اليهود في الفيلم وفي الواقع المغربي

أفلام ينتجها مخرجون مغاربة للتعرف الى مآلات مصير اليهود الذين غادروا المغرب ويعودون اليه لزيارة اوليائهم وحنيناً. ومنهم من بقي أصلاً بلا إشكال. "تعايش"؟ لا يمكنه تجاوز العطب: الصلة بإسرائيل
2017-05-17

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
سلمان ناواتي - فلسطين

دشن الملك محمد السادس في كانون الأول/ ديسمبر 2016 حي السلام في وسط مراكش، بعد ترميمه وإصلاح شوارعه وأسواقه المغطاة. وقد كان مؤثراً أن عمدة المدينة الإسلامي أطلق اسماً مباركاً من أسماء الله الحسنى على الحي الذي يضم محلات لبيع المنتوجات التقليدية وبازارات ومطاعم.. لكن بعد أقل من أسبوع تم إرجاع الاسم القديم للحي، وهو "الملاح" أي الحي الذي كان اليهود يقطنونه بالمدينة منذ خمسة قرون، بعد فرار الكثير منهم من الأندلس. وقد صدر بلاغ لوزارة الداخلية يؤكد إن إرجاع الاسم الأصلي هدفه المحافظة على الذاكرة التاريخية للأمكنة والحفاظ على التراث الحضاري لكل مكونات المجتمع المغربي.

 كيف حصل هذا؟

 تدخّل الملك بداية 2017 بعد أن اشتكى الحاخام، رئيس الطائفة اليهودية في مراكش، من طمس معالم المدينة، خاصة وأن باقي المدن المغربية تحتفظ للحي اليهودي باسمه، "الملاح"، كما تحتفظ الأزقة بأسمائها العبرية.
تعطي هذه الواقعة فكرة عن تجذر اليهود في المغرب بعد ستين سنة على مغادرة أغلبهم للبلاد في اتجاهات مختلفة، أهمها إسرائيل، بسبب الدعاية القوية للجمعيات الصهيونية. بل زعم المؤرخ الإسرائيلي يغال بن نون حين جاء للمغرب، أن السلطة رخصت لهجرة اليهود لإسرائيل مقابل خمسين دولاراً للفرد.

 كان اليهود يشكلون حوالي عُشر سكان المغرب حسب الرحالة الفرنسي شارل دوفوكو الذي تجول في البلاد في 1884 وحرر كتابه "التعرف على المغرب". وهم أبناء البلد الأصلاء، وقد أضيف إلى هؤلاء يهوداً نزحوا في حقبات مختلفة من إسبانيا هرباً من الاضطهاد، كان أبرزها في القرن السابع ثم في الخامس عشر بعد القضاء على الحكم الإسلامي في الأندلس (تطهير العام 1492، إثر مرسوم "الحمرا").

 وفي مطلع القرن العشرين كانوا حوالي نصف مليون. وقد حفظ اليهود للملك محمد الخامس رفضه تسليمهم بناء على قرار حكومة فيشي العنصرية التي تشكلت في باريس بعد سيطرة ألمانيا النازية عليها. وما زال المغرب يستفيد من نفوذ يهوده عبر العالم، وهم يرجعون للبلد بكثرة لزيارة أضرحة أوليائهم وإقامة أعيادهم الدينية..    
هكذا تقدم المنصة المراكشية التعدد والتعايش المغربي. تعدد يؤكد أن المغرب أكبر من أن يضعه أياً كان في جيبه تحت ذريعة أسماء الله الحسنى. هذه خلاصة مطمئنة ومثال عن قدرة البلاد على امتصاص الصدمات والأزمات في وقت يكتسح فيه الخراب العالم..
 

الأفلام
 

تمّ تناول هجرة اليهود من المغرب في أفلام عديدة منها "فين ماشي يا موشي؟" 2007 لحسن بنجلون عن هجرة اليهود في ستينيات القرن الماضي، وفيلم "عايدة" 2015 لإدريس المريني عن يهودية تعود من باريس لتموت في مسقط رأسها مدينة الصويرة، والفيلم القصير "يما" 2017 لهشام الركراكي عن يهودية تزوجت مسلماً دون أن يعرف بذلك حتى أولادها... والفيلم الأكثر ضجيجاً "تنغير جيروزاليم: أصداء الملاح"، 2014 لكمال هشكار.
 

حفظ اليهود المغاربة للملك محمد الخامس رفضه تسليمهم بناء على قرار حكومة فيشي العنصرية التي تشكلت في باريس بعد سيطرة ألمانيا النازية عليها.
 

كانت جل الافلام تخييلية رغم اشتغالها بمعطيات تاريخية عن هجرة اليهود بعد استقلال المغرب، بينما فيلم "تنغير.." توثيقي تم تصويره في المغرب وإسرائيل. وقد أثار الفيلم جدلاً عنيفاً بين وجهتي نظر متناقضتين بصدد يهود المغرب وصورة البلد. تعتبر وجهة النظر الأولى تصوير الفيلم وعرضه بمثابة خيانة للقضية الفلسطينية وتورطاً في التطبيع الثقافي.. للإشارة، في المغرب تمييز حاد بين اليهودي والصهيوني، وقد حفرت فلسطين أخدوداً بين يهود ومسلمي المغرب بينما تغذت الحركة الإسلامية، سواء المعتدلة أو الجهادية، على هذا الأخدود.

(من أهم ما غنّاه يهود المغرب في الخمسينات. هي أغنية احتجاجيّة، يحكي فيها جو عمر عن ذهابه إلى "دائرة العمل" التي كانت توزّع اليهود "القادمين" على الوظائف والأشغال. ويحكي كيف طردوه لأنه مغربيّ بينما استقبلوا البولنديّ بالأحضان).
 

أما وجهة النظر الثانية، فلا تنظر للمنطقة بل للمغرب لكشف التعدد في هذا المجتمع كحقيقة تاريخية من الخطر تجاهلها. شخصياً، لا أتذكر أني قرأت عن اليهود في مقرر التعليم المغربي طيلة سنوات دراستي العشرين. فقط جدتي كانت تتحدث عن "العطار" اليهودي الذي كان يبيع مواد التجميل في السوق الاسبوعي.. الشيء الوحيد الذي عرفته حين كبرتُ هو كيف يصنع الشباب "الماحيا" ("ماء الحياة") أي خمر يهود المغرب: يغلون التين المجفف ويقطرونه ويخمرونه.. وله مفعول فوري.

 وقد كان هذا الجهل بحياة يهود المغرب هو نقطة انطلاق المخرج الذي رجع من فرنسا إلى قريته "تنغير" جنوب شرق المغرب، يستفسر من جده عن المنازل الفارغة، فقال له إنها لليهود الذين غادروا البلد. لذلك قرر كمال هشكار تصوير وثائقي عن الموضوع الذي يجهله تماماً.

 وقفت الصحافة والجمعيات الأمازيغية بقوة في صف المخرج ودافعت عن الفيلم الذي أعاد الاعتبار للبعدين اليهودي والأمازيغي وتمازجهما في تاريخ المغرب، فيما بدا التشدد العروبي / الإسلاموي ذي عين واحدة، يريد توحيد المجتمع بالإكراه ليصير منسجماً أملساً، ولهذه المحاولة ثمن باهظ... حيث أقليات ذبحت قرباناً للوحدة الوهمية الشاملة.

 يضعنا فيلم كمال هشكار في سياق هجرة يهود المغرب قبل 1968 بعين ولسان شيوخ فوق السبعين، عاشوا الحدث ويمثلون مصادر حية. وقد قام المخرج برحلة بحث طويلة ليستجوب الأكبر سناً.
 

يهود المغرب في 1948

يستعيد الفيلم لحظة 1948 وما تلاها من زاوية مغربية، ثم السياق الذي صاحب مغادرة اليهود. وبالطبع أين كانوا، وماذا كانوا يعملون، وما نظرتهم الآن للمغرب كموطن للحنين.

 كان الحلاق العجوز شاهداً عن ستينات القرن الماضي حين كان يحلق لزبائنه اليهود في مدينة "تنغير" التي تقع وسط قبائل امازيغية جنوب شرق المغرب:

 كانوا تجاراً مهرة ويعترف لهم الناس بالتفوق فيها. ولهم قدرة هائلة على توفير التمويل وجلب السلع. كان الأطفال اليهود والمسلمون يلعبون في الأزقة، ويضيف الشاهد أن اليهود كانوا متشبثين بدينهم بشدة وكانت صلواتهم أيضا تنتهي بـ"آمين".
 

جدتي كانت تتحدث عن "العطار" اليهودي الذي كان يبيع مواد التجميل في السوق الاسبوعي. الشيء الوحيد الذي عرفته حين كبرتُ هو كيف يصنع الشباب "الماحيا" ("ماء الحياة") أي خمر يهود المغرب: يغلون التين المجفف ويقطرونه ويخمرونه.. وله مفعول فوري

كان هناك رقص وغناء مشترك في الأعياد والمناسبات الدينية.. لكن لا يمكن تزويج يهودية لمسلم. وهذه معلومة أساسية لتجنب كل نظرة مثالية للتعايش.

 تحدث الشاهد العجوز في "تنغير" عن وكلاء الصهيونية، يحصون اليهود ثم تأتي الحافلات لنقلهم للميناء. وقد اشتدت موجة الهجرة حتى عام 1963، بعد استقلال المغرب. غادر 250 ألف يهودي مغربي للخارج، جلهم ذهبوا إلى إسرائيل وفرنسا وأمريكا الشمالية. كان الصهاينة يعدونهم بالعمل والمنزل في إسرائيل.      

 لمعرفة أين ذهبوا وكيف هم الآن، سافر المخرج بكاميرا إلى إسرائيل للبحث عن يهود من "تنغير" فوجد عائشة وجيرانها يتحدثون الأمازيغية والعربية.. يحتفظون بألبومات صور بالأبيض والأسود لعلاج الحنين.

 كشفت عائشة، اليهودية، أن التعامل تغير بعد 1948، لم يعد اليهود والمسلمون يتبادلون السلام حسب السيدة العجوز التي عاشت في "تنغير" وتعيش الآن في إسرائيل ولم تغير اسمها. كشف استجوابها عن عمق الصلات، فالمغرب لم يعرف حرباً أهلية قط، ولم يكن هناك أي عنف. وقد قدمت أغنية حزينة عن الكيبوتس الذي رميت فيه.

 للاستراحة من الكيبوتس رجع بعض اليهود لترميم مقابر أجدادهم وتعريف أطفالهم بأصولهم.. ويشترون أشياء تذكرهم بمهن آبائهم في المنطقة.

يسألهم لم ذهبتم؟ هل كنتم غرباء؟

 سأل المخرج الابنة: هل أنت الإسرائيلية؟ أجابت "نعم إسرائيلية". سأل الأم عائشة فأجابت "أنا مغربية"، سأل شخصاً آخر له تعليم عالي هل أنت مغربي/ أمازيغي/ إسرائيلي؟ أجاب "أعيش هنا لكن لا أعرف هويتي بدقة. أنا في حالة صدمة".

 مؤرخ يهودي ولد جنوب المغرب قدم رواية توراتية عن الغرباء المؤقتين الذين سيعودون يوماً لأرض الميعاد. وهكذا تحققت دعوات الصلاة. كما قدم رواية سياسية: كانت الوطنية المغربية في صف فلسطين لذلك فهم اليهود أن عليهم الذهاب. مهاجر آخر أكد: لم تكن هناك لاسامية في المغرب. ماذا عنت هجرة يهود المغرب بكثافة؟ لقد فتح الفيلم جرحاً قديماً وأظهر محاولات طمسه أو استثماره حسب موقع كل طرف.

 

وزن فلسطين في المشهد المغربي

كانت فلسطين قضية سياسية وثقافية لجيلي في الخُمس الأخير من القرن العشرين. ومن مظاهر ذلك سحر رسومات ناجي العلي وأغاني مارسيل خليفة وبرمجة رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" و"رجال في الشمس" في المقرر التعليمي المغربي.. وكان الحسن الثاني يستقبل ياسر عرفات بحفاوة، وكانت فلسطين ورقة سياسية بيد الملك وبيد خصومه.

 كثير من الأحزاب المغربية تعتبر فلسطين قضية وطنية داخلية. حتى 1991 كان يوم الأرض حدثاً ثقافياً ضخما في مدينة تيفلت حيث درستُ.. لقد حفظتُ محمود درويش مبكراً وهو حاضر في كل المقررات التعليمية لمغربية. في الجامعة كان الطلبة يعيشون فلسطين في دمهم. يرددون "لا عَمان لا إفران، قولوا لتجار السلام: فلسطين عربية". كانت الانتفاضة الأولى والثانية تُعاش في المغرب يوما بيوم.. وتراجع الزخم يوم صارت فلسطين فصائل حماس وفتح، ومات عرفات.

 وضع الحسن الثاني سياسة ليحتفظ المغرب بصلة قوية مع مهاجريه، منها الاحتفاظ بجنسيتين وجوازي سفر وأنشطة ودعاية موجهة لهم واستقبال رسمي لممثلي المهاجرين. وقد أثمر هذا.

 ففي مهرجان وجدة حضر مغربي يهودي غادر المنطقة في 1967 نحو إسرائيل، ووقف يتحدث عن زيارته لأضرحة الأولياء اليهود في المغرب. وكان الفيلم القصير "يما"، الذي فاز بجائزة المهرجان، يحكي عن أرملة تكشف لأولادها على فراش الموت أنها أحبت والدهم المسلم وتزوجته رغم أنها يهودية.. والفيلم مقتبس عن قصة للرسام والروائي ماحي بنبين. المفاجأة أن الأولاد يستطيعون تحمل السر، لكن "يما" تريدهم أن يدفنوها في المقبرة اليهودية. وحين خلصوا نحيباً قرروا أن "يما" مصابة بالحمى، لكي لا يتبعهم عار "ولد اليهودية"..   

 في 2016، حول اليهود المغاربة في إسرائيل 300 مليون دولار للمغرب. صار بإمكانهم زيارة المغرب بسهولة. لكن الوجه الآخر للأمر أنه في رمضان تباع تمور إسرائيلية في الأسواق.  

 عادة تفتخر الصحافة العربية بلغة ملتوية بالتعايش المغربي، وتفتخر الصحافة الفرانكوفونية والأمازيغية بصراحة باليهود من أصل مغربي، بشخصيات مثل شلومو بن عامي، وبعامير بيريس الذي، حين زار المغرب، تحدث عن الملك محمد السادس قائلاً "سيدنا".. وفي هذا الافتخار تعامي عن كونهما مسؤولان إسرائيليان وإن كانا متمسكان بمغربيتهما. كما تحتفي بأندريه أزولاي مستشار الملك وابنته التي صارت وزيرة للثقافة في فرنسا. وتتحدث عن جوزيف شتريت ملك العقار في نيويورك الذي لم يغادر المغرب إلا في تسعينات القرن الماضي.. وتذكر بأن رئيس اليهود المغاربة في نيويورك يعمل حالياً سفيراً متجولاً للملك، وأنه في باريس، يُضحك جاد المالح الفرنسيين ويدعوهم لزيارة مراكش.. وأيضاً، يقود سيون أسيدون الذي يعرِّف نفسه بأنه مغربي يهودي وليس يهودي مغربي حركة المقاطعة BDS، كما لم يكن المناضل الراحل أبراهام السرفاتي أقل منه رفضاً للصهيونية. المشكلة ليست مع اليهود إذاً.. لولا الصهيونية. تلك هي الإشكالية الفعلية.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...

للكاتب نفسه