طُرحت مسألة الفصل العنصريّ في فلسطين في عددٍ هائل من المؤلّفات والكتابات، تركّز الجزء الأكبر منها على الفصل العنصريّ باعتباره نظاماً سياسياً وقانونياً رسمياً، ومن خلال النظر في طبيعة النظام الإسرائيلي، وكذلك بالمقارنة مع نظم سياسيّة أخرى، مثل نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا وقوانين الفصل العنصري في الولايات المتّحدة وغيرها. من جهةٍ أخرى، لاقت هذه الأدبيّات نقداً باعتبارها تشدّد على القيم الحقوقيّة في الوضع الراهن، من دون تأصيل الحالة السياسية بسياقها التاريخي، ومن دون التطرّق إلى الجوهر الأيديولوجي الاستعماريّ للصهيونيّة، ومع تهميش مسألة اللاجئين، والتعامل مع النكبة ومع وجود إسرائيل كتحصيل حاصل لا رجعة عنه.
وعلى الرغم من أهميته، أدّى هذا العمل البحثي إلى جمودٍ معيّن في مفهوم الفصل العنصري، وإلى تفوّق "المفهوم العلمي" للمصطلح على معانيه الاجتماعية أو الأخلاقية، وأثره الفعلي على الناس، وغاياته السياسية، ومقدرِات العمل على مواجهته. وتَوافق هذا التوجه الفكري مع تبدّل الرؤية الأصلية في فهم إسرائيل: من كونها مشروعاً استعمارياً إلى كونها دولة، من كونها أيديولوجيا استعلائيّة عنصريّة تبني نظاماً معيناً لخدمة وإدارة أهدافها، إلى كونها دولة ذات أسس حكم تتنافس فيها التيّارات السياسية على السلطة. وبالطبع، فذلك مرتبط بتحوّلات كثيرة في طموحات حركة التحرر الفلسطينيّة. وللمفارقة (المستهجَنة!)، فقد قابلت هذا التوجه أصوات تقلل من شأن الفصل العنصري وتعتبره أقل خطورة من الاستعمار أو مختلفاً عنه!
أما بالواقع، فإن مبدأ الفصل العنصريّ ميزة جوهريّة تلازم الاستعمار. وعلى الرغم من محاولات النظام العنصري والقمعي في الولايات المتّحدة لأمريكية (مثلاً) تبرير الفصل، وفك الربط بينه وبين الاضطهاد بواسطة النظرية القانونية " مفصولون ولكن متساوون" ("Separate But Equal")، إلّا أنّ الفصل ليس هدفاً بحدّ ذاته في أيّ حالٍ من الأحوال، وميّزات الوعي العنصري والاستعلاء، و"الطهارة العرقيّة"، أنها حتّى وإن تغلغلت في وعي المجتمع الاستعماري وتعابيره، فهي ليست مُنزّلة ولا مولودة مع هذا المجتمع، بل متشكلة من دوافع الهيمنة السياسية للسلطة. ليس الفصل العنصريّ إلا وسيلة لغاية تمكين السيطرة والاستحواذ على السلطة وسلب الموارد، وليس بحدّ ذاته دافعاً أيديولوجياً حتّى وإن ظهر كذلك على مستوى الخطاب. فلا يوجد في العالم فصلاً عنصرياً متكافئاً، ولا فصلاً يُعطي مجموعة إثنية حقوقاً كاملة شرط ألا تقترب من الإثنيّة الأخرى. ويذكّر ذلك بنقاشٍ فلسطيني لاستبدال مصطلح "جدار الفصل العنصريّ" بمصطلح "جدار الضمّ والتوسّع"، وكأنّ الفصل العنصريّ ممكن من دون سلبٍ ونهبٍ واضطهاد. فالفصل، بالحقيقة، هو عملية عزل فيها فاعل ومفعول به. ولا عزل من دون مراقبة وتحكّم وتضييق وتركيز للمجموعات المستضعَفة (في غيتّو، أو بانتوستان أو أحياء فقر، أو مخيّمات)، وبالمقابل سرقة الموارد واحتكار السلطة السياسية ناهيك عن الاستعباد بأشكاله التقليديّة والحديثة، (وللباحثة الإسرائيليّة إيفا إليوز وصفاً هاماً لعمالة الفلسطينيين في إسرائيل باعتبارها "عبوديّة حديثة"). لذلك، لا بدّ من التعاطي مع مسألة الفصل العنصري باعتبارها منهجية عزل مادي وسياسي للفلسطينيين، وليس باعتبارها خوض في شكل النظام السياسي لإسرائيل. والبحث، بناءً على هذا، على الأساليب المركبة وغير المباشرة التي يستخدمها الاستعمار لعزل الفلسطينيين وإخضاعهم.
أشكال جديدة للفصل العنصريّ
واحدة من النظريات التي برزت في السنوات الأخيرة بين المناضلين السود في الولايات المتّحدة هي نظرية الباحثة ميشيل الكسندر التي أُطلق عليها أسم ،“New Jim Crow” نسبة إلى قوانين حقبة "جيم كرو" القديمة التي صممت الفصل العنصري في الولايات المتّحدة بدءاً من القرن التاسع عشر وحتّى إبطالها في العام 1965. وتدّعي هذه النظرية استخدام أساليب "حديثة" للفصل العنصري في الولايات المتّحدة، وتركّز على استخدام "مكافحة الجريمة" و"الحرب على المخدّرات"، من أجل زجّ نسب عالية جداً من الرجال السود في دائرة الجريمة والملاحقة.
تَوَافق التوجه الفكري لتغليب المفهوم "العلمي" للفصل العنصري مع تبدّل الرؤية الأصلية في فهم إسرائيل: من كونها مشروعاً استعمارياً إلى كونها دولة، من كونها أيديولوجيا استعلائيّة عنصرية تبني نظاماً معيناً لخدمة وإدارة أهدافها، إلى كونها دولة ذات أسس حكم تتنافس فيها التيّارات السياسيّة على السلطة..
وبحسب الإحصائيّات الأمريكية، فإن واحداً من كلّ ثلاثة ذكور سود سيدخل السجن مرة واحدة على الأقل خلال حياته. وبالمعدّل، واحد من كل تسعة شبّان (20-34 عاماً) موجود بالسجن في كل وقت معطى. ويقدّم كتاب الكسندر سرداً طويلاً لشبكة كبيرة من السياسات والقوانين والممارسات التي تدفع باتجاه عزل أعداد هائلة من الرجال السود داخل السجون وإقصائهم عن الحياة العامة. وعلى اختلاف فلسطين عن هذا النموذج وسياقه (دون الاستخفاف بالتشابهات أيضاً)، فإن نظريّة الكسندر بشأن "الحبس الجارف" للسود كوسيلة فصل عنصري تُحيلنا إلى عدّة جوانب قلّما نتطرق إليها في بحث الفصل العنصري في فلسطين، ومنها: مبرّرات الفصل، ديناميكيّته، والفئات العمريّة المستهدفة فيه.
مبرّرات الفصل العنصريّ
يُمْكن تطبيق الفصل العنصري بمبرّرات قانونية وسياسية لا تجاهر بالخطاب العنصري والاستعلائي: مثل النجاعة الإدارية، أو الخصوصيّة الثقافية، أو "النزعات الإنعزاليّة للأقليّات" (وذلك دون الأخذ بعين الاعتبار أسباب هذه النزعات ودوافعها)، وما شابه.. وحديثاً، يعتمد الفصل العنصري على خلق البنية التحتيّة المادية لحالات اجتماعية كارثية تستوجب "حلولاً جراحية" يقدّمها النظام السياسي، على أن تكون هذه "الحلول" سياسات تكرِّس العزل والتحكّم العنصريين. يرافق ذلك تجاهل الغبن التاريخي، واتهام الضحايا بأنّهم يعيشون في الماضي حين يذكّرون بأسباب ما وصلوا إليه من كوارث اجتماعية. وتُصبح هذه "الحلول" هي الإمكانيّة الوحيدة للخروج من الأزمات. فمكافحة الجريمة في الولايات المتّحدة التي يفترض بها أن تكون مشروعاً إصلاحياً، يرى بها المجتمع الأفريقي الأمريكي رمزاً لأهوال التمييز الحديثة.
وداخل الأراضي المحتلّة عام 1948، ومع الانتشار المرعب للسلاح وللعنف وجرائم القتل شبه اليومية في القرى والمدن الفلسطينية، تطرح إسرائيل "حلولاً" تعتمد بالأساس على زيادة مقرّات الشرطة وإدخال المزيد منها إلى البلدات العربية، وحتى ولوج الشرطة إلى داخل جهاز التعليم وتوطيد العلاقة بينها وبين إدارات المدارس. وبينما نجد نسبة من القيادات السياسيّة والمحليّة الفلسطينية داخل الخط الأخضر تؤيّد هذا التوجّه الإسرائيلي، على الرغم من العداء الدموي بين المجتمع والشرطة الإسرائيليّة التي قتلت وأعدمت مئات الفلسطينيين منذ النكبة وحتّى اليوم.
إقرأ أيضاً: سمات إسرائيل المختنقة
وفي زمنٍ يتّجه فيه العالم نحو سياسات إعادة تأهيل المجرمين وإصلاحهم بدل العقاب، تتجاهل القيادات السياسية والمحلية المعطيات التي تُفيد بأن نسبة السجناء الجنائيين الفلسطينيين (وليس الأسرى السياسيين) داخل الخطّ الأخضر تصل إلى ما يقارب 50 بالمئة بينما نسبة السكان الفلسطينيين 20 بالمئة فقط. هكذا، لا تصبح منهجيّات العزل مبررة فحسب، وإنما تقودنا إسرائيل إلى مرحلةٍ تجعلنا نحن من يطالب فيها بتطبيق هذه المنهجيّات المشابهة لما يُمارس في الولايات المتّحدة.
ديناميكيّة العزل
لا تحتاج السلطات القمعيّة دائماً إلى فرض الفصل العنصري بشكلٍ عامودي وقطعي جامد، بل تنتهج أساليب متغيّرة، شريطة أن تحافظ على أهدافها في احتكار السلطة السياسيّة. وبالتالي، فإن هذه الأداة دائمة التغيّر بالتجاوب مع الوقائع السياسية القائمة على الأرض. مثلاً، إذا كان الحكم العسكري في الضفة الغربّة وقطاع غزّة وسيلة للسيطرة على الفلسطينيين دون منحهم الحقوق السياسية (أي المواطَنة الإسرائيلية)، فإن هذه الوسيلة تبدّلت من خلال تأسيس "حكمٍ ذاتي" يُدير الكانتونات المعزولة (ونحن نصادف الذكرى الرابعة والعشرين لتوقيع أوسلو)، وتبدّلت في غزّة مرةً أخرى مع "الإنسحاب" والحصار. والمطروح الآن هو تبدّلها في الضفّة من جديد من خلال طروحات للوزراء الإسرائيليين تنادي بتجاوز السلطة الفلسطينيّة والتواصل المباشر مع القيادات المحليّة والمخاتير ورؤوس الأموال، وفق وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان، أو إحداث تغييرات في الوضعية القانونية مع مقترحات الضمّ التي يتحدّث عنها وزير التعليم وقائد التيّار الصهيونيّ المتديّن نفتالي بينيت.. وغيرها من سيناريوهات.
لا عزل من دون مراقبة وتحكّم وتضييق وتركيز للمجموعات المستضعَفة في غيتّو، أو بانتوستان أو أحياء فقر، أو مخيّمات، وبالمقابل سرقة الموارد واحتكار السلطة السياسية، ناهيك عن الاستعباد بأشكاله التقليديّة والحديثة. لذلك، فيجب التعاطي مع مسألة الفصل العنصري باعتبارها منهجية عزل مادي وسياسي للفلسطينيين، وليس باعتبارها خوض في شكل النظام السياسي لإسرائيل.
الفصل العنصريّ ليس ديناميكياً من حيث تغيير شكله الإداري فقط، وإنما من خلال قدرة النظام الاستعماري على خلق أنواع مختلفة من الفصل للمجموعة ذاتها، وكذلك التقسيم الزماني، والتمييز بين النساء والرجال، والتمييز بين الأعمار المختلفة، وهي كلّها أنماط عزل دائمة التبدّل. لذلك، فإن هذه الأساليب أعقد من أن يؤطرها القانون الإسرائيليّ وهي تعتمد غالباً على سياسات وقرارات إدارية وعسكرية ومخابراتية وتطبيقاتها على الأرض.
استهداف الفئة العمرية الشابة
جانب آخر من الجوانب الملفتة هو استهداف الفئة العمرية الشابة. فإن غاية احتكار السلطة السياسيّة تبرّر إحباط تبلور أي تنظيم سياسي مقاوِم أو مناهض لها. ومن الوظائف المركزيّة التي يؤدّيها الفصل الإسرائيلي اليوم هو إبعاد الناس عن العمل السياسي، لا سيما في السنوات التي تتبلور فيها الأدوار السياسية للبشر وأهمها سنوات الشباب، حيث يتلقّون معرفتهم ومهاراتهم التنظيميّة، ولديهم هامش معيّن من الاستقلاليّة يتيح لهم خوض غمار الحياة السياسية والمشاركة في الحيّز العام. ولذلك، تُلحّ الحاجة لإضعاف الاحتكاك السياسي لدى الشباب وثنيهم عن أخذ دورهم الاجتماعي. ثمّ أنّها فترة مفصليّة في بلورة مستقبل الإنسان، وتؤثر على أدواره الاجتماعيّة ليس في سنوات الشباب فحسب وإنما لعقودٍ قادمة، بل وعلى تربية الجيل التالي.
إقرأ أيضا: الكيبوتس ومدن التطوير.. سياسات التحكم بالإنسان في إسرائيل
وواحدة من الظواهر التي تعبّر مثلاً عن فصل الفئة العمرية وعزلها، هي ظاهرة التعلّم خارج البلاد: 50 في المئة من الطلّاب الجامعيين الفلسطينيين داخل الخط الأخضر يدرسون خارج البلاد – في جامعات رومانيا ومولدوفا وهنغاريا والأردن وغيرها – ويتوجّه غالبيّتهم لدراسة مواضيع مثل الطبّ، والتي تستغرق سنوات طويلة من الدراسة تقصيهم عن الفعل الاجتماعي والسياسي وعن الاحتكاك اليومي بالظروف الماديّة التي ينتجها الاحتلال، ليعودوا إلى البلاد بعد خمس أو سبع سنوات منهمكين بالبحث عن وظيفةٍ ثابتة وتأسيس حياة مستقرة. وكما في الحالات المذكورة سابقاً، فإن هذه الحالة هي نتيجة مباشرة لأزمات بنيويّة صنعتها إسرائيل بسبق الإصرار والترصّد داخل أجهزة التعليم الأساسي والثانوي والعالي.
ما وراء الفصل الكلاسيكي: كيف تجعلنا إسرائيل نطالب بحلول كارثتنا؟
إن هذه الأساليب الحديثة من الفصل العنصريّ لا تنفي وجود الأساليب التقليدية بعنفها وجريمتها ودمويّتها، من الحصار وصولاً إلى الحكم العسكريّ ومنع فلسطينيي الداخل من السكن في أكثر من 40 في المئة من التجمّعات السكّانية في الداخل، وغيرها... ولكن المشكلة ليست في المكشوف من الجريمة، بل هي في تقنيّاتها العميقة التي تجعلنا نصفِّق لها فنبادر نحن لتشويه أنفسنا من خلالها. ولذلك، علينا ألا نكفّ عن التفكير بالمبادئ والسياسات القمعيّة للعدو باعتبارها آليّات متغيّرة ومتطوّرة بشكلٍ دائم، وأنها أكثر تركيباً وخطورةً مما يبدو لنا على السطح.
فعلى أرض الواقع، يفتقد الناس حريتهم وكرامتهم وحقوقهم. هذا هو المبحث وهذه هي المسألة، وهي بعيدة عن محاولات التأويل القانوني والفكري والمقاربات الدوليّة والتاريخيّة التي تُمارَس دون توقّف تحت قبابٍ غير نضالية، ومنها أن يتطوّع سياسيون ومفكّرون لتبرئة إسرائيل من تهمة "الأبارتهايد" حفاظاً على "دقّتهم العلمية" في توصيف الوضع القانوني. فبعد كل ما شهدنا، لم تعد الصهيونيّة بحاجة للمقاربات، إنما هي نموذج إجرامي كامل وخالص، استخدم نماذج قمع من كل أصقاع الأرض وكل حقب التاريخ، وطوّر نماذج جديدة تُدرّس وتُصدَّر للأنظمة القمعيّة في كل العالم.