لو أن كل مجموعة ثقافية أو لغوية أو عرقية.. قررت الاستقلال بنفسها عن الإطار الذي انتمت إليه، سواء تاريخياً أو بحكم الظروف، لتفتتت كل الدول القائمة اليوم في العالم. ثم لعاد كل كيان جديد الى التفتت من داخله لحد التذرر، بناء على اختلافات قبلية وجهوية ودينية و"طموحات" فردية وأطماع.. مما لا حصر له ولا آخر، مثلما في مسرحيات الأخوين رحباني الاولى حيث هناك دوماً حارتين متصارعتين في أصغر قرية..
سوى أن الدول لا تقوم على أساس التجانس، اياً كان، حتى يكون لكل جماعة الحق الدائم في اختيار الانسحاب منها ساعة تشاء. في الكتب، الدولة الحديثة هي نتاج عقد توافقي بين المواطنين (الافراد)، يستولد تلك "الوطنية" المجسَّدة في علم ونشيد ومؤسسات سيادية، مهما تفاوتت الصيغ وتغيرت درجة الانصهار المطلوب. وفي الواقع، فهي نتاج سياق اقتصادي ــ اجتماعي استُولِد بشكل قسري وعنفي في الاغلب، توحيداً للمقاطعات.. وللاقطاعيات.
تزامُن الاستفتائين، الكردي العراقي والكاتالوني، يستحضر تلك الحقيقة، بل ما نعرفه من نزعات للاستقلال لمجموعات شتى في فرنسا وايطاليا على سبيل المثال، وهما جارتا إسبانيا الاقرب.
وبخصوص إصرار مسعود البرزاني على تثبيت "رغبة" الكرد في الانفصال عن العراق (بنسبة 92.7 في المئة من المشاركين في الاستفتاء!)، وسواء أعلن ذلك الانفصال أو ابقاه تحت إبطه مستقوياً بنتائجه. فهناك عدة فرضيات، أرجحها أن الرجل إنما يبتز سلطة بغداد ليفاوضها على مزيد من المغانم. يبقى أنه يمكنه "التفرعن" هنا مستغلاً تعاقب المآسي على البلاد منذ عقود، وآخرها الحرب الطويلة ضد داعش، ومستغلاً التفاهة المديدة للسلطة المركزية التي جاء بها الاحتلال الامريكي وراحت تتصرف كعصابة نهب فحسب، بلا أي انشغال بالبلاد وبأهلها، متوسلة استنفار أحط الغرائز المذهبية كستار على سوئها: "باسم الدين باكونا الحرامية" (أي سرقونا) كما قالت تظاهرات في جنوب العراق منذ عامين.
بارزاني يتوسل أيضا تواطؤاً مديداً بينه وبين تركيا، قام على "البزنس" من جهة، الذي كشفته رسمياً السلطات التركية نفسها منذ أيام إذ سلمت بغداد حسابات النفط المهرب المخبئة في بنوكها. وهو تواطؤ يقوم أيضاعلى صفقة الدعم التركي له مقابل تضييقه على حزب العمال الكردستاني، عدو السلطة المركزية التركية منذ عقود.. وهنا لا بد من استحضار أنه حتى أمس قريب كان الإعدام نصيب من يقول "أنا كردي" في تركيا أو ينطق بالكردية، وكانت حرب عسكرية مستعرة، ذهب ضحيتها الآلاف على مدى سنوات طويلة، عدا أعداد هائلة من المعتقلين. والكرد في تركيا أكثر من 14 مليون، وهم بعيدون بُعد السماء عن الأرض من نيل أي حقوق لهم كجماعة، وبالكاد جرى الاعتراف بوجودهم.
إقرأ أيضاً: الانفصال.. المشنقة الكردية للإفلات من التاريخ
.. وحالهم في إيران (وهم فيها أكثر من 6 ملايين) ليست أفضل من ذلك بكثير. فيما الكرد العراقيون يتمتعون منذ زمن بالاعتراف بهم بصفتهم تلك، وهو حق لهم بالطبع. وفي زمن صدام حسن كان أحد نائبي الرئيس كردياً حكماً، واليوم فرئيس الجمهورية في العراق كردي، واللغة الكردية معترف بها كاللغة الوطنية الثانية في البلاد منذ عقود طويلة، وإدارتهم الذاتية لشؤون مقاطعتهم متقدمة الى حد تجاوز ما ينص عليه الدستور من تجنب للشؤون السيادية. وهم على ذلك يَذْكرون بمناسبة أو من دونها "حلبجة" وكأنها مظلمة "عربية" بحقهم، وكأنهم وحدهم من تعرض لمذابح في ذلك العراق..
وقد توجوا كل ذلك باقامة علاقات متقدمة مع إسرائيل، التي تشجعهم ــ طبعاً ــ على الانفصال، وحدها دوناً عن سائر العالم، وهي التي اعتبرت العراق عدوها الاول، بغض النظر عمن يحكمه، إذ ترى فيه امكانات متضافرة. وقد عملت بلا كلل، في السر وفي العلن، وبكل الوسائل الحربية والسياسية والاستخبارية، على تدمير تلك الامكانات وعلى تدمير العراق نفسه.. وها هو البارزاني، باسم الكرد العراقيين، يمنحها وسيلة جديدة تضاف الى ما سلف، وهو ما لا يُغتَفر.
يعلم البارزاني علم اليقين أنه لا دولة كردية مستقلة ستقوم في شمال العراق، وأن الاستفتاء ليس خطوة أولى باتجاهها. وأن ازدهار أربيل الكرتوني ــ أو ما تبقى منه ــ سيذهب أدراج الرياح عند استقرار الأزمة التي صنعها بيديه. وأنه لن يسيطر على كركوك، ولا على ما يسميه "المناطق المتنازَع عليها"، وتلك التي استغل أزمة داعش للتمدد اليها.. وأنه لو أمعن وتسبب بمواجهة عسكرية فسيجر الويل على الاكراد المساكين قبل غيرهم. وهو سيسبب للكرد العراقيين، حتى من دون مواجهة عسكرية، مصاعب حياتية تعيدهم الى البؤس المعيشي المريع الذي بدا أنهم تخلصوا منه. بل هو سيجلب مصيبة عامة على كل اكراد المنطقة الذين سيعانون المزيد من التضييق من دولهم، والخضوع للريبة والتنكيل. فتباً له من سياسي فاشل، وتباً له من "وطني" كردي فاشل!