سفير السعودية في جنيف وممثلها في مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة، قال في دورة انعقادها الـ36 التي بدأت منذ أيام، ما استحق عليه تغطية إعلامية استثنائية: "الوقت غير مناسب لإجراء تحقيق دولي مستقل بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن". وكان يرد على مطالبة مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان اتخاذ قرار من المجلس في دورته الحالية بهذا الشأن، وهو ما سبق طرحه في دورات سابقة.. وتعطيله.
ليس أن هيئة تحقيق دولية في انتهاكات حقوق الانسان في اليمن ستؤدي الى نتائج، أو أن تقريرها وتوصياتها يمكن أن يغيِّرا الموقف وينقذا حياة البشر هناك، من القتل والجوع والامراض وعلى رأسها الكوليرا.. ليس ذلك، بدليل مئات التجارب (على الاقل)، وآخرها التنكيل باقلية الروهينغا حدّ الابادة الذي يجري في ميانمار الآن وفي هذا الوقت، أمام أعين العالم المتصل بالصوت والصورة والخبر.. ولكن بلا طائل.
لذا فموقف السفير السعودي، المحرج لبلاده، "غير مفهوم"، وهو بمعنى ما يتسبب باساءة مجانية للطرف الذي يمثله، وكان يمكنه تأييد تشكيل هذه اللجنة الدولية بل وابداء الاستعداد للتعاون مع التحقيق نفسه.. ثم عرقلتهما لو أراد، الى ما شاء الله في القنوات البيروقراطية والميدانية, وكان يمكنه بالاساس عدم الاكتراث بما سينتج عنهما، حتى ولو كان إدانة صريحة لما يسمى "التحالف العربي" بقيادة السعودية، لجهة مسئولية غارات طائراته عن مقتل ثلثي المدنيين خلال السنتين ونيف المنقضيتين، بحسب تقارير مراقبين دوليين صادرة ومنشورة، ولم تمنع استمرار ذلك القتل.
فما الامر، ولماذا كل هذا الاستقتال وتلك الفجاجة؟
لأن هذه أنظمة (وهي سلطات وبنى سياسية وعقلية وثقافية) لا تكتفي بإشاعة روايتها عن الاحداث، التي تفترضها الوحيدة والحصرية، بل تعمل لمنع خروج أي رواية أخرى الى العلن، فتغلق الاعلام في بلادها وتراقب وسائل التواصل الاجتماعي، وتعتقل من يخالفها الرأي. وأما خارج نطاق سيطرتها المباشرة، فتستخدم كل أشكال النفوذ التي تمتلكها وكل أنواع الابتزاز، لتبطل ما قد يخالفها ويمتلك درجة ما من الرسمية والمصداقية.
إقرأ أيضاً: تحولات العلاقات اليمنية السعودية خلال قرن
والسفير السعودي قال بالمناسبة أيضاً كلاماً يخرج عن سياق الموضوع، غايته تحشيد الحجج بغض النظر عن وضوحها وترابطها، من قبيل أن المناداة بعالمية حقوق الإنسان "لا يعني فرض مبادئ وقيم تتعارض مع الإسلام"! فمن أين جاء هذا الموضوع هنا؟ وهو ربما ظن أن التلويح بالاساءة للاسلام بمناسبة ومن غير مناسبة هو الحل.
وقال أيضا أن القتلى ليسوا مدنيين وإنما هم "من جنود المليشيات الانقلابية لكنهم بزي مدني"! وهو دعا المجلس والمجتمع الدولي الى تركيز جهودهما على "وصول موظفي الإغاثة إلى من يحتاجون إليها".. عوضاً عن الاشتغال في تعيين المسئوليات عن الحالة الكارثية في اليمن، مع أنها أولاً من صنع البشر وليست زلزالاً او إعصاراً، وهي أيضاً ــ بالأساس وبالتأكيد ــ مسئولية متقاسَمة بين كل الاطراف المتحاربة، ولا تقع على كاهل السعودية أو الامارات وحدهما.
ومن جهة أخرى، فلعل هذا المثال بكل تفاصيله يوضّح مقدار قصور المقاربة المستندة الى "حقوق الانسان"، والمتجنبة بكل تهذيب الموقف والتحليل السياسيان. الورطة السعودية في اليمن كبيرة والخروج منها ما زال متعثراً على الرغم من المفاوضات الجارية في الكواليس لإعادة تركيب خارطة القوى وتحالفاتها لإحداث اختلال في توازنها يتيح مخرجاً يحفظ ماء وجه "الاخ الاكبر". يقول سفير السعودية: اتركونا نعمل على تسوية. وهذا هو معنى أنه "ليس وقته".. وهو "وقتٌ" لا ياتي أبداً، فتستمر الجرائم بحق الناس تتوالد من رحم بعضها البعض.