وصف المؤسّسة الإسرائيليّة الحاكمة بأنّها استعماريّة العقليّة والأداء، ليس مجرد ذم أو شتيمة، بل عليه ألّا يكون شعاراً أو سهماً خاطفاً، إنما عنواناً للتفكيك والفهم. هي مؤسسة استعماريّة لأنّها طبّقت وتطبّق أسس النُظُم الاستعماريّة حرفياً تقريباً. إحدى تلك الأسس، وربّما أوّلها، هو المعروف بـ"فرّق تسُد": تفكيك المجتمع المُخضَع للقوة الاستعمارية بشكل مفتعل، أو تعميق انقسامات قائمة بأساليب تدخّل متنوّعة، لمنع تشكّل هذا المجتمع سياسياً، ومنع تطوّره الكفاحيّ المقاوم.
تناقض الطوائف وإلغاء العروبة
واحدة من الدراسات الأكاديميّة غير الملتفت إليها، والتي وضعها الباحث الإسرائيليّ يئير بويمل عام 2007، تكشف كيف طبّقت إسرائيل هذا المبدأ بشكلٍ منهجيّ. وهي تبيّن، من خلال وثائق وبروتوكولات رسميّة معتمدةً ومأرشفة، أن تقسيم العرب الفلسطينيين على أساس طائفيّ كان هدفاً مُعرّفاً ومدوّناً تتم مناقشته وبحث سُبُل تطبيقه بكلّ اعتيادية في إطار التخطيط السياسيّ وتقييم السياسات الرسميّة.
يُستدلّ من الوثائق والبروتوكولات المختلفة أن الحكومة دأبت على التجاهل التام للأسس المشتركة لجميع العرب الفلسطينيين، مشددةً فقط على ما يفصل بينهم، ضمن محاولة واعية لإنشاء مشهد أقليات ذات ارتباطات واهية بين بعضها البعض. ويرى الباحث أن الدولة الإسرائيليّة عملت على تعميق الانقسامات التي سبق أن كرّسها الاستعمار العثماني ثم البريطاني، وتوسيع الشروخ، بل حتى خلق صراعات وخصومات داخلية قروية وحمائلية جديدة، في محاولةٍ لمنع تجدّد مجموعة قوميّة عربية بعد التمزّق الاجتماعيّ الذي حلّ بالفلسطينيين إثر النكبة.
بحسب المؤرّخ الأمريكيّ أيان لوستاك، فإنّ الفصل والتقسيم الداخليّ للعرب كان واحداً من أعمدة الأساس لسياسات الحكومات الإسرائيليّة ضدّ المجتمع الفلسطينيّ. فكان زعماء حزب "مباي" الصهيونيّ (والذي حكم منذ النكبة وحتّى عام 1977) واضحين في اللغة التي استخدموها في جلسات "لجنة الحزب لشؤون العرب". في جلسةٍ عُقدت في كانون الثاني/ يناير 1958، قال مردخاي نمير، الذي شغل مناصب عدّة، منها رئاسة الاتحاد العام لنقابات العمال ("هستدروت") وبلديّة تل أبيب: "يجب أن نفعل كل ما هو متاح من أجل إلغاء العروبة بنظر العرب والآخرين، بوصفها وحدة سياسيّة، والعمل وفقاً للقاعدة الصارمة، فرّق وأثّر. علينا ألا نلغي الفوارق بين طائفة وأخرى، حتى إن لم يتعارض ذلك مع المصلحة العامّة للدولة". أما رؤوبين بركات الذي شغل منصب الأمين العام لحزب "مباي"، فقال في الجلسة ذاتها: "يجب تطوير المصالح الطائفيّة لكل طائفة بواسطة التمييز الإيجابيّ ومنح الامتيازات، بحيث تُناقِض الطوائف بعضها، حتّى تقوم بين هذه الطوائف حواجز، ولا تمتزج ضمن وحدةٍ واحدة". وأضاف بركات بالتطرّق للمصالح الانتخابيّة: "لو كان بإمكاننا أن نخوض الانتخابات بقوائم طائفيّة، لكان ذلك إحدى وسائل إضعاف الحزب الشيوعيّ بين العرب، بحيث يكون التوجّه الطائفيّ عقبةً أمام كل أيديولوجيا."
"يجب أن نفعل كل ما هو متاح من أجل إلغاء العروبة بنظر العرب والآخرين، بوصفها وحدة سياسيّة، والعمل وفقاً للقاعدة الصارمة، فرّق وأثّر. علينا ألا نلغي الفوارق بين طائفة وأخرى، حتى إن لم يتعارض ذلك مع المصلحة العامّة للدولة". (مردخاي نمير، رئيس "هستدروت" وبلديّة تل أبيب 1958).
أنشأت الدولة الصهيونيّة ما سُمي "وزارة الأقليّات" في سنتيّ 1948 و1949، ثم حُلّت الوزارة وتشكّل منصب "مستشار رئيس الحكومة لشؤون العرب". في وثيقةٍ أعدّها مكتب "المستشار" في العام 1959 تحت عنوان "توصيات لمعالجة الأقليّة العربيّة في إسرائيل"، تلخيص لسياسة الحكومة في بند "التطوير السياسيّ والاجتماعيّ": "لقد سعت سياسة الحكومة في السنوات العشر الأخيرة لتقسيم السكان العرب إلى طوائف ومناطق. إن السياسة الطائفية والتقسيم العائلي في القرى عملا على منع تبلور المجتمع العربي في كتلة واحدة. هناك إمكانية لإبطاء وتيرة تقدّم العرب بواسطة سياسة التقسيم الطائفي والحمائلي واستخدام وسائل مفتعلة أخرى. يجب مواصلة استيفاء واستنفاد جميع الإمكانيات في سياسة التقسيم الطائفي، والتي أثمرت في الماضي ونجحت حتى اليوم في خلق شرخ، حتى لو كان مصطنعاً أحياناً، بين أقسام معينة من المجتمع العربي، مثل أزمة الثقة بين الطائفة الدرزية وسائر الطوائف العربية. إن هذه السياسة أعطت متنفساً لزعماء كل طائفة وطائفة لكي ينشغلوا بشؤونهم الطائفية بدلاً من الشؤون العربية العامة".
اختراع القوميّة الدرزيّة
أمّا مستشار رئيس الحكومة في حينه، شموئيل طوليدانو، فقد "تعمّق أكثر" فأوصى بإبراز الفوارق الطائفية داخل الطوائف المسيحية نفسها، وتحدث عن الفوارق بين الأرثوذكس والكاثوليك وتفضيل طائفة على أخرى وفقاً لقربها من القومية العربية ومن الحزب الشيوعي. وتحدث أيضاً عن ارتباط الدروز بإخوتهم في سوريا ولبنان وأكد أيضاً على ضرورة استخدام ارتباط المسيحيين بالكنائس خارج البلاد. أما رئيس الحكومة في تلك الفترة ليفي أشكول فقال بشكل واضح: "من مصلحة الدولة أن تفصل الطائفة الدرزية عن سائر المجتمع العربي". واتفق معه ممثل الحكم العسكري في لجنة حزب مباي لشؤون العرب ميشئيل شختر، الذي وضّح أحد الأهداف المركزية للمؤسسة في سياساتها نحو الدروز: "الأقلية العربية، وأنا أرفض مصطلح الأقلية العربية، وبرأيي يجب القول العرب في اسرائيل، ليسوا شيئاً متجانساً. لدينا القدرة على تشجيع عدم التجانس هذا. وإذا نجحنا بوضع الدروز في حالة المشتبه بهم من قبل العرب – وليس لأنهم مخلصون لنا – فهذا مهم جداً." بحسب بويمل فإن ذروة هذه السياسة كانت عام 1968 حين قررت الحكومة بشكل رسمي إلغاء الهوية العربية للدروز وتعريفهم على أنهم أبناء القومية الدرزية. وهو تعريف غير مقبول وغير معمول به بالمرة في أي مكان في العالم العربي. على الرغم من ذلك، اعترف طوليدانو بأنّ "تحديد الدروز بالخدمة العسكرية في الوحدة الدرزية (وحدة عسكرية حصرية لهم) وحتى لو لم يكن معلناً فهو معروف لهم ويثقل على شعورهم. كذلك، هناك من ينظرون إلى أنفسهم كدروز من الناحية الدينية لكنّهم عرب في قوميتهم، والممثل البارز لهؤلاء الدروز هو الشاعر سميح القاسم".
لدينا عصبيّات أفقيّة تعي بالفطرة اختلاف جماعتها عن سواها بنظرة مستوية. لكن الكارثة تقع، بل تُصنع صناعةً حين تُستبدل تلك الحال بعصبيّات تنكمش كلّ منها على نفسها كتورّمات لا يجمعها أفق ولا مستوى. هذا كان وما زال أساساً في كل نظام استعمار.
سادت خلافات في المؤسسة الحاكمة بشأن نجاعة سياسة التفرقة. ويُشار مثلاً إلى أن زعماء جهاز الأمن كانوا راضين جداً عن هذه السياسة، في حين أن المستشارين لشؤون العرب أيقنوا أن الأزمات القاسية التي يعاني منها المجتمع العربي في الدولة اليهودية تؤدي إلى تكتل هذا المجتمع، بكل أقسامه وطوائفه وفصائله، على الرغم من كل سياسات التفرقة المتبعة. أما أجهزة الأمن فقد رأت أن "الصمت النسبي وانعدام التآمر أو الانتظام في حزب عربي قد نجحت ليس فقط بفضل نشاطنا الوقائي، بل أيضاً بسبب عوامل فاصلة بين العرب أنفسهم". سعت هذه السياسات إلى منع نشوء قيادة عربية موحدة، وقد أوصى "المستشار لشؤون العرب" حرفياً ب"عزل القوميين المتطرفين من بين العرب واعتماد سياسة العصا والجزرة، الثواب والعقاب لردع الكارهين ولتجنيد عملاء". وهو توجه ترافق مع تنصيب زعامات وقيادات مؤلفة من "متقدمين في السن وأميين في وظيفة المخاتير"، و"قمع الثقافة العربية القومية، لمنع نشوء نخبة مدنية ولتعميق الشروخ الداخلية".
"هنا صوت إسرائيل..."
انسجاماً مع هذه السياسات، أقيمت في العام 1958 وحدة خاصة للدعاية "الموجهة إلى الأقليات"، وقد عملت تحت مركز الدعاية القائم في مكتب رئيس الحكومة نفسه، مما يشير إلى الأهمية التي علقت عليها والمهام التي أنيطت بها. هدفها، وفقاً للتعريف الرسمي في تقارير "مراقب الدولة"، كان "تعزيز الوعي المدني وشرح سياسة الحكومة ونشاطاتها لدى السكان أبناء الأقليات، من خلال دفع وتطوير علاقات التفاهم والصداقة بين أبناء الأقليّات واليهود". لاحظ مسؤولو هذه الوحدة، وفقاً لإحدى الوثائق، أن "المشاهدين العرب يعبرون عن رضاهم من العروض والنشاطات التي تبثها محطات التلفزيون العربية. جهاز الدعاية التابع لجمال عبد الناصر يعرض مارشات عسكرية وصواريخ، ويغمر المشاهد العربي بخطابات التحريض ويزيد من عداوة أبناء الأقليات للدولة ويشوّش اندماجهم في حياتها". أما الخلاصات فكانت "ضرورة خلق وعي حول قوة وصلابة الدولة، تقوية العلاقة بين المواطن والسلطة وخلق وعي بأن الدولة تعمل لصالح السكان". صُرفت أموال طائلة على مشاريع خلق الهويات الجديدة من خلال أجهزة الدعاية. ففي العام 1963، بلغت ميزانية وحدة "الدعاية للأقليات" 182,700 ليرة وشكلت نحو 9 في المئة من ميزانيّة مركز الدعاية، (يبدو أن هذه أكبر نسبة ميزانيات حظي بها العرب في تاريخ دولة إسرائيل). لكن هذه الميزانية لم تكن وحيدة، بل أضيفت لها ميزانية صحيفة السلطة المسماة "اليوم" ومختلف المنشورات الأخرى.
أو بالطريقة التقليديّة..
جرت سياسة التقسيم الطائفي الساعية للتفكيك بموازاة طرق أخرى للتخلص من "وحدة عربية" للفلسطينيين في 1948. أبرزها ال"ترانسفير" واستكمال مخطط التهجير الكبير عام النكبة. ومَن قاد سياسة الطموح إلى الترانسفير منذ "الانتداب البريطاني" كان رئيس حكومة إسرائيل الأول دافيد بن غوريون "وواصل هذا الأمل" بعد العام 1948 أيضاً، حيث إنه خلافاً لمعظم أعضاء حزبه، عارض إعطاء العرب مواطنة، إذ كان لديه أمل في أن تؤدي حرب أخرى إلى خروج العرب النهائي. ومثله كان الزعيمان الصهيونيان بنحاس لافون ويغآل ألون (وزيران سابقان) اللذان أيدا الترانسفير بحماس. اقترح آلون تشجيع مغادرة العرب البلاد بمساعدة "الصندوق القومي اليهودي" بحيث يشتري أراضيهم. وفعلاً، عمل يوسي فايتس، أحد زعماء "الصندوق" على دفع مشاريع ترانسفير بل أعلن بعد حرب عام 1967 من خلال مقال واضح في جريدة "دافار" إنه "يجب نقل كل عرب أرض إسرائيل إلى العراق وسوريا والأردن".
الموروث والورم
التجليات الطائفية والمذهبية "الدارجة" في مجتمعاتنا العربية، الريفية منها والحضَرية، متوارثة كطقوس الزفاف والعزاء. فهذه سكنت دائماً في مفاصل معمارنا الاجتماعي، وستظلّ في إطار المجاملات أو الموروث المعهود والمقبول - ولو على مضض لدى قلّة منّا. وعلى الرغم من إمكانية اعتبارها معيقات في سياق بناء مجموع مدني يرتقي فوق العصبيّات، فإنها لم تفتّ من عروبتنا التي ظلّت أقوى ملامح المشرق. هذه التجليات ظلت في حجمها، كمخزون اجتماعي ثقافي، قادر على معايشة تناقضاته، بل إنتاج الدعابة والنّكات المتبادلة المؤسّسة على العصبيّات الضيقة، ولو من باب العشَم والتسامح والثقة، دون أن يتحوّل الأمر إلى شعلة نار في هشيم انحطاط عنصري.
إن متّسعُ هذا الصنف من الدعابة في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق حفظ حصّة من الصحّة المجتمعية، على الرغم من العلل التعصبيّة الموسمية التي كان تحلّ علينا وتحلّ عنا بسرعة، كالإنفلونزا، التي يكفي صدّ شرّها كأس شاي دافئ. أما الجديد القبيح فهو نشوء أو إنشاء هويّات "جديدة" للطوائف والمذاهب ترفض شرعية كل من وما لا يستوفي شرط التماثل التام مع الصورة المقدّسة الموهومة المزعومة.
يمكن الوصف استعارياً / معمارياً إنه كانت لدينا عصبيّات أفقيّة تعي بالفطرة اختلاف جماعتها عن سواها بنظرة مستوية. لكن الكارثة تقع، بل تُصنع صناعةً كما ورد أعلاه، حين تُستبدل تلك الحال بعصبيّات تنكمش كلّ منها على نفسها كتورّمات لا يجمعها أفق ولا مستوى. هذا كان وما زال أساساً في كل نظام استعمار، وهو ما اقتضى ولا زال يقتضي التنويه والحذر واليقظة، والمعرفة عموماً.