البكاء المموسق.. ورقة الحزن العراقية الخضراء أبداً

نص أول من مجموعة نصوص تُقدم الغناء العراقي، تُناقش تميّزه المعترف به، وخصوصيته، وعلى ذلك دوره في حياة مجتمعه.

عرف العراق الحزن مبكراً. الصوت الجميل كان تجربة لتحويل اتجاه الحزن لا أكثر. غالباً، كان الأمر يتعلق بتجسيد مأساة مقتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب كي لا تمحوها الذاكرة العجلى. ذهب العراقيون منذ العصر العباسي نحو تحويل رثاء أقدس شهدائهم، حفيد الرسول، إلى فن صوتي. وحينما جاء البويهيون شاع الأمر ووجد مناخاً مناطقياً له، لكن شيئاً ما دفع بهذا الترنم الحزين إلى واجهة الصراع السياسي، ليدخل حيز التعبير عن المعارضة عبر المزج بين واقعة الطف من الماضي وما يمد لها بصلة من وقائع الأزمان اللاحقة بها.
 

فن الحزن
 

تحتفظ ذاكرة شيعة العراق بغالبية الأسماء المؤسِّسة لهذا الفن الذي صار له أنماط وقواعد، وانقسم لاحقاً إلى ثنائية الأصالة والتحديث. وعلى الرغم من انشغال تيار الأصالة في صياغة "اللطمية" بحسب مقاسات الفاجعة الحسينية، إلا إن هذا التيار كان شغوفاً بمساحة الشعرية على حساب اللحن المؤدَّى. ومع ستينيات القرن الماضي بدأ الرواديد وهم منشدو حلقات الحزن هذه بالمغايرة. تشترط اللطمية الانتظام في لطم الصدور بتناغم يسيطر عليه الرادود عبر آدائه المتزن، الذي تختلط فيه مزايا الناعي بالمنشد حتى يصعب التمييز بينهما، قبل هذا يكون الشاعر والرادود قد وجدا روحاً تجمع موهبتيهما في بوتقة الحزن والولاء لقضيتيهما. يكون هذا سابقاً لتقويم التراجيديا الشيعية والذي يبدأ من محرم الحرام وحتى ما بعد منتصف شهر صفر فيما سبق.. أما اليوم فقد اتسعت مناخات الحزن لتستحضر غالبية المآسي التاريخية لهذه الطائفة على طول العام.
ترتبط اللطمية بالمحاضرة الحسينية التي تسبقها عادة. وبعد أن ينهي خطيب المنبر وعظه وتذكيره السردي بواقعة الطف، يشرع الرادود بالإنشاد ويعضده الحضور بترديد مطلع القصيدة المموسقة ولطم صدورهم. وحتى سبعينيات القرن الماضي كان العزاء الحسيني لا يغادر المقامات الموسيقية الرتيبة والفخمة. حينها برز اسم حمزة الصغير كوريث لأسلافه من"الرواديد" في الإنشاد الأصيل الذي يليق بقدسية الواقعة والحزن ضمناً. حمزة اليتيم والمولود في أزقة كربلاء الملتوية على شجنها الخاص امتهن أعمالاً كثيرة في شبابه كالعطارة وصناعة الأحذية، وحين أصبح اسماً معروفاً في مواسم العزاء أخذت صوته الأشرطة التي لم تكن آنذاك جزءاً أصيلاً من حياة الرواديد. كان حمزة مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بشاعر كلاسيكي اسمه كاظم المنظور، وكلاهما نجح في تطوير منظومة اللطميات نحو أفق أكثر التزاماً بالتصوير الشعري والمغايرة الموسيقية الهادفة. تبع حمزة الصغير في شهرته رادود آخر هو ياسين الرميثي واختلفا في سياق قصائدهما حيث ذهب الأول باتجاه تطوير المقامات، أما الثاني فكان أميل إلى تحديث المضامين وإشاعة الروح السياسية في لطمياته. ارتبط اسم ياسين الرميثي والشاعر رسول محيي الدين بقصيدة "يحسين بضمايرنه" التي أصبحت نشيد الشيعة المقهورين بفعل السلطة عبر عقود. كانت ميول الرميثي في قصائده سبباً في اعتقالات طالته هو وأبناءه، الذين أُعدم منهم ثلاثة، ومن ثم هجرته من العراق بعد انتفاضة عام 1991.

 

تحديث الحزن
 

وفي الثمانينات والتسعينيات من القرن الفائت تعرّف العراقيون داخل وخارج العراق ــ على الرغم من فرض السلطة رقابة متزمتة ــ على شابين سيكونان الأشهر عبر السنوات في هذا الفن الصوتي، جليل وباسم الكربلائي. كانا ممن هربوا من العراق عقب ما يُعرف بانتفاضة صفر عام 1977 والتي حرّم فيها النظام الشعائر الحسينية، وأفرزت مواجهة مع السلطة أُعدم فيها الكثيرون. جليل الأكبر سناً كان معروفاً من الشيعة في دول الخليج وكذلك المنفيون العراقيون في سوريا وإيران، وكان باسم الكربلائي، الذي سيغدو الأشهر، ملازماً له. كان من الواضح تأثير ثقافة الكاسيت على شيوع هذين الاسمين وكيف كان تسرب صوتيهما المسجلين إلى العراق يمثل تمسكاً بروح الشعائر الملغية قسراً.
 

عبر عقود متلاصقة وضع الشيعة في أصواتهم حزناً كثيفاً مطعماً بنبرات سياسية لا تخفي الانتماء لشعور الاضطهاد الثقيل، مرّت السنوات والأصوات تزدحم في أذن المجتمع مرة بحفيف المعاناة ومرة بصخب المواجهة دون انقطاع
 

أسباب كثيرة حدت بشيعة العراق وآخرين إلى التشبث باللطمية كفعل معارض، وأهمها بث الحزن والنواح على سيل المصائب الذي لحق بهم عقب إعدام المرجع محمد باقر الصدر عام 1980. جليل الكربلائي كان ملتزماً بالمقامات ذات الجمل الموسيقية الرتيبة غير أنه بدأ بتحديث موسيقاه وقدراته في الإنشاد عقب انتفاضة 1991، أما باسم الكربلائي فقد كان ميّالاً إلى تحديث لا تحده حدود منذ بروزه، وهو ما جعله يتسيّد هذا الفن لاحقاً. وفي ظل تلك الأجواء بدأ الشباب الشيعة يتحسّسون حناجرهم في كل مكان. كان من الواضح أن القصائد تكتب وأن الرواديد ينشدون في عتمات البيوت داخل العراق في التسعينيات. وغلب على هذه المرحلة التعريض بالسلطة عبر كنايات تربط بين يزيد بن معاوية، الخليفة الأموي، وبين صدام حسين، على خلفية حملات القمع الممنهجة ضدهم. وبدأ نظام صدام حسين يجد في هذه الأنماط أمراً بسيطاً لا يؤثر عليه بعد أن أعدم المرجعيات الدينية والاجتماعية، وأباد المنتفضين ووضعهم في مقابر جماعية. كانت أشرطة التسجيل تتسرب إلى العراق عبر التجارة الخاصة التي ازدهرت مع سوريا والأردن في ظرف الحصار، وباتت سوريا مشغلاً أساسياً لمؤسسات الهندسة الصوتية التي تنتج هذا الفن الصوتي إلى جوار المحاضرات الدينية، بالإضافة إلى بث الاذاعات العابرة للحدود.
كانت تجربة السيد محمد محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر، أمراً مهماً في سياق تنامي ظاهرة اللطميات، إذ كان الصدر الثاني ــ كما يصفه الشيعة ــ مهتماً بهذا الفن باعتباره شكلاً من أشكال المعارضة لنظام البعث. وقد وصل الأمر بالرجل الذي تم اغتياله وابنيه عام 1999 إلى إنشاد لطمية بصوته في إحدى خطب الجمعة وهو أمر لم يعرفه الوسط الشيعي مسبقاً. فالغالب على علاقة المرجعيات بالعزاء الحسيني منذ قرون اقتصارها على الحضور. ومنذ تلك اللحظة التي وقف فيها محمد الصدر لاطماً صدره ومنشداً قصيدة للشريف الرضي من على منبر مسجد الكوفة، غدت هذه التجربة تعزيزاً لوظيفة اللطمية السياسية والتي تمثل إضافة لأنماط المعارضة في منطقتنا بشكل حقيقي وواسع.
 

عودة الشعائر

عقب احتلال العراق عام 2003 وعودة الشعائر بعد حظرها على مدى عقدين ونصف، انشغل شيعة العراق بتنظيمها، وغدا المشي إلى المراقد هاجساً يقود الجموع، خصوصاً مع تحديات الهجمات الإرهابية التي قتلت الآلاف. في البداية، كان بروز الشباب طاغياً كرواديد ينشدون في كل مكان بأصوات تتلمس طريق الشهرة، ومثلّت عودة جليل وباسم الكربلائيين انتصاراً لمن ينتظم في هذا المسلك الفني. حينها لم يكن للتيار القديم من الرواديد حضوراً وباتت قصائدهم الرتيبة لا تجد متلقين كثر. الرادود وطن النجفي وهو من جيل حمزة الصغير وياسين الرميثي، حضر موسم العزاء الأول بعد الاحتلال وحاول المحتفون به اتاحة الفرصة له داخل ضريح الإمام الحسين في كربلاء، غير أن الجموع الكثيرة لم تكترث لنمطه القديم.
وقد ساهم البث الفضائي وبروز الفيديو كليب في نشر اللطمية إلى مساحات أوسع وتقديم المنتج الفني بطريقة جاذبة إلى حد بعيد. غير أن طبيعة المواقف السياسية للتيارات الشيعية أفرزت أنماطاً متعددة تصنف جميعها تحت خانة الإنشاد الديني.. التيار الصدري الذي قرر مواجهة الاحتلال عسكرياً وجد في أصوات مجموعة من شبابه المندفعين، مثل أحمد الساعدي وعلي الدلفي، ترويجاً لمشروعه عبر نمط تتميز موسيقاه بالسرعة وبإدخال عناصر موسيقية عديدة بالإضافة لأصواتهم الشجية. بدأت الموضوعات والأنماط الموسيقية تتعدد فمن مواجهة الاحتلال، إلى الأحزاب الشيعية في السلطة، إلى مواجهة الإرهاب، ومن الأداء السريع إلى المقامات الأصيلة المتداخلة بتنويعات رشيقة.
امتدت الأيام بالإنشاد الشيعي حتى مرحلة مواجهة "داعش" وهو يمتلك زخم مواجهات عديدة في الأفق السياسي والاجتماعي. وكعادة هذا الفن الموسيقي، فقد وضع نفسه في مرحلة تصد واضح لكل التحديات التي تحيق بشيعة العراق. فضائيات ومواقع الكترونية ومنابر تزدحم اليوم بالرواديد في اتساع لمشهد العزاء الذي كان لا يتسع للكثيرين، وأهواء سياسية تدفع باتجاه دعم بعض الشعائر غير المتفق عليها كالتطبير والترويج الطائفي في متن القصيدة المموسقة كإجراء دعوي وترويجي.
عبر عقود متلاصقة وضع الشيعة في أصواتهم حزناً كثيفاً مطعماً بنبرات سياسية لا تخفي الانتماء لشعور الاضطهاد الثقيل، مرّت السنوات والأصوات تزدحم في أذن المجتمع مرة بحفيف المعاناة ومرة بصخب المواجهة دون انقطاع.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه