"النضال من أجل الحرية والكرامة" هو شعار الإضراب عن الطعام الذي بدأه أكثر من ألف معتقل فلسطيني يوم 17 نيسان/ أبريل، ينتمون إلى كل التيارات السياسية. والهدف هو كشف شروط اعتقالهم البشعة والمخالفة للقوانين الدولية، وإدانتها، أو ما وصفه مروان البرغوثي، القائد الفلسطيني المعتقل والمحكوم بخمسة مؤبدات (وفوقها 40 عاماً، ولعل هذه هي بغاية إظهار دقة وقانونية الأحكام!)، بأنه "أبرتهايد قانوني" في إسرائيل، حيث تُبرئ المحاكم كل إسرائيلي قتل فلسطينياً أياً كانت الظروف (بما في ذلك قتل الأطفال أو الجرحى أو "على الشبهة")، وتعتقل آلاف الفلسطينيين وتعاملهم ــ وتعامل ذويهم ــ بعنف منقطع النظير.
800 ألف فلسطيني مروا بسجون الاحتلال الإسرائيلي خلال 50 عاماً، منذ 1967. لا يوجد منزل أو عائلة ليس لديها معتقل حالي أو سابق. وبين هؤلاء آلاف النساء، وآلاف الأولاد والأطفال. ومن بينهم اليوم من يحوز على لقب "أقدم معتقل" في العالم.
الإضراب عن الطعام عمل سياسي شديد السلمية. وهو، كما يقول مروان البرغوثي، لا يؤذي إلا المقْدمين عليه وذويهم. ولكنه مرعب للسلطات التي تواجهه، فهو يعبر عن تصميم من أعلنوه على المقاومة، وهو في الوقت نفسه يكشف مبلغ سوء أوضاعهم التي تدفعهم لوضع حياتهم في خطر وتعريض أنفسهم لعذاب "الأمعاء الخاوية" (إضراب 2012 الشهير في فلسطين، الذي انتزع فيه الفلسطينيون رضوخ السلطات الإسرائيلية لعدة مطالب لهم، على رأسها ألا تلجأ إلى تجديد "التوقيف الإداري" لأي معتقل، أي التوقيف بلا محاكمة، لمرات عديدة وبلا حدود).
لقد صار للفلسطينيين "أيقوناتهم". ليس فحسب بوجود أقدم معتقل في العالم اليوم من بين صفوفهم، بل لتسجيل بعضهم لأطول مدة إضراب عن الطعام، متخطين الرمز العالمي، بوبي ساندز، أحد أعضاء الجيش الجمهوري الإيرلندي الذي خاض ومجموعة من رفاقه إضراباً عن الطعام لـ66 يوماً، أدى الى وفاته في 1981، بعدما أهملت مارغريت تاتشر الأمر، بتعمد وكموقف. والإضراب هو قتال المعتقل بجسده العاري، والسلطات التي لا تواجهه بالإهمال كما هنا، تلجأ أحياناً إلى التغذية القسرية، وهو عمل بالغ العنف والخطورة، عدا كونه يمثل انتهاكاً لحرمة الجسد وفق القانون الدولي.
يبدأ الفلسطينيون إذاً إضرابهم القاسي هذا، احتجاجاً على شروط اعتقالهم ولتحقيق "مطالبهم" على رأسها تيسير زيارات أهاليهم ــ التي تحيلها السلطات الإسرائيلية إلى عذاب مديد بوضعها المعتقلات داخل أراضي 1948 (وبعضها في صحراء النقب)، ما يعرقل الوصول إليها، وبلجوئها إلى المنع العقابي لهذه الزيارات، ويطالبون كذلك بتحسين العناية الطبية المقدمة لهم، والسماح لهيئات حقوق الإنسان الدولية بزيارتهم والاطلاع المباشر على أوضاعهم.. وهذه من بين مطالب عديدة أخرى عددت في لائحة من 16 نقطة.
رد فعل السلطات الإسرائيلية "نموذجي": محاولة شق صفوف المضربين بالتلاعب على انتماءاتهم السياسية المختلفة، والتهديد بعقوبات كالعزل الانفرادي لمن يتبع الإضراب، وبمنع الأهالي نهائياً من الزيارة.. ولكن الأهم هو "الاستنكار" أن يلجأ "إرهابيون" إلى رفع صوتهم.
ثم جُنّت السلطات الإسرائيلية لأن صحيفة "نيويورك تايمز" العالمية نشرت نص إعلان الإضراب كما كتبه مروان برغوثي، في يوم انطلاقه في 17 نيسان/أبريل. ونتيجة الضغوط المعلومة، أجبرت الصحيفة فيما بعد على إضافة مقطع باسم المحرر في نهاية النص المنشور يقول إن صاحبه "أهمل شرح الإطار الذي حُكم فيه الكاتب، وأن الأحكام كانت تتعلق بجرائم قتل بوصفه عضواً في منظمة إرهابية، وأن السيد برغوثي رفض وجود محامي للدفاع عنه، ورفض الاعتراف بشرعية المحكمة الإسرائيلية".
لم يقف الأمر عند هذا الحد. فقد استنكر نتنياهو وصف الصحيفة لمروان البرغوثي بـ"قائد وبرلماني فلسطيني" بينما هو "إرهابي متعدد، وقاتل". وقال مايكل أورين، الوزير الإسرائيلي المكلف بالعلاقات الدبلوماسية، أن الصحيفة تعمدت نشر النص في آخر أيام الفصح اليهودي (!) متجاهلاً بالطبع أنه تاريخ البدء بالإضراب، ومتجاهلاً بالطبع أنه "يوم الأسير الفلسطيني" المعروف عالمياً. وقال إن حكومته تدرس "عملاً عقابياً تجاهها" يمكن أن يكون مقاطعتها وإغلاق مكاتبها في إسرائيل، على غرار ما قام به شارون حيال قناة "سي أن أن" الأمريكية مع بداية الانتفاضة الثانية، لاعتباره وقتها أنها "تساعد الإرهابيين".. وأن المحرر الذي نشر النص في صفحات الجريدة يجب أن يعاقب، ولكن الصحيفة هي المسؤولة، وأنه "هجوم صحافي إرهابي"..
هكذا تثبت إسرائيل للمرة الألف أنها لا تطيق أي خروج عن روايتها للعالم، ولا تخشى اتباع إجراءات واتخاذ مواقف لو قام بها أي طرف آخر، آياً كان، لعُدّ مجنوناً و"نظاماً شمولياً"...
.. يبقى الهم الأكبر هو النجاح بإحاطة إضراب المعتقلين الفلسطينيين بالاهتمام والمتابعة والتضامن، حتى لا يضاف إلى عذاب الإضراب عن الطعام ــ وهو كبير ــ عذاب التجاهل وعدم الاكتراث.