السلطة تقمع احتجاجات "الريف": لماذا تنجح كل مرة؟

السلطة تقمع الاحتجاجات. هذا قديم. السؤال: لماذا تنجح كل مرة؟ لأنها سيطرت على المجال. لأن الانقسام والبؤس الثقافي والخوف أطلق يدها.. قراءة نقدية في حراك "الريف" المغربي.

2017-07-10

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
ماحي بينبين - المغرب

وقفتان متناقضتان أمام البرلمان أثناء صلاة التراويح. وقفة تدعم "الحراك" في منطقة الريف، وخاصة في الحُسَيمة، وهي مدينة شاطئية مقابلة لماربيا الأسبانية في الجهة المغربية، وفيها شواطئ أنظف لكنها غير شهيرة سياحيا لأسباب اجتماعية.

ترفع الوقفة الاحتجاجية أمام البرلمان شعار "كلنا الزفزافي"، في إشارة إلى زعيم الحراك المعتقل ناصر الزفزافي. الوقفة يقودها المناضل الأمازيغي المتحمس، وهو يغطي ظهره بالعلم الأصفر والأزرق.. ويكشف معجمه عن وعي قبلي. مناضل فخور بمنطقته العظيمة وقبيلته العريقة، ويطالب بالحرية للريف وليس للرباط، العاصمة التي تقرر.
بعد حوالي ساعة نشأت وقفة ثانية معارضة تحمل العلم الوطني وترفع شعار "عاش الملك".. بدأ أصحاب الوقفة الأولى بالصراخ ضد الوقفة الثانية ووصفوهم ب"العيّاشة" أي الذين يبيعون موقفهم مقابل عطايا.

كانت نتيجة الشتيمة عكسية. فقد تضخمت الوقفة الثانية الداعية لطاعة ولي الأمر، والتي ترى في أصحاب الوقفة الأولى انفصاليين عدميين يريدون تخريب المغرب ليصير مثل سوريا.. ويُحتمل أن يحل الاشتباك بالأيدي بدل الاشتباك بالكلمات بينما قوى الأمن متحفزة..

تبددت الوقفة الأولى التي يعتقد المشاركون فيها أنهم أحرار بينما يظنون أن أصحاب الوقفة الثانية مدفوعين من جهة ما. هذا الاتهام الاستفزازي يدفع شبان كثيرين ورجال أكبر سناً للانضمام لوقفة ترفع صورة الملك والعلم الوطني.

لم يظهر أبداً النشطاء بدون علم أمازيغي، بل حملوا علم عبد الكريم الخطابي لجمهورية الريف 1926. وهذا سمح بتصنيفهم بصرياً، وسمح باتهامهم بالانفصال، ما يضعف التضامن معهم على المستوى الوطني. ولا وقفة تجاوزت مئة شخص محتج.

ورقة الانفصال والانقسام

لماذا لا يرفع المناضل الأمازيغي العلم الوطني لكي يحرم خصومه من ورقة اتهامه بالانفصال؟ هنا إشكال الحراك الذي يلعب فيه المناضل الأمازيغي دوراً كبيراً، وقد عاش المغرب تجربة مماثلة في صيف 2008.

ما هو الحراك؟

من هو المناضل الأمازيغي ومن يدعمه؟ وما الذي يضعفه؟

تعريف أولي استقرائي: الحراك حركة احتجاجية صغيرة في منطقة ذات ساكنة متجانسة، الاحتجاج عبارة عن رد فعل على حدث طارئ (مقتل صياد أو إرغام مسؤول لشاب على حلق شعره أو تقبيل حذائه)، يليه غضب واحتجاج غير منظم.. حدث طارئ يُخرج شباناً عاطلين عن العمل جلّهم بمستوى تعليمي منخفض ومهارات معدومة يحتجون ضد "الحكرة"، ضد بؤسهم وتهميشهم، ويصوّر الأمر من الرباط كمطلب للتغيير..

لا يوجد مصطلح حراك في العلوم السياسية. هذا تعبير دارج فضفاض عن أماني، لأن استخدام مصطلح التغيير سيبدو كبيراً واستخدام مصطلح مطالب مادية سيجعل النضال خبزياً. لذا اخترعت كلمة خاوية اسمها "الحراك".
إليكم سيناريو مجرّب للحراك سيزعم الحالمون أنه سيناريو متشائم:

تنطلق الحركة الاحتجاجية في منطقة نائية غالباً، سببها المعلن مطالب اجتماعية وسببها الحقيقي غضب ظرفي لأن الناس تعبوا من سيطرة السلطة على مصيرهم، من انتظار فتات العاصمة، من هيمنة أوليغارشية محظوظة محمية بجهل شائع.

الناس يحتجون ليقولوا "نحن هنا" أكثر من قدرتهم فعلاً على إحداث تغيير في طبيعة المجتمع والسلطة المسيطرة عليه.

السوسيولوجي البصاص يصف الظواهر ولا يخرج ببيانات.

يتضرر الحراك بسبب أماني مناضلي العاصمة الذين يقضون العام في المقهى وقد يطردون الملل ويشدون الرحال لمقر الحراك للتضامن، ويكتب أحدهم على صفحته الفايسبوكية "دعواتكم كي لا أمنع من السفر". يسافر وقد ترك الزبالة قرب باب منزله ولم يحتج عليها بينما يريد التغيير في تلك المدينة النائية..

لا يتبنى الناس وجهة نظر المناضل الرباطي الذي لا يملك برنامجاً نضالياً ويقفز على احتجاجات الهوامش، يسافر إلى الحسيمة لينتقد وزارة الداخلية التي يسكن بجوارها في

قلب الرباط. تسخر الفزورة المغربية من هذا الوضع بسؤال: أين أذنك؟

المغربي الذي يشعر بالعار لأن أنثى هي من يخاطبه، بعيد عن فكرة المساواة، وهي شرط كل تغيير أو ثورة. القبيلة والطائفة لا تصنعان التغيير. من يستخدم معجماً كهذا يكشف أن وعيه المحمّل على لغته بعيد عن المساواة. هذا العائق في العقل كارثة. هذا العائق، وليس قوة البوليس هو الذي يمنع التغيير. حين تنتصر الثقافة سيهرب البوليس

ولكن، وبعيداً عن أوهام المناضل القبلي والمناضل الحقوقي الرباطي المتبرجز، لماذا يصعب حل أزمة الريف؟
السلطة تقمع الاحتجاجات. هذا قديم. السؤال لماذا تنجح كل مرة؟ لأنها سيطرت على المجال. لأن الانقسام والبؤس الثقافي والخوف أطلق يدها.

الأحزاب ضعيفة منقسمة ومتحكم فيها. حتى مسيرة الرباط للتضامن مع الريف التي قادتها "جماعة العدل والإحسان" ورفعت فيها شعاراتها، قد أدت لوقف التنسيق بين اليسار والإسلاميين. وهذه جائزة أوسكار مجانية لوزير الداخلية.

وكان قد حصل على هدية من قبل. في مرحلة القمع، سرى صمت مريب لمساعدة وزير الداخلية في عمله القذر أو النبيل، حسب الصامت. صمت يعني انتظار تمكّن وزارة الداخلية من إخماد نار الاحتجاج. عندما بلغ عدد المعتقلين تسعيناً وهدأ الوضع، خرجت الألسن الطويلة ببيانات، بينما تجري المحاكمات بتهم التظاهر بدون تصريح سابق في الطرق العمومية، والتجمهر المسلح ورشق القوات العمومية بالحجارة...

لا حراك في المدن

كون الاحتجاج يجري بعد الانتخابات، فهذا يؤكد أن الناس لا ينتظرون شيئا من الأحزاب ومن صناديق الاقتراع. لذلك يخاطب المناضل القبلي الملك مباشرة. يخاطبه غاضباً ليس لأن تنمية "الريف" أقل من خنيفرة وزاكورة. فسكان الحُسيمة أغنى من سكان سيدي مومن في الدار البيضاء. بائع السمك في سيدي مومن لا يزيد رأسماله عن 300 دولار. محسن فكري المطحون اشترى ب 6000 دولار سمكا. شكل الزفزافي العاطل عن العمل في سن الأربعين أفضل من شكل كثير من شبان سيدي مومن في سن العشرين، يظهر الضوء من آذانهم وتغطي الزرقة وجوههم بسبب البؤس ولا يحتجون. وآخر إهانة لهم هي هذه:

رجل أعمال يقيم مقلعاً ومطحناً للحجارة في وسط حي سكني فيه 500 ألف شخص محتقر. صار ممر الترامواي وموقفه أسودين في حي سيدي مومن. من بعيد يظهر المقلع صغيراً لكن من فوق العمارات يظهر كبيراً، تدخل وتخرج منه مئات الشاحنات. والنتيجة: الشارع مغبر وصدور الأطفال وأنوفهم تسوّد وتختنق. ولا أحد يحتجّ رغم ضخامة الكتلة البشرية.

لماذا لا يقع حراك في المدن الكبرى؟

لأن في المدن الكبرى ساكنة غير متجانسة، جمعتها الصدفة والحاجة الطارئة، بينما في المناطق النائية هناك العامل القبلي الموحِّد للسكان. مشكل الريف يوجد في مكان آخر. المناضل الذي وعى لأن لديه وقت لتأمل وضعه غاضب لأن الوزير، محاوره القادم من الرباط، بلا شرعية ولا سلطة له.

حتى لو بنيت جامعة ومستشفى شامل في الحُسيمة فلن ينتهي الأمر. المشكل في العمق هو أن المناضل حين يكون في مواجهة المسؤول البيدق الرباطي يشعر بالإهانة.

هناك عائق آخر ثقافي للحراك وهو هويته الميكروسكوبية. فالمناضل الأمازيغي - نسخة القبايل - ليس ديموقراطياً تماماً، يفتخر: "ريفي أباً عن جد"، أي يعرّف نفسه بالقبيلة والعرق وهو ليس ليبرالياً أو اشتراكياً ديموقراطياً، وخصمه الأول هو المناضل الإسلامي.. وهما من طينة واحدة. كلاهما ليس ديمقراطياً تماماً، كلاهما ينفر من كل وجهة نظر غير مطابقة لوجهة نظره، لذا فهما بلا أفق شعبي وكوني.

لا يمكن لحشد القبيلة أو حشد الطائفة أن يُسمى شعبياً.

ولا أحد يطرح السؤال: ما هي خصائص الديموغرافيا هناك في الريف، قبلياً ودينياً؟

مناضلات الرباط يحتفلن بالقيادة النسويًة للحراك في القبيلة. كيف تتحدث عن المساواة مع مَن يذكرك بأنه ينتمي أبا عن جد للريف؟ له ميزة الأقدمية.  

المغربي الذي يشعر بالعار لأن أنثى هي من يخاطبه بعيد عن فكرة المساواة، وهي شرط كل تغيير أو ثورة. القبيلة والطائفة لا تصنعان التغيير. من يستخدم معجماً كهذا يكشف أن وعيه المحمّل على لغته بعيد عن المساواة. هذا العائق في العقل كارثة.. هذا العائق، وليس قوة البوليس، هو الذي يمنع التغيير. حين تنتصر الثقافة سيهرب البوليس.

جرت في الحراك مسيرة بفصل الجنسين في القبيلة، وتمجّد من الرباط على أنها "مسيرة نسائية للحرائر الريفيات". من يشكر نساء القبيلة ويضخم هوية ميكروسكوبية ما قبل دولتية، ينتظر التضامن من قبائل أخرى..

تفسير الاحتجاج بالعامل الاقتصادي يسقط حين نرى بؤس مناطق أخرى. في الحكومة لا يفهمون سوسيولوجيا المنطقة، لذا فالوزير الرباطي يسوق نموذجاً تنموياً جاهزاً ويقترح أن تصير الحُسيمة منارة المتوسط. يظن أنها مدينة كوسموبولتية مثل الإسكندرية. يقترح تحويل الحُسيمة إلى قطب اقتصادي سياحي جذاب.. هل تقبل القبيلة سلوك السياح؟ لابد من وصفات تنموية تناسب سوسيولوجيا المنطقة.

ما الذي منع الحسيمة من أن تصير مثل طنجة؟

هل العامل بحر ومال أم عامل آخر؟ المرجو من مناضلات الرباط قضاء بضعة أيام رفقة نساء قرى الريف لمعرفة الحقيقة.

في انتظار ذلك، هذه قراءة للحراك في حضور بعده القبلي. كيف ستدبر الدولة نخوة القبيلة؟

زعيم "حزب الأصالة والمعاصرة" من الريف. ووزير الداخلية من الريف، فكيف يحل المشكل؟

الدولة في مواجهة النخوة القبلية. النخوة ليست للتفاوض بل للعناد.

والملك ممسكاً بالسلك الساخن باستمرار، بلا وساطات، في ظل انفجار قوى الإحباط التي تتم مواجهتها بالبوليس. يزيد القمع من العناد والسخط، لكن هناك موافقة كبيرة على تركيز السلط بيد الملك كمنقذ من الفوضى. والملك يعرف التدبير القبلي للمشكل.

فقد عزّى الملك والد الصياد المطحون. قدّم الدية. أطلق سراح معتقل يوم وفاة والده.

هذه إشارات من تنظيمات ما قبل الدولة، وستبرد المشكل. لن تحله.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه