يوم 25 شباط/ فبراير 1994، وفي شهر رمضان من ذلك العام، دخل مستوطن إسرائيلي المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل، أثناء قيام المصلّين بأداء صلاة الفجر، وقام ــ على مرأى من الشرطة الإسرائيلية ــ بفتح النيران عليهم من بندقيته الآلية، ليستشهد 29 منهم ويصاب نحو 150 شخصاً، فيما أغلّق جنود الاحتلال الأبواب تواطؤاً مع المستوطِن، مانعين المصلّين من الهروب، إلى أن انقضّ عددٌ من المصلّين على منفّذ الهجوم فأردوه قتيلاً.
"إلى المقدَّس باروخ غولدستاين، الذي وهب حياته للشعب اليهودي والتوراة وأمّة إسرائيل"، تقول البلاطة التذكارية التي وضعها أصدقاء وأتباع الإرهابي المعتدِي في مكان دفنه بمستوطنة كريات أربع في الخليل.. المكان الذي تحوّل "محجّاً" للزوار الإسرائيليين، كأنه ضريح وليّ صالح!
***
تتذكر الخليل (المسمّاة نسبة لخليل الله إبراهيم) مجزرة الحرم الإبراهيمي، وتتذكر معها وقبلها وبعدها تاريخاً من الصراع مع الصهاينة على معالم المدينة الأثرية والدينية، بل حتى على الحياة اليومية للناس، على الشارع الرئيسي للتجارة، وعلى البيوت المطلة عليه، التي هُجّر معظم أهلها فيما مضى.
يوم 7 تموز/ يوليو 2017، أدرجت لجنة التراث العالمية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ("اليونسكو") مدينة الخليل على لائحة التراث العالمي، كمدينة فلسطينية، بأغلبية 12 صوتاً مقابل 3 أصوات معارِضة، و6 ممتنِعة عن التصويت، وذلك ضمن أعمال الدورة الـ41 للجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو، والتي عُقدت في مدينة كركوف البولندية.
كمّا صنّفت اليونسكو البلدة القديمة "منطقةً مَحمية" بصفتها "موقعاً يتمتع بقيمة عالمية استثنائية".
المنجَز غير صغير على صعيد المقاومة الثقافية الفلسطينية ولا هو هامشي بالنسبة لمدينة تتشبّث بأظافرها بقيمتها الثقافية والتراثية، خصوصاً أن القرار أدرج الحرم الإبراهيمي (حيث يعتقد أن ضريح النبي ابراهيم وزوجته سارة وأبنائه إسحق ويعقوب، ويسميه اليهود كهف البطاركة) والبلدة القديمة على قائمة التراث المهدد، ما يعني أنّ اهتماماً أكبر سيلحق بهما، وهو ما يُفترض أن يردع الاعتداءات الإسرائيلية على المواقع الأثرية.
القرار بالطبع أثار سخطاً في إسرائيل التي تعتبر الخليل ثاني المدن اليهودية المقدسة بعد القدس، وقال رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو أنه "قرارٌ مضَلَّل آخر من قِبل اليونسكو".. ثمّ سارع إلى إعلان اقتطاع مليون دولار من قيمة التمويل الذي تقدمه إسرائيل للأمم المتحدة، وهي المرّة الرابعة التي تقتطع فيها إسرائيل من تمويل الأمم المتحدة خلال عام، "عقاباً" لها على ما لا يعجب إسرائيل من قرارات.
***
الخليل من أقدم مدن العالم، عمرها يمتد الى نحو 3000 سنة قبل الميلاد، وهي وطن نحو 200 ألف فلسطيني، أما المستوطنون فلا يتجاوز عددهم بضعة مئات. إثر اتفاق أوسلو، تمّ تقسيم الخليل إلى المنطقة H1 والتي تضم المدينة الحديثة وتخضع للسيطة الفلسطينية، والمنطقة H2 وتضم البلدة القديمة والحرم الإبراهيمي والأحياء التي بنيت في العهد العثماني، وهذه المنطقة تخضع للسيطرة العسكرية الإسرائيلية. تعرضت البلدة القديمة والآثار الإسلامية للتهديد والتجاوزات الممنهجة والمتكررة على مدى سنوات، كما أغلق الإسرائيليون شوارع حيوية بالمدينة بحجة الحفاظ على الأمن، وأدى ذلك إلى نزوح عدد من السكان إلى خارج البلدة القديمة.
ولكن ما أهمية قرار اليونسكو اليوم؟
يشير نقيب المهندسين اللبنانيين جاد تابت في محاضرته "الخليل: أبجدية الاحتلال والتراث المقاوم'' (نظمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية بالتعاون مع معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الامريكية ببيروت)، إلى معنى أن تُدرج الخليل على لائحة التراث العالمي ضمن قائمة دولة فلسطين: "إنه أولاً تقدير للعمل الجبّار الذي قام به الفلسطينيون لاسترجاع ذاكرتهم المفقودة وإعادة بث الحياة في أحجار ميتة"، مشيراً بذلك إلى عمل "لجنة إعمار الخليل" التي دأبت منذ عام 1996، وبإيعاز من الرئيس ياسر عرفات، على إعداد دراسات مفصلة حول البلدة القديمة، والسعي لترمم المباني، والحفاظ على الوحدة التكوينية والنسيج العمراني بها، وهو عمل حازت اللجنة إثره على جائزة الإسكان العالمية (UN-Habitat)، ما يعني أن الإنجاز فلسطيني بالكامل، شكلاً وجوهراً. والقرار الدولي هو ثانياً "اعتراف من المجموعة الدولية أن مدينة الخليل القديمة، بما في ذلك الحرم الإبراهيمي، يشكلان جزءاً من التراث الفلسطيني، ما ينزع الشرعية عن ادعاءات إسرائيل بأن الحرم ينتمي للدولة العبرية".
يخلص تابت في محاضرته أخيراً إلى أن القرار هو "شهادة بأن قضية فلسطين لا علاقة لها بالتعصّب الديني أو العرقي أو القومي، بل أنها بالأساس قضية لها أبعاد سياسية وأخلاقية وفكرية كبرى تخاطب ضمير الإنسانية".