أين موقع فلسطين اليوم، في راهن اهتمامات الجيل العربي الشاب؟ الموقع الأخلاقي والمبدئي والوجودي، لا الموقع السياسي والجغرافي والحدودي؟
الموقع المتوحد بالضمير، المستقر في وجدان الفرد والمجموع، لا الموقع الذي يتوسع بفعل الغياب المدجج بالخذلان في أحلام المتخيل والمشتهى الفلسطيني (الممتد من البحر إلى النهر)، ولا ذاك الذي ينكمش بفعل الحضور المشوه، المعتمد على الذاكرة الإعلامية المتحولة، وفق أحجية الأهواء والأمزجة السياسية المتقلبة.
الموقع الذي يتجاوز لفّ الكوفية الفلسطينية على الرقبة لضرورات التصوير، والذي يتعدى الكلمات، منزوعة المعنى، الطافحة بها الصحف والمجلات والاحتفالات، المعلّقة على منصات التواصل الاجتماعي، وفق المناسبات والاستذكارات العابرة على الجراح والدماء وجبال الأذى، الذي لا يلتفت إلى ضيق نمطية الاختزال في الثنائيات السطحية العمياء، الذي يُدرك مبكراً العبث الذي تتلذذ في ممارسته الأيدلوجيات السياسية بعيداً عن فعل المقاومة الحقيقي.
الموقع الذي يتجاوز ثنائيات بددتّ الأجيال والزمن والجهد والمال لفعل شيء واحد، هو: الذهاب إلى كل اتجاه عدا فلسطين، والعناية بكل شيء عدا الإنسان الذي يعيش فيها أو تعيش فيه. ثنائيات منشغلة بصراعات مجانية، همّها تأكيد ولاءات، وتأمين انحيازات، جُلّ غاياتها اليومي والمعاش أكثر من حرصها على وحدة فلسطين، وكرامة الإنسان، وتركيز طاقة المقاومة لأجلها، ومدّ النضال الفكري والميداني بنَفس طويل ووسائل مقنعة. أين فلسطين الواحدة، أين الفلسطيني المتحد أمام ثنائيات: فتح وحماس، اليسار واليمين، العلمانيون والإسلاميون، الأرض والشتات، الداخل والخارج؟
***
ماذا تعني فلسطين، الإنسان والقضية، لطفل لم يدرس حرفاً واحداً في مناهج التعليم الرسمية في بلاده عما حدث للبشر على أرض فلسطين من احتلال وتهجير ومجازر وسحق للذاكرة وللآدمية؟ كيف لهذا الطفل أن تُدرك حواسه حواف الملهاة / المأساة الإنسانية وهو لم يسمع، في حياته، عن قصص قلع البشر والشجر هناك، لم يُحكَ له عمن مات في مهده لأن مهده بكل ألم كان العراء، لم يُذكر له أي شيء عمن تبدّد على منافذ الحدود ينتظر أمل عبورها، لم يزعجه أحد بحكاوي من ابتلع مفتاح منزله كمداً من شعار "اللاعودة"! ما الفرق بين هذا الطفل وأي طفل في شرق هذا الكوكب أو غربه لا تعنيه كل هذه التفاصيل، لأنه باختصار لم يصادفها في طريق اهتماماته وانشغالاته الحياتية، أو لأنه ببساطة بعيداً عنها جغرافياً ووجودياً. لن ذكر التجريف الممنهج الذي طال موضوعة فلسطين في المناهج الدراسية العربية، وسط صمت مُطبِق، وبلادة حسّ غير مسبوقة. حيث اختفت كل الإشارات عنها، بل حتى تلك الشذرات المتناثرة في هذا المنهج أو ذاك المقرر، والتي لم تتعدَ في الأساس قصائد (سأحمل روحي على راحتي/ عبدالرحيم محمود)، وأناشيد (فلسطين داري ودرب انتصاري/ سليمان العيسى)، ومقتطفات تاريخية مبتورة على غرار مسابقات "سين/جيم".. حتى هذه الخفائف المتفرقة انقرض وجودها في مقرّارت الدراسة التكوينية الأولى، اختفت من دفاتر وألسن المراحل الابتدائية، لم تَعدْ الطفولة العربية ترددها، لأنها لم تجدها في كتبها الدراسية ولا في مناشطها الحُرّة! حلّ محلها فراغ مدوي، أفضى إلى جيل يتسائل بشكل متنامٍ: ”لماذا يقتل الفلسطيني الإسرائيلي؟ ما الجرم الذي ارتكبه هذا الأخير حتى يستحق هذا "الاعتداء"؟ هكذا تقفز هذه التساؤلات (المتوقعة) لتسيطر على الذاكرة المبتورة والتاريخ الذي شكّلته المرويّات الإعلامية المتكئة على أموال النفط، وأحلام السيطرة والتحكم بمصائر الشعوب، مرويات إعلامية تبثّها مؤسسات رأسمالية ضخمة لا همّ لها إلا اصطياد العقول الفارغة، والذمم القابلة للمساومة لتضخيم أرصدتها المالية، عن طريق تسويق الفكرة كسلعة لا كقيمة في ذاتها. هذه المرويات التي شوّشت على كل شيء حتى تلاشت الحدود بين المُعتدي (بضم الميم) والمعتدى عليه، الفواصل التي تميز الجاني والضحية باتت غير مرئية ولا مدرَكة لجيل لم يتصل وجدانياً لا بفلسطين ولا بالإنسان الذي ارتبط بها.
إقرأ أيضا: ضبط المعرفة.. السيطرة على الإعلام في فلسطين
ماذا تعني هذه الـ"فلسطين" للشبيبة الصاعدة؟ والأسر التي تربّوا في أكنافها لم تحدثهم عن قصص الاحتلال ولم تروِ لهم حكايات المخيمات والضياع والخيانات والتصفيات والمساومات وصفقات الرفاق قبل معارك الأعداء. لم تربط اهتمامهم إلا بالشخصي والنفعي، كلٌ روى فلسطين من زاوية خيبته الشخصية، لا من مركز ضميره وثوابت الإنسان التي لا تتغير. فبدلاً من طروحات مشروعية المقاومة، والدفاع عن النفس والأرض والكرامة، التي أكدتها وووثّقتها مجمل الشرائع البشرية، للحفاظ على الوجود المتوازن للإجتماع البشري - بدلاً من كل ذلك، نجد أن بعضاً من هذه الأسرّ، وبشكل متزايد، تجنح إلى تربية أبنائها على عدم الثقة بالفلسطيني، لأنه "فرّط بوطنه"، ولأنه "باع منزله" للنازح الصهيوني الأول، ولأن الفلسطينيون لا يثقون ببعضهم البعض، انظروا كيف يتقاتلون على "سلطة وهمية" فكيف سيؤول حالهم إذا ما احتكموا على دولة حقيقية؟. كُلٌ أطّر فلسطين الفكرة والقضية وفق تصرفات فردية، وتصورات ذاتية لتجارب شخصية تقاطعت مع بعض الأفراد الفلسطينيين، كُلٌ اكتفى برغوة الصراع على السلطة، دون أدنى اكتراث للمعنى العميق الذي تنطوي عليه قضية إنسان لم يحرم من وطنه فحسب بل وجُرّمت نواياه واطلقت الخيالات لتبرير استحقاقه للتشرد والتيه والضياع لأنه فرّط بإرادته في أثمن ما لديه، فنال عقابه "الرباني"، و"التاريخي"، و"الطبيعي".. إلى آخر هذه الأنواع الفخيمة من العقوبات. وما عليه الآن إلا الانتظار، حتى يستوفي القصاص، ثم يتطهر من فعلته، لتعود له حقوقه.
***
إن خطاباً كهذا، يُراد له أن يحل مقام حقائق تاريخية وسياسية واستعمارية، إنما هو خطاب متداعٍ من أساسه، ولا يتكئ إلا على ضعف فاضح، محصلته معروفة، وهي أن يُعفي صاحبه من واجباته الأخلاقية تجاه هذه القضية، وذلك باطلاق أحكام مطلقة، نابعة من مقولات مُرسلة، ثم تعميمها وإسقاطها على المجموع الفلسطيني دون اعتبار للدماء الزكية التي اضاءت طريق التغريبة الفلسطينية، ودون احترام لغور الجرح النازف حتى اللحظة،. إن خطاباً كهذا لا يكلف نفسه بأقل جهد للنظر في الأدلة البراهين التي تزخر بها الوثائق والمخطوطات والأثار والعواقب الدالّة والمنتشرة بالمجان وبكل لغات البشر على هذا الكوكب، على مأساة شعب سّلمه محتل بائد (المحتل البريطاني) لمحتلّ جديد (الغاصب الصهيوني).
إن مقام فلسطين في قلوب من آمن بها ليس كمقامها في ذاكرة من غيّبها عن قصد، أو من همّشها لحسابات شخصية أو تبريرات واهية. غير أننا في الجانب المقابل نتساءل عن سبب الإصرار على افتراض أن معرفة كل ذلك تنتقل إلى الأجيال بالفطرة؟ وأن قضية مصيرية كالقضية الفلسطينية ستصمد لوحدها أمام عواصف التغييب والتشويه والتشويش الذي يمارسه الأقارب قبل الأباعد، دون اعتبار لأهمية نقل الوعي بها، والمعرفة بتناقضات الصراع، لأجلها، وفيها، وبالوسائل الحديثة والمقنعة، بلا كلل أو ملل؟
يكفي أننا بتنا محاطون بمسلمات لا نناقش جذورها، ولا أسباب سطوتها، ومن باب أولى لم نعد نهتم لا بعواقبها على المستقبلي من حياتنا، ولا بأثرها على معاشنا ووعينا . مسلمات من قبيل: الاحتلال الصهيوني، بوصفه واقعاً، بل نموذجاً لافتاً لمعنى "التقدم" و"التفوق" في وسط يرزح في التخلف و التقهقر والصراعات والخراب. إلى أي مدى تسّلل هذا "النموذج" القدوة إلى الخطاب الفردي والجمعي العربي، إلى أي حد باتت نغمة مألوفة، ولازمة عادية بفعل التكرار، حتى وصلت إلى حد التماهي، بل التفاخر بها وتوظيفها في ألاعيب التنابز الإعلامي والمبارزات السياسية اليومية؟
من الملوم هنا ومن اللائم؟
الفلسطيني الذي ترك فلسطين والفلسطيني وانشغل بالغنائم الجانبية؟ أم الشقيق العربي الذي اكتشف أن فلسطين ليست وحدها "المحتلّة" وأن الفلسطيني ليس هو "المُهجّر والطريد" الوحيد، بل أوطاناً وبلداناً وشعوباً، بكل ثرواتها وتفاصيلها، بل ذاته كذلك محتلّة من قبل محتلّ داخلي يقودها إلى اللامعنى وإلى المجهول.
***
فلسطين القضية والإنسان باقية مهما توارت خلف الانشغالات والإهمالات و"الأولويات الطارئة". لأنها قضية الضمير الحي المؤمن بحق البشر في أرض نسلت أجدادهم وآبائهم وارتوت بدمائهم وأحلامهم وذكرياتهم. ولأن الإنسان لا يستقيم وجوده في هذه الحياة من غير قيمة العدل كقوة أخلاقية مفضية لإنصافه مهما طالت أزمنة الظلم الذي مورس عليه.
أما نحن، فعلينا أن نلتفت لحالنا، نتحسس ذواتنا، نسائل ضمائرنا، وبشكل دائم: أين موقع فلسطين؟