.. فائدتها حتى حين تُحبط، ويجري الارتداد عليها! أن يثور الناس في مجتمع ما، فذلك يمنحهم فرصة لرؤية أفق آخر مختلف عما يعيشونه من حياة هي غالباً بائسة تماماً أو غير مرْضية على الاقل (وإلا لما ثاروا).. يمنحهم فرصة للمس الحلم والأمل، ما يدفع البشر إلى التسامي فوق الصغائر والمكايدات المعتادة، والضجر المُحبِط.
وتلك لحظات لا تُمحى وتزول حتى عندما يجري التخلص من الثورة وأهدافها، سواء بالاحتواء الناعم، أو بالقمع العنيف، أو حتى بالخيانة من قبل أبطالها هم أنفسهم، وهذه الاخيرة هي أبشع الحالات في الدفع إلى اليأس.
من عاش ثورة ليس كمن لم يعشها حتى لو كان منحازاً لضرورتها فكراً وقناعة. من عاش ثورة يكون قد مسّه سحرٌ ما، وهذا نادرٌ حقاً وثمين.
وعلى العموم، يكتسب الناس في الثورات وعياً سياسياً. الدليل؟ في تونس حيث جرى التفاف ناعم (نسبياً) على ثورة أهلها، وتراجع عن كثير مما قاتلوا من أجله، وحرْفٌ للنظام السياسي والاقتصادي باتجاه معاكس لما أملوا به.. وعلى الرغم من ذلك، فها مواقف ونتائج ظهرت هذا الاسبوع (وهناك سواها مما مرّ ومما سيأتي) هي بنات تلك الالتماعة وبشكل ما تتمتها أيضاً: القانون الجديد الذي أُقرّ والذي يخصّ النساء، والوعد بالمزيد باتجاه تحقيق مساواتهن الكاملة من جهة، وموقف الصيادين والبحارة التوانسة من السفينة العنصرية "سي ستار" حالما اقتربت من شواطئ البلاد.
النساء أولاً:
لن يمكن بعد اليوم إعفاء المغتصِب من الملاحقة القانونية بمجرد أن يتزوج من المرأة التي اغتصبها. وفي ذلك أخيراً ردّ اعتبار لفظاعة الفكرة، كونها عقوبة مزدوجة على المغتصَبة ومدّ لفعل اغتصابها تكراراً وكلّ يوم، وبالقانون هذه المرة، ولفظاعتها لجهة أنها تعتبر أن الأهم هو إضفاء ما يسمى "ستراً" على الجسد المنتهك، وكأن الاغتصاب ليس عنفاً مهولاً مدمراً لضحيته، بل ممارسة للجنس يحرمها القانون باعتبارها خارج الإطار الشرعي المجاز، فيصحَّح الوضع بإعادة الفعل إلى ذلك الإطار.. وهو الجنون بعينه، وأبشع أشكال الحفاظ على النظام الأبوي الذي لا يهمّه شيء سوى الوقوف حارساً على ملكية فروج النساء!
بعد طول مداولات وأخذ ورد، جرى التصويت على القانون يوم 26 تموز/ يوليو باجماع النواب الحاضرين في المجلس، أي بموافقة 146 نائباً من أصل 217 (يجب تفحص أسباب غياب الغائبين!). كما عُدِّلت المادة 227 مكرر من القانون الجزائي التي تنص على عدم ملاحقة مرتكب الفعل الجنسي "بلا عنف" على قاصر دون الـ15 من عمرها إذا ما تزوجها.
إقرأ أيضا: تونس.. منذ ست سنوات، الثورة مرت من هنا
يقرّ نص القانون بكل أشكال العنف الجسدية والمعنوية والجنسية ما يعني إخراج هذه الأشكال من الحيز الخاص، إذ يعتبر أن اسقاط الدعوى الشخصية لا يوقف الملاحقات. كما ينص القانون على توفير مساعدة قانونية ونفسية للضحايا، ويشير إلى إضافة برامج تعليمية في المدارس لتعزيز حقوق الانسان والمساواة بين الجنسين.
القانون الجديد سيكون حتماً رائداً في العالم العربي، كما كانت ثورة تونس في 2011 رائدة. وهو سيسند نضالات تجري بقوة في أكثر من بلد لإبطال قوانين تزويج المغتصَبة من مغتصِبها، ولتعيين حد أدنى لسن تزويج الفتيات، ولإلغاء سائر البشاعات من هذا القبيل.
الهجرة والعنصرية ثانياً:
السفينة "سي ستار"
القصة من آخرها أن الموقع الاميركي لجمع التبرعات على الانترنت (Crowd Funding) "باتريون" أعلن البارحة عن إغلاق الصفحة العائدة لحملة السفينة "سي ستار"، لأنه اكتشف أنها "قد تتسبب بخسارة أرواح". السفينة جزء من حملة "الدفاع عن أوروبا" المعادية للمهاجرين، التي تقودها منظمة "الجيل الهوياتي"(Generation Identitaire) ومقرّها فرنسا، ولكن اعضاءها وناشطوها ينتمون إلى تنظيمات يمينية متطرفة وعنصرية في بلدان مختلفة من أوروبا، فيما منسق حملة التبرعات كندي. والسفينة اشتريت الشهر الماضي من جيبوتي بمبلغ 75 ألف دولار جمعت من التبرعات. وهي قررت تعقب السفن التي تنقذ المهاجرين المبحرين في المتوسط والقادمين من شواطئ شمال افريقيا، لعرقلة عملها "حتى لا تشجع الهجرة"، بل يتهمهم هؤلاء بأنهم متواطئون مع مهربي البشر..
وكأن المتوسط لم يكفه ما ابتلع حتى اليوم من أرواح، بحيث صار أكبر مقبرة جماعية في العالم، يسعى العنصريون إلى مزيد من الغرقى عسى ذلك يدفع المهاجرين إلى الإحجام عن مغامرتهم. وللعلم فمنذ مطلع عام 2014 أنقذ نحو 600 ألف مهاجر من قوارب مهربي البشر ونقلوا إلى إيطاليا، فيما لقي أكثر من عشرة آلاف شخص مصرعهم خلال محاولتهم عبور البحر المتوسط إلى أوروبا خلال الفترة ذاتها.
المثير للسخرية أن السفينة جنحت في البحر قبالة شواطئ ليبيا.. وقد انقذتها سفينة انقاذ للمهاجرين تابعة لمنظمة غير حكومية ألمانية الجنسية، كانت الأقرب إليها، وكان واجبها هو نجدتها. وسفينة الإنقاذ تلك واسمها "عيون البحر" (Sea Eyes) سبق لها انقاذ مئات المهاجرين في المتوسط.
وقد حاولت "سي ستار" قبل ذلك التزود بالوقود من ميناء جرجيس في تونس، فخرج البحارة والصيادون بتظاهرة بحرية قائلين إنهم سيمنعونها من الرسو، ولن يزودونها بالوقود، ولو رست فسيحتجزونها. وقال مسؤول رسمي في الميناء: "هل نترك هؤلاء العنصريين يدخلون الميناء؟ أبدا لن نفعل". كما تظاهر ضدهم نشطاء من صقلية حين حاولوا الاقتراب من ميناء فيها..
وهكذا انتهت مغامرة هؤلاء!
مغلق أمام العنصريين، في تونس..