كردستان العراق: الجنوح إلى السلم

كفى العراق حروباً ومعارك عسكرية. النصر الفعلي اليوم هو بإنجاح التفاوض مع الأكراد وبالاتجاه إلى ترتيبات قارّة، باعتبار أن التفكير هو أولاً بمصلحة البلد المنكوب.. كل البلد.

2017-10-26

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
ضياء العزاوي - العراق

لم يبق أحد على سطح الكرة الارضية لم ينصح مسعود البرزاني بالتراجع عن إجراء الاستفتاء قبل وقوعه، وكانت النوافذ مفتوحة لمخارج.. رفضها كلها، وأمعن، وأوحى لناسه بأن نتيجة الاستفتاء (92 في المئة من المصوتين لاستقلال كردستان) هي انتصار مجيد يستحق رقصاً في الشوارع وتظاهرات بالسيارات، تذّكر بما يحدث في نهائيات بطولات كرة القدم العالمية. الجميع عدا إسرائيل، وبعض أزلامها، من الفرنسيين خصوصاً، وأبرزهم "بطل" التضامن مع الاكراد، برنار هنري ليفي، الفيلسوف كما يُعرَّف، وصاحب فيلم "بيشمركة" الدعاوي في 2016، والذي لم يفوِّت فرصة لفرْد خيلائه المريضة، من ادعاءاته بخصوص "دوره" في أفغانستان إلى دخوله مع القوات الإسرائيلية إلى مخيم جنين 2002. وهو يُذْكر هنا ليس تندراً وتسلية (مؤكّدَين!)، بل لأن الرجل هو من بين أكبر ناصحي البرزاني الحمقى..
ولكن ليفي ليس مسؤولاً بالطبع عن خطيئة البرزاني. هذا تخيّل أنه يحفر اسمه في التاريخ كصاحب اللبنة الأساسية في تحقيق "الحلم الكردي"، مستغلاً الإنهاك الذي يعانيه العراق بعد كل الاهوال التي عاشها، وآخرها كلفة معركة طرد داعش. والبرزاني بذا أثبت للمرّة الثانية ــ على الأقل ــ أنه لا يأبه للبلد إن لم نقل إنه معادٍ له. فهو قبل ذلك استغل استيلاء داعش على الأراضي العراقية في 2014 ليتمدد هو الآخر خارج حدود إقليم كردستان. وكانت في الأمر حسابات تتعلق بالنفوذ وبالمال. وهو لطالما قلّد أساليب صدام حسين في تغيير التركيبة الديمغرافية لمناطق بعينها، وقام بذلك في ما يسمى "المناطق المتنازع عليها"، سواء بالقوة والطرد والتنكيل بحق الآخرين، أو باعتماد تدابير مفتعلة كنقل القيود وتسجيل المواليد الجدد الخ..
وأما المال.. فقد كان معلوماً أن حكومة الاقليم تستولي على شتى أنواع العوائد، الشرعية منها وغير الشرعية، تلك التي تأتي على شكل حصة مقررة من الميزانية العامة للبلاد وتلك الأخرى المرسلة على شكل مساعدات دولية واقليمية، وأيضاً التي تأتي على شكل "استثمارات" هي أقرب إلى الرشاوي منها إلى الأعمال، هذا عدا التهريب وسائر الموبقات. أنتج كل ذلك حسابات سريّة وفقاعة هشّة تتلخص بمباني أربيل الفخمة ومؤسساتها، فيما سائر المناطق الكردية فقيرة ومتروكة. سُرقت تلك العوائد إلى حد أنه تبين عدم وجود أي احتياطي مالي، وأنه يكفي أن تُوْقف الحكومة المركزية تحويلات الرواتب حتى يتضوّر الناس جوعاً بالمعنى الحرفي للكلمة.
طبعاً "السرقة تنكشف حين يتقاتل الحرامية". فها حسين الشهرستاني الذي كان وزيراً للنفط في 2006 ثم نائباً لرئيس الوزراء لشؤون الطاقة في عهد حكومة المالكي الثانية، يقول إن إيرادات كردستان من النفط بلغت 51 مليار دولار منذ 2008.. مما استوجب رداً كردياً عليه بالأرقام، يفند الرشاوي التي نالها هو شخصياً والسرقات التي ارتكبها المالكي نفسه.


اقرأ أيضاً: كَذّب وصدق كذبته!


المهم.. كل هذا في كفّة وما يجري الآن في كفّة أخرى. البرزاني تراجع وأعلن عن استعداده لـ"تجميد" نتائج الاستفتاء (والله أعلم ما الذي يعنيه ذلك قانونياً وسياسياً)، وأرسل وفداً إلى بغداد للتفاوض. ولكنه مدعو للاستقالة من قبل قوى أساسية كردية، باعتباره مسؤولاً عن الموقف الذي أعطى للحكومة المركزية غطاء شرعياً لتجريد حملة عسكرية استولت على كركوك (50 كيلومتراً عن أربيل) وعلى حقول النفط وعلى معظم سهل نينوى. حملة لم تتوقف بعد، وإن كانت حتى الآن أرجعت البيشمركة إلى حدود 2014.. ومسؤولاً عن عزلة سياسية كردية عامة، ما يتجاوز إغلاق المطارات والمعابر من وإلى كردستان العراق، ووقف تصدير النفط، وتجميد الأموال النفطية الكردية في تركيا.. إلى آخر سلسلة ممتدة من التبعات. وقد قيل إنه لا يحتاج للاستقالة لأن "مدة ولايته" على وشك الانتهاء (ألم نقل إن هذه الوضع مليء بالطرافات؟!). ولكن كل هذا يدخل في نظام الاشياء المعهود.
الخوف في مكان آخر: أن تتمكن الولايات المتحدة من نسج مأزق جديد للعراق. أولاً لأنها لا تطمئن أبداً لوجوده متماسكاً حتى وإنْ حكمه أناس "متفهمون لمصالحها". وثانياً لأنها تعتبره إحدى بوابات مناكفة إيران والصراع معها، وثالثاً لوقوع السلطة في الولايات المتحدة بيد فريق من العسكريين المجانين الموصوفين بأنهم من عتاة الميل إلى الحروب.
وهناك طبعاً الحزازات الاقليمية ومشاعر التوجّس والغيرة من العراق، التي يصعب الاقتناع بأن زيارات إلى الرياض وأنقرة ستكفي لتهدئتها. وهناك التبجح الإيراني بالإمساك بخيوط بغداد ومصائر البلد، وكيف أن امبراطوريتهم تتحقق فيها وفي سوريا، كما فعل وزير الدفاع الإيراني مؤخراً.
ولكن على كل هذه، فأخطر ما يواجه العراق اليوم هو أن يزِّين "أحدهم" للعبادي بأن هناك فرصة لمزيد من إضعاف الأكراد ومن استغلال سقطتهم للتخلّص من وجع رأس يمكن أن يتكرر، وكذلك ربما لحصاد مزيد من الميداليات في ظل صراع فعلي على السلطة وانتخابات عامة مرتقبة.
لا! كفى العراق حروباً ومعارك عسكرية. النصر الفعلي اليوم هو بإنجاح التفاوض مع الأكراد وبالاتجاه إلى ترتيبات قارّة وبالتفكير أولاً بمصلحة البلد المنكوب.. كل البلد.



مقالات من العراق

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...