نساء محملات بمؤونة ثقيلة ومكلفة يتزاحمن على باب السجن الحديدي الثقيل. لا يزور الرجال أولادهم في السجن باستمرار، وقد لا يزورونهم أبداً إذا اعتُقل الشاب للمرة الثالثة. طابور طويل في انتظار الدخول، تفتيش دقيق لأن السجناء يُجبرون أمهاتهم على جلب ما يساعدهم على تخدير العقل. هذا مشهد يومي في أكثر من ثمانين سجناً في المغرب. لكن هذا القهر لا يطفو على الصفحات الأولى للجرائد. ما يطفو عادة هو تسريب صور ما يجري داخل السجن على مواقع التواصل الاجتماعي، من حشيش وسيوف وهواتف وتباهي بالرجولة.. حينها يتذكر المجتمع سجونه من الداخل. حينها يشتد الجدل فتتجدد عزيمة المؤسسة للضبط، لأن نشر صور يشوّه هيبة وخطاب المؤسسة السجنية، ويسيء إليها ويزعزعها.
"التجربة الأمريكية" في السجون المغربية؟
إدارة السجون لديها استراتيجية جديدة تقضي بتحسين تغذية السجناء، وتقليص معدل الاكتظاظ، ورفع المساحة المخصصة للسجناء من 1.3 متر مكعب إلى ثلاثة أمتار خلال 2018. لتزغرد أمهات السجناء!
المؤسف أن الأمهات لا تزغردن لأنهن تتعاملن مع السجون لا مع الإستراتيجية التي كُتبت على الورق وسمّتها الصحف "التجربة الأمريكية في السجون المغربية". كان في المغرب 77 سجناً بطاقة استيعابية تبلغ 40 ألف سجين، بينما هي تأوي 76 ألف سجين. أي أن السجناء هم ضعف الطاقة الاستيعابية تقريباً. مرّت أشهر، وحسب "المرصد المغربي للسجون"، فقد ازداد ازدحام السجون، ويمكن أن تصل نسبة الإشغال فيها إلى 328 في المئة. الوضعية تسوء لأن عدد السجناء يتزايد أكثر من السجون. ففي نهاية 2016 تكدس 80 ألف سجين في 82 سجناً، مقابل 74 ألفاً قبل عام، بحسب تقرير المرصد. أكثر من ربعهم معتقل بسبب المخدرات. لا يُعقل أن ينتج المغرب الحشيش بسخاء ولا يظهر ذلك في السجون. تُبين هذه الأرقام المختلفة التي تم رصدها في فترات متعددة أن الوضع يتغير، لكن التوجه ثابت.
مع نشر هذه الأخبار، وللسخرية، ذكرت صحف المملكة المغربية أن مملكة هولندا تغلق السجون لعدم توفر المجرمين. للرد على الشامتين، يؤكد الإعلام العمومي السعيد أن السجن فضاء لإعادة التأهيل. ينبع هذا التعريف من إيمان عميق بالطبيعة البشرية الطيبة، لكن الوقائع تثبت أن دخول السجن يدفع البشر لمستويات شرٍّ عليا. تحتكر الدولة العنف الشرعي لتعاقِب، لكن من المشكوك به أن يغير العقاب طبع البشر. للإشارة استلهم دوستويفسكي روايته "الجريمة والعقاب" من فترة سجنه.
سطران من التفلسف يكفيان ليرجع السوسيولوجي البصاص إلى الوقائع والمعطيات: لقد بني 17 سجناً بين 2001 و2005 وسيبنى المزيد. لماذا يحتاج المغرب سجوناً جديدة؟ يقول برتولد بريخت "إن الناس قد فقدوا ثقة الحكومة". وما الحل؟ أن تبني السجون. وهذا ما تفعله الحكومة المغربية بعزيمة منقطعة النظير.
كثير من المعطيات وقليل من التفلسف
حسب الشرطة المغربية، تم توقيف أكثر من 28 ألف شخص في شهر تشرين الأول / أكتوبر 2015. بينما بلغ عدد الأشخاص الذين تم توقيفهم بمدينة فاس 4272 شخصاً خلال شهر واحد في 2016، لارتكابهم جرائم. الخلاصة من الأرقام هي أن البوليس حفظه الله وأطال عمره يعمل ليلاً ونهاراً والدولة ستبني سجوناً لاحتضان حصاد البوليس.
حسب الإحصائيات، فسجون المغرب تحتل المرتبة الأولى في الاكتظاظ في شمال أفريقيا والشرق الأوسط. معطيات يعجز أي تحليل عن تجاوز مفعولها بدعوات حقوقية لأنسنة السجون. وهناك طبيب لكل 800 سجين.. وهذا أفضل من حال المغاربة غير المسجونين.
اتضح أنه تتم إدارة الجرائم من داخل السجن... وكلما ظهرت صور عنف وفوضى تقع موجات للردع. ولكن حين تكون المحاسبة موسمية فهي بلا مفعول ويعود الوضع لما هو عليه، في انتظار أن يعلن مدير السجون من جديد عن حملة ضد السجناء الـ VIP ويتوعد مساعديهم بالعقوبة
ومن علامات الأنسنة تحويل أشكال العقاب من عقاب بدني (السجن) إلى مالي (غرامات). ويتم تخفيض العقوبات في الاستئناف لإفراغ مساحات في السجون. ومع الأنسنة صار الكثيرون يرددون في حالة الغضب "اللهم ارزقنا الحبس معاً"، ويفسر المغاربة هذه الأمنية بما تسميه إدارة السجون "أنسنة ظروف الاعتقال".. يفسر ذلك برفاهية السجون.
يكثر الحديث عن أنسنة السجون وتقع جرائم ويزداد عددها. هذه عينة من الأخبار التي تتكرر في الصحف:
اعتداء بالسيوف أمام المسجد وسط النهار بالرباط. لصوص يهاجمون فرقة أمنية ويصيبون شرطياً. وقعت جريمة قتل راح ضحيتها قاصر إثر تلقيه طعنة غادرة بواسطة السلاح الأبيض على يد قاصر آخر. وتعود أسباب الحدث إلى نشوب نزاع بين الجاني وشخص ثان حول سيجارة، تحولت المشادة إلى عراك انتهى بتسديد طعنة بواسطة سكين من الحجم الكبير على مستوى العنق الى الضحية الذي تدخل لفض الشجار بين الطرفين لترديه قتيلاً على الفور. المشادة سببها إثبات "الرجولة من الطفولة".
حين تكتب في غوغل بحثاً عن خبر "قتل بسبب سيجارة" تكون النتيجة صادمة.
وداعاً أنسنة السجون
مع تواتر الجرائم، كان لا بد من تشديد الحراسة على فرار السجناء، على دخول الممنوعات، على الاتصالات الهاتفية، على التقاط الصور. وقد اتضح أنه تتم إدارة الجرائم من داخل السجن. والخطير أن في السجون معتقلون إسلاميون ومتهمون بالإرهاب يؤثرون على سجناء الحق العام.
وهذا يزيد من صعوبة تدبير الفضاء السجني. كلما ظهرت صور عنف وفوضى تقع موجات للردع، وحين تكون المحاسبة موسمية فهي بلا مفعول ويعود الوضع لما هو عليه، في انتظار أن يعلن مدير السجون من جديد عن حملة ضد السجناء الـ VIP ويتوعد مساعديهم بالعقوبة.
وقد اشتكى مدير السجون من نقص الموارد البشرية. فلديه حارس واحد لكل أحد عشر سجيناً. ومع ضعف المراقبة تزداد حالات العنف بين السجناء، فالاكتظاظ يزيد من شدة الاحتكاك. ليس صدفة أن كثير من السجناء يخرجون ويفقدون عقولهم.
أكثر من ثلث السجناء المغاربة يعودون للسجن، ومنهم من يجد له "منفذاً" خارجياً. فحسب المعطيات، هناك 1600 مغربي يقاتلون في صفوف "داعش". ثُلُثُهم لقوا حتفهم، لكن السجون ستوفر بديلاً لهم.
في سجن عكاشة بالدار البيضاء تسعة آلاف سجين جلهم دون محاكمة، إنه "اعتقال احتياطي" اعتقال إداري للتخويف. هناك سهولة كبيرة في الاعتقال لردع المواطن.
السجن مكان لحجز الفقراء الخطرين غير الراضين عن وضعهم الاجتماعي، وجلهم أعمارهم بين ثمانية عشر وثلاثين سنة. والأسباب تافهة من وجهة نظر الغرباء، مثلاً مشادة كلامية تفضي إلى جريمة قتل. دون لغة خشبية، قال رئيس الوزراء المعزول "نبني سجوناً لشبابنا بعد فشلنا في تشغيلهم". وقال محامي حقوقي "لن يتم القضاء على الجريمة ببناء السجون".
سجن وسجان وأمهات في محنة
كان المغاربة يعتقدون أن السكن قرب سجن مصدر شؤم، لكن الواقع تغير قليلاً، فلا تعني كلمة سجن في مغرب اليوم ما كانت تعنيه منذ ثلاثين سنة. في عهد الحسن الثاني، كان لأسماء السجون وقع مرعب. سجن عكاشة بالدار البيضاء وسجن بولمهارز بفاس وسجن العاذر بالجديدة وسابقاً سجن لعلو بالرباط... سجون لها تاريخ وذاكرة سيئة وتستخدم أسماؤها للتخويف أو للدعاء على بعض الأشخاص مثل "الله يعطيك عام في حبس لعلو".
حالياً يتم هدم السجون الكبرى لبناء سجون محلية صغرى، والهدف تفتيت الكثافة. يجري تنقيل المؤسسات السجنية من وسط المدن واستبدال سجون قديمة مهترئة تهدد حياة السجناء وحراسهم، كما تهدد صورة النظام الملمعة. إدارة السجن فعل سياسي لأن السجن يضمن انقياد الرعايا.
حساب الحرية وحالات العود
يخرج السجين أكثر انتفاخاً وبياضاً قبل أن يصيبه غبار الواقع. فلحظة الحرية هي لحظة حساب عسير أيضاً، ففي أوان الخروج، يجد السجين الشاب الذي اعتقل في العشرينات من عمره وخرج في الثلاثينات أن قريناته تزوجن وأنجبن أو تفوقن في دراستهن وصارت لهن سيارات. التفوق الدراسي للإناث يخرب أسس تفوق الرجل المسبق في المجتمع الذكوري. لا يعرف السجين السابق معايير التفوق والتكوين، وقد تعوّد قانون الغاب في السجن حيث يحل المشاكل بعضلاته. في المجتمع تُحل المشاكل بالمال والمعرفة والعلاقات، وهذا ما لا يملكه السجين السابق. حينها يتزعزع وهمُ أن "السجن للرجال". ويدرك هو أن السجن للفاشلين الذين حاولوا النجاح بعضلاتهم وسكاكينهم.
حينها ينشأ لدى السجين وعي شقي وتنبت له تبريرات ليعزي نفسه. لكن العزاء لا يخفي الفروق بين من يملك ومن لا يملك. بل وكم يملك.. ياه كم هو صعب هذا العالم ومعقد! في حالات كثيرة يتم طمس أسئلة الوعي الشقي بالعودة للسجن في أقرب فرصة.
أكثر من ثلث السجناء المغاربة يعودون للسجن، ومنهم من يجد له منفذاً خارجياً. فحسب المعطيات، هناك 1600 مغربي يقاتلون في صفوف "داعش". ثُلُثُهم لقوا حتفهم، لكن السجون ستوفر بديلاً لهم. وقد صرح قيادي سلفي كان في السجن أن السجون تفرخ الإرهابيين، إذ قال إن عدداً من السلفيين تعرّف عليهم لما دخلوا زنازين معتقلي قانون الإرهاب وهم "دراويش"، لكنهم غادروا السجن بعد انقضاء مدة عقوبتهم وهم الآن قياديون في "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام".
وهذا ليس محلياً فقط، فحسب تقرير رسمي إسباني، فإن 40 في المئة من المعتقلين بسبب الإرهاب بإسبانيا مغاربة. مشكوك أن يقضي السجن على الشر. التشدد الحقيقي ليس وراءنا.
بلا تفلسف، من حق الدولة أن تستعد.