خمسة وخميسة!

اكتمال 5 سنوات من حياة "السفير العربي" الذي عيّن لنفسه مهمة "البحث وسط الخراب عما ليس خراباً"، وتقديمه كبرهان على "الاحتمال" الذي يتطلب جهداً عنيداً ذكياً متواصلاً ليصبح "إمكاناً"
2017-07-06

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
بهيجة الحكيم - العراق

هذا عدد "السفير العربي" الرقم 250. وهو يختتم خمس سنوات من حياتها. وللمصادفة، فقد نُشر العدد الاول في مثل تاريخ اليوم من العام 2012 وكان عنوانه "لماذا ثارت حمص؟"، وكنا في عزّ ذلك الحدث، فسعينا لتقديم إجابات عن تلك الثورة ترصد التغييرات العميقة التي لحقت - أو ألحقت قسراً عبر سنوات بالطبع - بالبنية الانتاجية والاجتماعية للمدينة الثالثة في سوريا، وكيف ان هذا التشويه الفظّ هو ما يفسّر ثورتها وليس أي توهيمات طائفية ولا أي مؤامرات..
وعلى هذا المنوال، سعى كتابنا وكاتباتنا - وهم في غالبيتهم الساحقة من الشباب، وبعضهم باحثون وبعضهم الاخر كتّاب وصحافيون، وبينهم مدوّنون - الى تقديم نصوص تحليلية في متناول القارئ، غير متعالية، تخصّ كل بلدان منطقتنا، من عُمان في اقصاها الى موريتانيا في أقصاها الأخرى، بلا استثناء لمكان، وباكتراث خاص بفئات غالباً ما يجري الكلام باسمها وبالنيابة عنها: النساء، الأقليات العرقية والدينية، أبناء الجهات المهمّشة، المعطلون عن العمل، العبيد السابقون.. فنحن وُلدنا مع موجة ثورات هذا العقد الأخير التي ووجهت بالشراسة التي تليق بمعناها. ولأن "السفير العربي" جزء من هذه الدينامية الصراعية، سعينا الى البرهان على أن الفقر السائد إنما هو إفقار وليس قدراً أو معطى موضوعياً، وأن تراجع التعليم العام وكذلك الصحة وسائر الخدمات الأساسية لأي اجتماع انساني يتناسب طردياً مع تقدم الفساد. وأن ثالثهما هو القمع. وأنها كلها تراهن، من أجل استمرارها في الاشتغال، على ترسيخ اليأس والاحباط في النفوس، ومعهما انعدام الثقة بالذات بل احتقارها. لقد حفظتْ قوى الثورة المضادة الدرس وقررت إطلاق العنان لاستباحة الناس بلا حساب.
.. ونحن على الرغم من كل ذلك لم نكن نظن أن الوضع العام سيصل الى هذا المقدار من السوء والابتذال معاً.  
وهكذا، ومجدداً، فقد سبق الواقع الخيال.
ومنذ أغلقت ابوابها جريدة "السفير" التي كانت تحتضن "السفير العربي" كملحق اسبوعي لها، قررنا القتال حفاظاً على استمرارية هذا المشروع، مع إدراكنا لمقدار ما تعاكس ملامحه ما هو سائد ومهيمن في منطقتنا والعالم. وقررنا عدم المساومة على تلك الملامح، ليس تصلباً بل زوداً عن المعنى الذي يحمله المشروع، والذي من دونه يُصبح نافلاً. ونحن نواجه في ذلك مصاعب جمة ولكننا بصدد تفكيكها وتجاوزها، من دون ارتضاء التسليم بما يقال أنها "حقائق" يقال لنا أننا نتعامى عنها عناداً:
-     من أنه لا منطقة عربية أصلاً. ليس أنه لا بد من نقد الفكر القومي القاصر والبدائي، بل دفعاً للتسليم بالتفكك، وهو لا قعر له سوى العدم. ومن أن بنية مجتمعاتنا قبلية مذهبية، وإلا فجهوية أو اثنية، وأنه لا حقيقة سوى هذه المكونات الاولية (الاصلية؟)، هكذا باطلاق يتناسى أنها إنما تنحو الى التصارع وتأجيج التعصب الذاتي والانغلاق (على مستويات حياتية "عادية" ويومية وعنفياً أحياناً) لأنها فقدت الديناميات المحفزة للعوامل الجامعة بينها والموجهة لحركتها. بينما اختار "السفير العربي" ألا يملك "هويّة" داخل الاستقطابات الرائجة أو مصالح تنتمي اليها. وهو يتعامل مع الوقائع من منطلق وزاوية مختلفين عن هذا الاتجاه، فيهتم بجهود تدارك العنف لأنه يقلب قوانين الاجتماع الانساني ويحكمها الى "الاستثناء"، ولكلفته العامة غير القابلة للتعويض. وهو يلتفت إلى هموم الناس الاقتصادية والاجتماعية وعذاباتهم واحباطاتهم وأيضاً طموحاتهم، بغض النظر عن كونهم عرباً أو كرداً أو أمازيغ، مسلمين أو مسيحيين أو من أي ملّة أخرى.. أو من دون ملّة.
-    ومِن أن مسألة فلسطين لم تعد مؤثرة بحال، وأن تحرّرها من الاستعمار الاستيطاني الرابض فوقها قد نُسي و/أو فشل، بينما "السفير العربي" منخرط فكرياً ونضالياً في البرهان على عكس ذلك، كموقف منحاز الى مبادئ انسانية عميقة من جهة، وكحقيقة موضوعية من جهة ثانية لا تمرّ مناسبة كبرى إلا وتبرهن عليها.
-    وتسخر الايديولوجيا الطاغية في منطقتنا (كما في العالم) من التمسك بمنظومة قيمية منحازة الى رفض الظلم والغلبة والاضطهاد والتحقير والافقار الخ.. بينما يعتبر "السفير العربي" أنها ليست اقداراً، بل تنظيماً اجتماعياً يمكن قلبه. يجب قلبه. وهو يكرس كل وجهته لحمل هذه القناعة والبرهان عليها.
-    وهي تسخر من الانجاز الجَماعي، وتؤله الفردانية، وتعتبر أن التحقق الوحيد هو ذاك المتمثل في "نجاح" ابطال في أي ميدان كانوا. بينما يقيس "السفير العربي" نجاحه في ترسيخ شبكة كتابه وكاتباته والمساهمين فيه وقرائه، واتساعها المضطرد وتنوع افرادها. وهؤلاء هم وجهه الوحيد.
-    ويجري تصوير منطقتنا - من الاخرين، واحياناً من قبل ابنائها هم أنفسهم - كمكان متخلف وعاجز ومتخبط  ودموي الخ.. ويُسوّق ذلك كخاصية "جينية" لصيقة به، لا فكاك منها، بينما يبحث "السفير العربي" عن إبراز الامكانات الهائلة التي تختزنها هذه المنطقة والقائمة فعلاً في كل المجالات، ويقدّم المبادرات الجماعية وأشكال المقاومات اليومية والمجهودات الفكرية والفنية والجمالية التي تعبّر عن نفسها كل يوم. ويعتمد هو ذاتياً الاتقان في ما يؤديه، ويرفض التقريبية والاستنساب والاكتفاء بالحد الأدنى، ولا ينشر إلا لكتاب وكاتبات وباحثين وباحثات ورسامين ورسامات وفوتوغرافيين (الخ) من أبناء المنطقة، يمتلكون جدارة أولاً، ويتقاطعون فيما بينهم في اهتماماتهم وقناعاتهم وفي تصديهم للبشاعة والإحباط والتيئيس. وهو بذا يضع في التطبيق شعاره: "البحث وسط الخراب عما ليس خراباً، والتمسك به وتقديمه"، كبرهان على "الاحتمال" الذي يتطلب بالطبع جهداً عنيداً ذكياً متواصلاً ليصبح "إمكاناً".
فهل مشروع كهذا يمكنه العيش؟ هل توجد فئات - مهما كانت اليوم قليلة - تتعرّف على نفسها فيه، ويهمها صونه. نحن، الشبكة الواسعة ممن يحملون "السفير العربي"، نعتقد ذلك، ولكننا نطرح عليكم التساؤل بصدق وبلا سذاجة: نعرف حدود هذا الجهد، ولكننا نفترض أنه - وسواه - قد يصلح نقطة ارتكاز وإنْ متناهية الصغر، ذرة من بين سواها، تشكل معاً طاقة تحويل الاحتمال إلى إمكان!

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...