الشبان مثل هذه الأحياء "قندهار". وللإشارة، فلكل حي من هذه الأحياء اسمان، اسم إداري مغسول، "حي الفرح" مثلا، بينما الاسم الشعبي الدال هو "حي عين البومة".

المنظر مختلف من الأرض
وذلك على الصعيدين العمراني والسوسيولوجي: على الصعيد الأول، تمضي "قندهارات الضواحي" سنواتها الأولى بلا مدارس ومستوصفات وسائر الضروريات... وفيها غش في البناء، لذا تسود مشكلات مادية متعلقة بالاقسام المشتركة: الكهرباء والماء والصيانة والصحون اللاقطة وتسرب الماء للجدران التي تفسد سقوف الجيران. وتندلع معارك طويلة، تدوم 20 سنة، وهي مدة دفع "الكمبيالات" ثمن البيت الذي يسميه المغاربة "قبر الحياة". في الحقيقة لم يكن الوضع هكذا في البداية، فعندما زار العروسان الحي أثناء بنائه، كان خاليا ونظيفا وجذابا، لذا اشتريا بفرح. لكن بعد عشر سنوات صار مكتظا لا يطاق، يجري فيه انتهاك الحميمي بسبب الجدران المزيفة التي تصدر صوتا عند لكمها، وكأنها خشبية لا إسمنتية.
على الصعيد الثاني، يسود عدم تجانس شديد بين الجيران، ويلعب الأصل المناطقي والعرق واللهجة أدوارا في تشكيل العلاقات. لا تُعامَل البدوية التي هاجرت مؤخرا باحترام، وتشعر بخوف شديد على زوجها من الجارات المدينيات في العمارة يبقى عطرهن القوي في السلم بعد مرورهن. يلعب الأطفال ثم يتعاركون، فيتدخل الآباء والأمهات، وحينها يتأكد قول تشي غيفارا "تتكشف نقمة الفقراء على مستقبلهم من خلال ردود أفعالهم الحادة". في ظل هذه الحروب، ينتقل الساكن الجديد من نسق عيش يعتمد على انتفاء الخصوصية المفرطة (جيران يتزاورون ويتعاونون) الى نسق تَفرّدي يصبح فيه الجار غريبا أو منافسا أو عدوّا.
يتسبب تغير الوسط السوسيوثقافي في اغتصاب العادات، وفي الأذى النفسي للسكان. ويجبرون على التعايش مع ظواهر غير مألوفة. مثلا يلتقي الزوج التقليدي وأبناؤه المراهقون بالجار الأعزب مصطحباً عشيقته أمام الملأ. وعادة ما تكون العشيقات أجمل وأصغر من الزوجات. والغيرة عامل خطير في السلوك البشري لأنها تولد الاحتكاك. في الطابق الواحد أكثر من أربع شقق. شقق لا تلائم أسر غير نووية. بسبب ضيق السكن، يقضي الرجال جل وقت فراغهم في المقاهي، لذا تجد في المغرب بين كلّ مقهى ومقهى، مقهى. بسبب الضيق والضجيج المتصل، يصير الفرد ساخطاً على حاله، لكن هذا السخط لا يخلق بدائل، فيرتد الغضب على الصحة لينهشها. كثيرون من سكان هذه الأحياء الجديدة انتحروا على الطريقة الغربية: الارتماء من الطوابق العليا.
بسبب السخط على المكان، تُستخدم هذه الأحياء كمهاجع للنوم فقط. ويعاني سكانها من مصاعب النقل العمومي، فالباصات قليلة وغير منتظمة وتعرف ازدحاما شديدا وتسودها مظاهر النشل والتحرش الجنسي. أما التاكسيات المغربية فلا يقل عمرها عن ثلاثين سنة. وهي خربة بشكل لا يصدق، وتفتقر لكل شروط السلامة.

سوسيولوجيا الأقفاص
هناك آثار سوسيولوجية للسكن في عمارات أقفاص، ناتجة من برامج فوقية لا تأخد بعين الاعتبار المشترك السوسيوثقافي للمستفيدين الذين ينتقلون من تصور أفقي لمحيطهم المعيشي إلى تصور عمودي.
فالمستفيد من هذه الشقق، سواء كان فلاحا مهاجرا قطن منزلا منفردا بلا جيران على قطعة أرض ملك له، أو قطن حيا صفيحيا ومنزلا بطابق أرضي مكشوف على السماء، (أي "يرى الله" كما تقول جدتي)، يجد نفسه في الوسط: الجيران تحته وفوقه. يبقى أنه بالنسبة للناس، فالحاجات العاجلة سابقة على السلبيات المستقبلية. والسلطة، عندما تسجل المرشحين للاستفادة، تمنح الأسبقية للمتزوجين. فيتم تزويج الأبناء لزيادة حظوظ الحصول على سكن. في انتظار ذلك تقطن أكثر من ثلاث أسر في شقة من 60 متراً. من تبعات ذلك الاكتظاظ خارج القواعد المألوفة والراسخة للعائلات الممتدة، تكاثر حالات الفوضى في العلاقات الجنسية، وقد ذكرت إحدى الجرائد أن أسرة قاطنة في حي "سيدي مومن" قررت تزويج ابنها الأصغر، البالغ من العمر 19 سنة حتى يستفيد من شقة سكنية أسوة بإخوته. وبانتظار ذلك، سكن الشاب في شقة أبويه الضيقة، ومرة عاد الى المنزل فوجد زوجته ووالده في سرير واحد. وفي حالات أخرى كان الحادث يخص زوجاً مع أخت زوجته الصغرى. وقد تكررت مثل هذه الحكايات حتى غدت مألوفة.

المعطيات
بين عام 2000 وعام 2011 انخفض العجز السكني من مليون و200 ألف إلى 500 ألف وحدة. لكن أزمة السكن ما زالت قائمة. فقد ذكر تقرير لوزارة الإسكان في بداية 2012 أن ساكني الأحياء الفقيرة في المدن ارتفع بنسبة 25%. اذاً سيبقى الطلب مرتفعا على هذه الشقق. خاصة في المدن الكبرى الشاطئية، حيث نشأت مدن صفيح بسبب النزوح من البوادي. أحياء زاد عدد سكانها بسبب توالي سنوات الجفاف منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي، وبسبب التوالد المرتفع لدى الفقراء الذين يعتبرون كثرة الأبناء بمثابة ضمان اجتماعي.
في 2004 كان بالمغرب 1000 حي صفيحي تقطنها 348 ألف أسرة موزعة على 85 مدينة. وفي 2011 ذكرت إحصاءات "وزارة السكن والتعمير وسياسة المدينة" أنه تم القضاء على أحياء الصفيح في 43 مدينة، ونقل أكثر من 177 ألف أسرة. ويجري حالياً نقل 13200 أخرى.
وغالبا ما يطال النقل والهدم وإعادة الاستثمار مواقع استراتيجية، بمعنى إطلالها على البحر أو وقوعها في قلب المدينة أو على خطوط مواصلات أساسية. وأما المنقولون فيذهبون الى أماكن أبعد وأكثر طرَفية. وتحل مكان مدن الصفيح التي جرى "تحريرها"، عمارات راقية أو مشاريع تجارية. وفي الدار البيضاء تحديداً أعيد استخدام الامكنة ذاتها لبناء عمارات سكنية، تلافيا للاحتجاجات.
وقد جرى تسريع محاربة مدن الصفيح بعد تفجيرات 16 أيار/مايو 2003 الإرهابية، والتي خرج منفذوها من حي سيدي مومن بالدار البيضاء... فكان لذلك منافع على السكان الذين استفادوا بسرعة قياسية من عمارات جديدة. وهو بند قائم في خطة "سياسة محاربة الإرهاب". وإن تقلصت أحياء الصفيح، إلا أن "سور العار" الذي يخفيها عن عابري الطريق السيار ما زال موجودا في الدار البيضاء.
بالأرقام، تبلغ مساحة المدن 2% من مجموع مساحة المغرب. أي أن 98% من الاراضي غير مبنية. فمن أين تنبع اللاعدالة العقارية؟ وهل هناك نقص في الوعاء العقاري في المغرب؟
لا. هناك خلل في توزيعه. فلأن العقار هو مجال للادخار ولتبييض الأموال، فإن هناك مئات الآلاف من المنازل والشقق المغلقة، يحتاط بها أصحابها من "تقلبات الدهر". في جل الأحياء، ما زالت البقع الموجودة في نقاط استراتيجية بالمدن دون بناء، بقع حصل عليها أصحاب نفوذ تملكوا الأرض خارج قانون السوق، بالريع وما يسمى "التفويتات" (وهي صفقات تحت الطاولة). وقد أكد تقرير جمعية "الشفافية" أن الرشوة تنخر قطاع العقار وتتسبب للدولة بخسائر مهولة بسبب التهرب الضريبي وتسجيل الأراضي بغير ثمنها الحقيقي في السوق. من عجائب ذلك أن شركة عقارات حققت ما يعادل 97% ربحاً من أصل رأسمالها في عام واحد.
هذا لم يحصل صدفة. هناك سلطة تقرر الأراضي التي ستصير مناطق حضرية. في 1980، عندما تولى أحدهم رئاسة بلدية مدينة "تيفلت" قرب العاصمة الرباط، كانت مزرعته تبعد عن المدينة خمسة كيلومترات غربا. خطط لتنمو المدينة باتجاه مزرعته. بعد 20 سنة صارت أرضه محاطة بالفيلات. في 2002، صارت الرئاسة في يد مليونير يسكن شرق المدينة، حينها بنيت ثانوية في محيط أراضيه وأزيلت أحياء الصفيح في المنطقة، فتغير المجال وغلا سعر الأرض. واضح أن اختيار مسار طريق أو مكان بناء مؤسسات عمومية يغير مصير الكثير من الأشخاص. يصير البعض غنياً جداً. بملاحظة مثل هذه الوقائع، أدرك الأفراد أن الفقر والغنى لا يفسران بالقدر أو بالحظ، بل بعلة سياسة تمارسها جهات معينة.

...والانتخابات
تقبع خلفيات اقتصادية وسياسية خلف القرارات والمخططات العقارية. وغالبا ما تكون النتيجة ضد الفقراء. تاريخيا، كانت مسائل السكن والتعمير في المغرب تحت سيطرة وزارة الداخلية. فتقطيع الدوائر الانتخابية يركز على أحياء فقراء توفِّر كتلة ناخبة يسهل شراؤها أو توجيهها. هنا يظهر وزن الديموغرافيا في السياسة. وما السياسة إلا تدبير هذه الديموغرافيا. من نتائج حيل وزارة الداخلية تضخيم عدد الناخبين في دوائر المدن التي لا حظّ فيها للأعيان. لذا نجد برلمانيا نجح بـ 40 ألف صوت وآخر نجح بـ 1250 صوتا. وهذا بسبب تقطيع الدوائر الانتخابية. فحين يكون الناخبون متجانسين والمرشح محظوظا، تصمّم له دائرة انتخابية فيها 20 ألف ناخب. وحين تكون الساكنة غير قابلة للتحكم والمرشحون مغضوباً عليهم، تصنع الداخلية دوائر انتخابية فيها 300 ألف ناخب... ما يصعّب الدعاية الانتخابية.
آخر تطبيق لوقع العمران في السياسة: خلال 2011، وبفضل حركة الاحتجاجات العامة المرافقة لما يسمى هنا "الربيع العربي/ الأمازيغي"، بُني أكثر من 40 ألف منزل غير قانوني في ظل الاحتجاجات في كل المغرب. وقد صمتت السلطة عن ذلك، انحنت للعاصفة ولم تشرع في هدم هذه المنازل إلا بعد تشكيل حكومة الإسلاميين.
بمثل هذه الممارسات، يتأكد أنه بينما يواجه الفقراء مصيرهم في شقق كأقفاص، يقوم مهندسو المشهد باستثمار محنتهم كخزان انتخابي يدر ربحا سياسيا. لكن تطور وسائل الإعلام وتأثيرها يزيد من وعي هذا الخزان ببؤسه. ومنه يخرج الشباب الغاضب الذي يغير الآن وجه المنطقة ومستقبلها.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه