"إبرام صفقة القرن" في تحقيق سلام إسرائيلي ــ فلسطيني ــ عربي. هكذا يحلم دونالد ترامب. بينما قد لا يمتلك القدرة على تحقيق سلام شامل حيث أخفق أسلافه، نظراً للفجوة الكبيرة بين مطالب الحد الأدنى الفلسطينية والموقف الإسرائيلي الذي لم يعد يقرّ حتى بمبدأ حل الدولتين.
لم يكن مفاجئاً تصريح الرئيس الأميركي لدى استقباله الرئيس الفلسطيني بأنه يجب توفير "فرص اقتصادية" للفلسطينيين في سياق محاولاته لإحلال السلام. استخدام المال الدولي و"التسهيلات" الاقتصادية الإسرائيلية لإلهاء وترويض الشعب الفلسطيني، الأضعف في جميع الأحوال، غير مستبعد أو صعب التطبيق. كما لم يكن مفاجئاً بأن ينصح بعض الخبراء الفلسطينيين رفيعي المستوى الذين استشارتهم الإدارة الجديدة (بحسب صحيفة "نيويورك تايمز") بأن لا أمل من إحراز تقدّم سياسي في هذه المرحلة، وبالتالي كل ما يمكن أن تقدمه أميركا يقع في مجال التحفيز الاقتصادي. فعلاً، قد يكون الاقتصاد هو الساحة الوحيدة المتوفرة لتحرّك السياسة الأميركية والدولية في الظروف الراهنة، خاصة أنه لا بد من الإقرار أن الاقتصاد الفلسطيني بدأ يتزعزع بسبب الضغوط الاجتماعية الهائلة المتمثلة بالفقر والبطالة وانسلاخ غزة والقدس عن مسار النمو الذي تسلكه بقية المناطق الخاضعة لولاية السلطة الفلسطينية.
في تعاملها مع مبادرات اقتصادية قادمة، أمام السلطة الفلسطينية خياران أساسيان: إما رفض الفكرة القديمة -الجديدة بشأن التعاون الاقتصادي لتهيئة المناخ لتقدم سياسي تفاوضي، أي تبني موقف يصر على أنه لا يوجد بديل اقتصادي عن حل سياسي، أو قبولها والتعاون مع ما يُطرح ضمن سياق "المتاح" من فرص لتحسينات اقتصادية محدودة. ونظراً الى أن الاحتمال الأول مستبعد بسبب وضع السلطة المتردي، وضعف الموقف الفلسطيني المنقسم بين غزة والضفة بشكل عام، فإن الخيار الثاني يبدو أكثر واقعية، كما إنه مناسب لقدرات السلطة ورؤيتها المستندة أساساً إلى استراتيجية "كسب الوقت" بانتظار تغيّر الظروف الدولية أو العربية أو الداخلية. هناك خيار ثالث لموقف فلسطيني تجاه "هجمة السلام الاقتصادي" المتوقعة، ربما لم تضعه السلطة في الحسبان، لكنه جدير بالتفكير الجدي، إذا كانت هذه السلطة تريد أن تعرف كيف تصمد اقتصادياً في المرحلة القادمة دون التفريط بمصالح فلسطين، الاقتصادية الحيوية والاستراتيجية.
للسلام الاقتصادي تاريخ حافل
مع أن مفهوم "السلام الاقتصادي" أطلق بهذا المسمى بعد صعود رئيس الوزراء نتانياهو إلى سدة الحكم في إسرائيل عام 2008، فإن للفكرة تاريخ طويل وعريق في سياق السياسات الإسرائيلية المتعاقبة لتنظيم العلاقة مع الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، إما كعصا لتحفيزه على عدم المقاومة أو كجزرة مغرية لترويضه وجعله متعاوناً ومستفيداً من الاحتلال. ومع تباين الوسيلة بين حقبة وأخرى، فإن تعامل الشعب الفلسطيني وقيادته ورؤوس أمواله مع مثل هذه المبادرات يتراوح بين الاستفادة الصامتة منها دون تشجيع بالضرورة (من منطلق لا حول ولا قوة...)، أو رفضها علناً كونها تطرح بديلاً عن حل سياسي، ومقاومة تحويل مثل هذه المبادرات إلى أدوات تستخدم لأغراض دعائية أو رؤى خارجية غير مناسبة للحالة الفلسطينية. أو التعامل معها إيجابيا (للأغراض الدبلوماسية المؤقتة التكتيكية).
ربما كانت سياسة وزير الدفاع الإسرائيلي موشي ديان، أولى التجارب مع السلام الاقتصادي في سبعينيات القرن الماضي، عندما طبق سياسة "الجسور المفتوحة" للسماح بتدفق المنتجات الفلسطينية إلى الأسواق الأردنية والعربية والإسلامية، في سعي لإقناع الأقطاب الاقتصادية التجارية (والقطاع الزراعي الكبير نسبياً حينذاك) إنه على الرغم من الحكم الاحتلالي الجديد، فلا حائل أمامها من مزاولة النشاط الاقتصادي والتجاري. في عام 1986 جاء وزير الخارجية الأميركي شولتز (في إطار أولى الاتصالات الأميركية ــ الفلسطينية الرسمية) ليطلق مفهوم "تحسين جودة الحياة" للفلسطينيين، للتمهيد لجهود سياسية للتوصل إلى حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لكن سرعان ما انفجرت الانتفاضة الأولى لتدحض فكرة أن الاقتصادي يسبق السياسي، إلى أن وصلت الأمور الميدانية إلى قوة ضغط على الاحتلال أجبرت رئيس الحكومة رابين، المنتخب عام 1992، على الإعلان عن رزمة تسهيلات للصناعة والتجارة والاستثمار والمصارف في الأراضي المحتلة.
مع انطلاق عملية السلام الشرق أوسطي عام 1991، في إطار مؤتمر مدريد، ارتقى مفهوم السلام الاقتصادي إلى عقيدة تستند لها العملية السياسية برمتها
مع انطلاق عملية السلام الشرق أوسطي عام 1991، في إطار مؤتمر مدريد، ارتقى مفهوم السلام الاقتصادي إلى عقيدة تستند لها العملية السياسية برمتها، مفادها أن بناء الثقة بواسطة التعاون الاقتصادي الإقليمي بين الأطراف العربية و م.ت.ف. من جهة، وإسرائيل وأنصارها الأوروبيين والأميركيين من جهة ثانية، سيأطر ويوجه مساعي السلام التاريخية. شهدت هذه المرحلة دخول أبرز المؤسسات الدولية إلى حلبة سيرك السلام، من باب تحليل المعوقات الاقتصادية أمام التعاون الإقليمي وفي العلاقة الاقتصادية الإسرائيلية ــ الفلسطينية. وأدلت جامعة هارفرد والبنك الدولي وغيرهما بدلوهم، في دراسات صدرت عام 1993 عشية الإعلان عن اتفاقيات أوسلو (و"باريس الاقتصادي" الملحق بها)، بل ربما استباقاً وتمهيداً لهذه الاتفاقيات.
دامت صيغة "بروتوكول باريس" حتى اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000 التي أكدت مرة أخرى أنه عندما يصبح الاقتصادي بديلاً عن السياسي، فإن الانفاق المالي والبذل الاقتصادي يصبح في مهب الريح أمام إرادة شعب، وهي لا يمكن شراءها أو هندستها استعمارياً
هكذا جاء "بروتوكول باريس الاقتصادي" روحاً ونصاً بمثابة الصيغة الأكثر تقدماً لمفهوم وترتيبات سلام اقتصادي متفق عليه، من خلال عدد من التسهيلات ومن تفويض الصلاحيات الحكومية والتدخلات التمويلية لإسناد عملية السلام والسلطة الفلسطينية الناشئة خلال المرحلة الانتقالية (1994-1999)، ولتوفير صفقة متكاملة من إجراءات بناء الثقة وتحسين نوعية الحياة للفلسطينيين والتعاون الاقتصادي مع الاحتلال. دامت صيغة باريس حتى اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000 التي أكدت مرة أخرى أنه، في نهاية المطاف، عندما يصبح الاقتصادي بديلاً عن السياسي، فإن الإنفاق المالي والبذل الاقتصادي يصبح في مهب الريح أمام إرادة شعب، وهي لا يمكن شراءها أو هندستها استعمارياً.
مع بداية العقد الأخير لعملية السلام، وقبل تراجعها الكبير، جدد بنيامين نتانياهو المفهوم في سياق معاودة المفاوضات السياسية مع القيادة الفلسطينية "ما بعد عرفات"، ودعم كل ما يسهم في إعادة بناء السلطة في الضفة. بينما ومن جهة ثانية، يشدد الاحتلال قبضته على قطاع غزة المحكوم من قبل حركة حماس. جاءت العديد من "التسهيلات" الاقتصادية والتجارية الإسرائيلية من خلال مواقف صريحة بأنه من شأن تحسين الأوضاع الاقتصادية الفلسطينية وتطوير سياساتها الاقتصادية المعتدلة تقوية الفرص في التوصل إلى اتفاق سياسي، ولاقت رفضاً فلسطينياً رسمياً للدخول في مشاريع تعاون أو تفاوض اقتصادي مع إسرائيل قبل إحراز تقدم سياسي ملموس يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967.
من المتوقع اليوم أن يتضمن أي تحرك سياسي أميركي جديد في الشأن الفلسطيني ــ الإسرائيلي جملة من الإجراءات والوعود والأفكار الاقتصادية الاستثمارية
كانت آخر محاولة جادة في هذا المجال مبادرة وزير الخارجية الأميركي جون كيري عام 2014 (تبنتها مجموعة الرباعية الدولية تحت مسمّى "المبادرة الاقتصادية الفلسطينية")، في سياق محاولاته الأخيرة لصنع إطار لاتفاق سياسي إسرائيلي ــ فلسطيني، وهي احتوت على برنامج واسع من المشاريع الاستثمارية الدولية في الاقتصاد الفلسطيني (تزيد قيمتها عن 11 مليار دولار). نظراً للتجارب الفلسطينية السابقة مع مثل هذه المبادرات الكبرى التي لم تصل إلى نتيجة سوى إدامة الاحتلال وتطبيع العلاقة معه، تعامل الطرف الفلسطيني هنا بحذر مع مقترحات كيري، ولعب دوراً فعالاً ومؤثراً في مراجعة بنودها وتفاصيلها وتعديلها بما يتلاءم والاحتياجات التنموية الاستثمارية الاستراتيجية الفلسطينية. لكن هذه المبادرة المغرية تبخرت بدورها مع هبوب رياح التعنت السياسي والزحف الاستيطاني الإسرائيلي، ثم مع تجديد المواجهات مع الاحتلال في غزة في عام 2014 وفي القدس والضفة الغربية عام 2015.
التعامل مع الجزرة والعصاة!
من المتوقع اليوم أن يتضمن أي تحرك سياسي أميركي جديد في الشأن الفلسطيني ــ الإسرائيلي جملة من الإجراءات والوعود والأفكار الاقتصادية الاستثمارية، تمهيداً (أو بالتزامن مع) لاستئناف جهود تفاوضية، في سيناريو قديم وإخراج جديد ومع اللاعبين ذاتهم، تحت عنوان "خلق فرص اقتصادية للفلسطينيين"، تحسباً لعدم توفر فرص سياسية بالمستقبل القريب.
وكانت أوساط استخباراتية وسياسية إسرائيلية ــ حتى قبل انتخاب الرئيس الأميركي الجديد ــ تروّج لأفكار كبرى مستوحاة من مدرسة فكر السلام الاقتصادي، من بينها ميناء بحري ومطار في غزة، والسماح بتوسع اقتصادي فلسطيني في بعض مناطق "ج" التي تحكمها الإدارة الاحتلالية الإسرائيلية، واستئناف مشروع إنتاج "غاز غزة"، وتوسيع دائرة التسهيلات في التنقل لرجال الأعمال، وزيادة عدد التصاريح الممنوحة للعمال الفلسطينيين في إسرائيل. من جهته فأن البنك وصندوق النقد الدوليين شددا في تقاريرهما الصادرة مؤخراً على ضرورة تكثيف جهود الإصلاح الإداري والمالي الفلسطينية وممارسة المزيد والمزيد من إجراءات التقشف المالي، مع أن تلك التقارير نفسها تؤكد على حجم الأثر السلبي للاحتلال وقيوده وهيمنته على الموارد الفلسطينية بكافة أشكالها. هكذا، وبينما يلوّح البعض بجزرة الاستثمارات الكبيرة والتسهيلات الفردية، فإن آخرين يضغطون باتجاه تبني سياسات مالية تزيد من تفاقم البطالة، ومن تخفيض فاتورة الرواتب والمستحقات المعيشية الأساسية، ومن تعجيل عملية سلخ اقتصاد غزة عن مساره الوطني الفلسطيني، وترك اقتصاد القدس العربية يواجه وحده ضغوطات الإخضاع الكلي للاقتصاد الإسرائيلي.
على فرض أن موقف "لا حول ولا قوة..." لا يليق بسلطة حكم ذاتي تسعى للارتقاء إلى مستوى دولة تنتهج سياساتها المستقلة، وأن موقف رفض التعامل مع مبادرات اقتصادية أو استثمارية (طالما لم يتم التوصل إلى اتفاق سياسي مع إسرائيل) غير واقعي دبلوماسياً وغير مفيد لشعب أمام هذا الكم الكبير من التحديات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة، فسوف تضطر السلطة إلى بلورة صيغ فلسطينية لما هو مرغوب ومقبول اقتصادياً، ولا يكون بديلاً عن تقدم سياسي يستند إلى احتمالات جدية وليس إلى مقتضيات كسب الوقت.
ودون الدخول هنا في تفاصيل المشاريع التي يمكن أن تتضمنها مثل هذه الأجندة الاقتصادية الاستثمارية، يمكن تحديد بعض الأهداف المبدئية الأبرز والمعايير لفحص مصداقية أية مبادرات أو تسهيلات اقتصادية قادمة، بغض النظر عن الجهة المبادرة ونواياها المحددة:
• أن تستهدف أي تدخلات خارجية (دولية أو إسرائيلية) وتشمل العودة بالمنفعة على جميع الأراضي المحتلة وأهلها، خاصة قطاع غزة والقدس ومناطق "ج" في الضفة الغربية، بل أن تتركز في تلك المناطق المنكوبة،
• ربط أية استثمارات دولية جديدة بإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني وبناء قاعدته الإنتاجية، مستهدفاً الزراعة والمياه والصناعة التحويلية والطاقة (قدرات التوليد والطاقة المتجددة) والبنية التحتية الاقتصادية،
• التركيز على المبادرات والمشاريع التي تؤسس للوظائف الاقتصادية السيادية للسلطة / الدولة، بعيداً عن دورها الخدمي المحلي، أي كل ما يعزز من قدرتها على تطبيق سياسات تجارية ونقدية مستقلة والتحكم التجاري والجمركي عند نقاط الحدود الفلسطينية،
• اشتراط دور أساسي وقيادي للمنح الدولية في أية مبادرات استثمارية، يليها الاستثمار الأجنبي الخاص، ثم يشرك بذلك الاستثمار الفلسطيني الخاص والعام، بما يبقي عبء الالتزام بأية وعود استثمارية على الجهات الدولية التي تبدو الأكثر اهتماماً والمقتنعة بضرورة مثل هذه البرامج الداعمة للعملية السلمية.
باختصار، على السلطة الفلسطينية ممارسة سياسة "فن الممكن" في رفع السقف عالياً، لمطالبها وشروطها في الملف الاقتصادي، والنظر إلى الساحة الاقتصادية كميدان مواجهة وإصرار على الحقوق الاقتصادية الأساسية دون أي مقابل فلسطيني. إذا استطاعت السلطة الحفاظ على مثل هذه المواقف المبدئية في تعاملها مع المبادرات الاقتصادية القادمة، فيمكن أن تقلل من أية آثار عكسية أو محاولات لاستخدام الاقتصادي لإحلاله مكان السياسي، بل أن "تتملك" مثل هذه المبادرات وتجعلها جزءاً من برنامجها للصمود والتنمية.