موريتانيا: تغير العلم، فماذا بعد؟

صار لموريتانيا الواقعة في ذيل كل قوائم مؤشرات التنمية، والمتصدّرة للدول الأكثر فقراً (31 في المئة فقراء) وفساداً (في المرتبة 142 عالمياً)، علمين ونشيدين.. وزادت بهذا الانقسام الجديد مشاكلها..

2017-11-01

أحمد ولد جدو

كاتب ومدون من موريتانيا


شارك
المختار ولد البخاري "موخيس" - موريتانيا

موريتانيا هذه الأيام في حالة انقسام حاد وجدل صاخب، نتيجة للنقاش الذي سبق وتلى التعديلات الدستورية الأخيرة، في شهر آب/ أغسطس المنصرم، التي أفضت إلى تغيير علم البلاد ونشيدها (والنشيد لا يحتاج لتعديلات دستورية أصلاً)، وإلغاء مجلس الشيوخ وإنشاء مجالس جهوية، وقضايا أخرى. وقد حدثت التعديلات في ظلّ مقاطعة المعارضة التاريخية وقمعها بشدة.

 

عن التزوير والانقسام

 

ولدت هذه التعديلات من رحم الرفض. فقد أسقطها مجلس الشيوخ الموريتاني حين عرضت عليه، لكن السلطة أصرّت على التوجه للاستفتاء الشعبي، وهو ما تعرّض للكثير من الانتقاد من قبل الفقهاء الدستوريين، الذين اعتبروا أن التوجه للاستفتاء بعد إسقاط مجلس الشيخ لمقترح التعديلات هو مخالفة صريحة للدستور.
وسارت أحزاب المعارضة على الرأي نفسه، وقالت إنه علاوة على خرق الدستور فهذه التعديلات مقدمات لتعديلات أخرى قد تصل لتغيير الدستور بمجمله، وتلغي المواد المتعلقة بتحديد المأموريات الرئاسية، متهمة السلطة بأنها تغيّر مرتكزات وطنية خارج الإجماع الوطني وبطرق غير دستورية. فالطريقة التي تمّ بها ذلك، والخطاب الرسمي الذي سبقها، يهدد نسيج الشعب. فقد سبقت هذه التعديلات حالة من الاستقطاب الجهوي والقبلي، والاتهامات بالعمالة للمستعمِر والتخوين، طالت "رموزاً" شعبية وشخصيات تاريخية ودينية، وحتى جهات ومكوِّنات اجتماعية، اتهمت السلطة بتبني تلك الحملة وأنها اختارت أن "تزرع الفتنة". كما أن بعض النخب الدينية وقف ضد هذه التعديلات، كالعالم ابراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديا الذي كتب ضدها وانتقد تطبيل بعض العلماء لها وللنظام، وقال في رسالته: "وعهدي بالعلماء والحكماء أن يكونوا نَصَحَةً للحكّام، صادعين بالحق، أبعدَ الناس عن المداهنة والتزلف، وعن لَىِّ أعناق النصوص، والكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولقد بلَوْت فى هذه الأعصر، ما يدَع الحليم حَيران، من مخالفة الفريقين فى هذه السبيل، لِما أقرَّته أصول الملّة، وأجمعت عليه الأمة. حتى إذا هلك الناس، وأجدبت الأرض، وغلا السعرُ، واستفحل القتل والاغتيال، وانتشر الاغتصاب بشكل مروّع لم يسبق له مثيل، وطفَح كيل المخدرات، وصار المغْنَم دُوَلاً، والغلول مفخرة، والورع عن المال الحرام سُبّة وخَوَراً، واحتدّ الفقر والبؤس والمرض، واستحكمت حلقات النوائب والآزام من كل جانب، وعلى كل صعيد، وبلغ السيل الزُّبَى، وتجاوز الحِزام الطُّبْيَين، نادى منادى الحكم أن هلُمُّوا إلى تغيير علَمكم بوضع خطين أحمرين، والاستفتاء على تغيير موادّ من الدستور! وسيتلو ذلك تغييرُ نشيدكم، فإنه - وإن نصر الله ورسوله - لم ينصر الوطن وطلوله. فمأموريةٌ ثالثة أو رابعة... فإن ثلة من المتحدثين باسم نظام الحكم قد صرّحوا بذلك، وآخرهم من صرَخ بأعلى صوته ثلاثا بين ظهْرانَي مستقبِليه قائلا: إنّا باقون، إنا مستمرون! ".

 

أصّرت السلطة على موقفها وعلى فرضه، وعندما دخلت المعارضة في سلسلة من الاحتجاجات الشعبية في العاصمة نواكشوط وبعض مدن الداخل، كان الردّ هو القمع..

 

وقال في موضع آخر من رسالته: "قد دعَا بعض الأئمة فى خطبة الجمعة، قبل يومين، إلى المسارعة إلى التصويت بـ"نعم"، وصمَتوا عن حصار الأقصى ومنع الصلاة فيه، وقتل المسلمين فى رِحابه! وسكتوا عن أوضاع شعبهم البائس، بل دأب كثير من متفقهتنا على تلميع الصورة، وتسويغ كل ما نحن فيه من طامات وبلايا( فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون. فأيّ إسلام هذا؟ وأيّ أئمة هؤلاء؟ وأيّ علماء..".
لكن السلطة أصرّت على موقفها وعلى فرضه. وعندها دخلت المعارضة في سلسلة من الاحتجاجات الشعبية في العاصمة نواكشوط وبعض مدن الداخل، كان الرد غالباً هو القمع. وقد اتهم رأس السلطة، محمد ولد عبد العزيز، الشيوخ الذين صوتوا ضد تلك التعديلات بأنهم "خونة ومرتشين". ولاحقاً، بدأ التحقيق معهم، وتم توقيف وحبس أحدهم بتهمة" الفساد العابر للحدود"، وهو الاعتقال الذي اعتبرته منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها صدر بعد شهرين من اعتقاله، بأنه غير قانوني بل سياسي، خاصة أنه لم يقدّم لحد الآن للمحاكمة، بالإضافة للتحقيق والاستدعاء المستمرين بحق مجموعة من الصحافيين والنقابيين المحسوبين على المعارضة.


اقرأ أيضاً: هل حقاً المعركة في موريتانيا حول "الإلحاد"؟


وكان قد شاب الاستفتاء الكثير من التزوير التقني واستخدام الترغيب والترهيب مع المواطنين، خاصة الموظفين منهم، وقدمت الكثير من الشهادات حول التزوير كتصويت الأحياء عن الأموات، والتصويت بالنيابة، كأن يصوت الرجل عن المرأة، والتصويت بدون بطاقة تعريف، وقد انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مناشير وفيديوهات بها شهادات حول ذلك. وكتب الناشط الموريتاني محمد فاضل حميلي على صفحته شهادة حول التصويت باسمه في قريته رغم وجوده في قطر: "في انتخابات 2013 سجلتُ في قرية تابعة لبلدية بتلميت وأدليت بصوتي هناك. وقبل شهرين تقريباً جددت التسجيل على اللائحة الانتخابية في سفارة موريتانيا بالدوحة، وذهبت بطاقة الناخب مع مبعوث اللجنة المستقلة للانتخابات إلى نواكشوط. وقبل ربع ساعة أخبروني أنني أدليت بصوتي بمكتب تصويت في مركز "الهياكل" بمقاطعة تيارات في الوقت الذي كنت أوجد فيه قريباً من كورنيش الدوحة".
وكتب الصحافي أحمد ولد المصطفى أيضاً شهادة حول التصويت باسمه دون علمه: "بشروني الآن أنني صوت على الإصلاحات الدستورية - هكذا قالوا - وأن تصويتي كان بالإيجاب، أي نعم.. المكتب الذي صوّتُ فيه أبعد عنه - جسديا - 220 كلم".

 

انتهت معمعة الاستفتاء وفرضت السلطة أجندتها، لكن الاستقطاب لم ينتهِ بل زاد، والشرخ ترسّخ، ومن نتائج الاستفتاء أن موريتانيا اليوم أصبحت دولة بعلمين ونشيدين..

 

ولم يختلف الوضع بالنسبة لعابدين بدي، الذي كتب شهادة حول التصويت نيابة عنه: "أن يَقُوم أحدهم بمصادرة رأيك ويُدلي بصوتك غائباً فذلك لعمري قمة الإحتقار، هذا ما وقع معي بالأمس حينَ مزقتُ بطاقة الناخب مكاني صباحاً وأعتقدتُ أن الأمر انتهى ولن يستطيع أحدٌ أن يصوت نيابة عني ثم فوجئتُ باتصالٍ يُخبرني أن عملية التصويت تمّت".
ولوحظ أيضا عزوف المواطنين عن مقرات التصويت على عموم البلاد، وخاصة في العاصمة والمدن الكبيرة، وهو ما جعل النظام يزوِّر حتى يرفع نسبة المشاركة في الاستفتاء.

 

موريتانيا بين علمين ونشيدين

 

انتهت معمعة الاستفتاء وفرضت السلطة أجندتها رغم تحرك المعارضة، وبقمعها. لكن الاستقطاب لم ينتهِ بل زاد، والشرخ ترسّخ. فمن نتائج الاستفتاء أن موريتانيا اليوم، أصبحت دولة بعلمين ونشيدين، علم الاستقلال الذي يمثل قصة الدولة الحديثة وسرديتها المؤسسة، ويلامس وجدان الكثير من نخبها وشعبها الذي لا يرى أن هناك داع لتغييره، بل يعتبرونه تجديفاً وهروباً من الأولويات، فهو أكثر الرموز التي تربطهم ببعض، وقد مات بعض أبناء هذا البلد تحت ظلّه، وهو حال النشيد الأول، وعلم الاستفاء الأخير الذي تم في ظل الاستقطاب الحاد ووسط القمع والاتهامات بالتزوير وعدم الدستورية، وهو حال النشيد الجديد. إذاً نحن أمام علمين ونشيدين، علم ونشيد النظام الحالي الذين فُرضا، وعلم ونشيد يمثلان الكثير من المواطنين الذين يعتبرون أن تغييرهما كان بعيداً عن الشرعية.



وهذا ما يزيد مشاكل موريتانيا. فبالإضافة للمسألة العرقية والطبقية ومخلفاتها وجروحها الغائرة غير المندملة حتى اللحظة، زاد الانقسام وأصبح للبلد سرديتين متنافرتين... موريتانيا الواقعة في ذيل كل قوائم مؤشرات التنمية والمتصدرة للدول الأكثر فقراً وفساداً (نسبة الفقر 31 في المئة) والتي تحتل الرتبة 142 عالمياً حسب مؤشر "إدراك الفساد" لعام 2016 الصادر عن "منظمة الشفافية الدولية"، وحلت في الرتبة 137، أي قبل الأخيرة، في مؤشر التنافسية العالمي لعامي 2016 – 2017، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي.

مقالات من موريتانيا

للكاتب نفسه