يصعب العثور عليهم مجتمعين. في البرلمان هما عضوان وللإسلاميين 125 عضواً، أي 62 ضعفاً. لذا فالبحث عن الرفاق مثل البحث عن إبرة في كومة قش. لكن فحص وضعهم مغر. في كلّ حي يمكن لقاء اثنين أو ثلاثة منهم أو يمكن قراءة صفحات البعض منهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لتشكيل صورة شخص لا يستطيع أن يفرح بالذكرى السادسة للربيع. لنصغي لصوت الرفيق القادم من بعيد وهو يعزي نفسه في اغترابه باستلاب خصومه.
الرفيق
لا يستطيع الرفيق أن يفرح للثورة التي أطلقها البوعزيزي لأن النتائج غريبة وداعشية. يعرف الرفيق أن الثورات التي أطلقها "البيان الشيوعي" في 1848 كانت لها نتائج محددة، حصرها المؤرخ الانجليزي إريك هوبزباوم في نهاية التقاليد السياسية للأنظمة الملكية باعتبارها ظل الله في الأرض. ونهاية شرعية مباركة المؤسسات الدينية لتلك الأنظمة. ونهاية الإيمان بالحقوق والواجبات التي يتمتع بها السادة المتفوقون اقتصادياً واجتماعياً. وأنه صار من اللازم على المدافعين عن النظام الاجتماعي أن يتعلموا السياسات التي تؤمن بالشعب.
النتائج مختلفة، من المحيط الى الخليج. يشعر الرفيق بالرعب من النتائج حين ينظر لسوريا واليمن والعراق وليبيا. الدول الثورية تخرّبت وستحتاج قروناً للتوحد لو توحدت، ولن يتهم أحد الآن سايس وبيكو..
لا يستطيع الرفيق أن يفرح ويتباهى بمقارعة السلطة. صحيح أن الرفيق يعرّف نفسه باليسار الجذري ويرى أن السلطة فاسدة، لكن بوليسها هو آخر سد لحماية البلد من هيمنة "الإسلامويين". هكذا يسميهم في لحظات الغضب فقط. ولا يمكن انتقاد هذا السد. هذا ما يفسر الصمت بينما تقوم وزارة الداخلية بإعفاء الموظفين المنتمين للعدل والإحسان.. يعرف الرفيق أن هذا خرق حقوقي خطير لكنه لا يدينه. يشعر بالعار لأنه صامت. لا يريد هدم سد النظام، ويصرّ على عدم مراجعة مفهوم الجذرية.
لماذا يتمسك بالجذرية؟
أولاً، ليتميز عن الأحزاب الاشتراكية التي تدافع عن خصخصة الماء والهواء. وثانياً لأنه يستطيع، من موقعه الجذري، نقد الجميع. لن يستطيع كل اليمنيين نقد الاشتراكيين كما يفعل الجذريون، أي من يفترض أن يكونوا أقرب حلفائهم.
لم يعد يفهم تماماً المشهد. يرى إسلاميين في الحكومة وإسلاميين في المعارضة لأن الله في عونهم. لا أمل لليسار الراديكالي ليحتل موقع المعارضة الذي ظنه شاغراً. وحدها وزارة الداخلية هي التي تكافح خصوم الرفيق بينما رفاقه صامتون أو يباركون
في ظل هذه الضبابية، يتأمل الرفيق المغربي ما يجري، من زاويته في المقهى، لم يعد يفهم تماماً المشهد. يرى إسلاميين في الحكومة وإسلاميين في المعارضة لأن الله في عونهم. لا أمل لليسار الراديكالي ليحتل موقع المعارضة الذي ظنه شاغراً. وحدها وزارة الداخلية هي التي تكافح خصوم الرفيق بينما رفاقه صامتون أو يباركون. كل نقد لوزارة الداخلية يبدو كصب للماء في طاحونة الإسلاميين. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لا تمضي مع وزارة الداخلية في الاتجاه نفسه. الاحتجاج على وزارة التعليم أشد من الاحتجاج على وزارة الأوقاف، لأن التلاميذ المغاربة يدرسون عشرات الساعات من الفلسفة ومئات الساعات من التربية الإسلامية لضمان مباركة المؤسسات الدينية للسلطة. وإنه لأمر ذو دلالة على المستقبل أن القرآن هو الكتاب الأكثر مبيعاً في معرض الكتاب بالدار البيضاء المؤمنة.. الرفيق بلا سند ولديه بعض المشاكل وقد ضعُف صفه لأن القمع جفف أرضيته، فقد ظلت الشرطة المغربية تعتقل حائز كتاب "البيان الشيوعي" حتى سنة 1984.
لا يستطيع الرفيق أن يفرح لأن الصراع الطبقي صار غامضاً. صار رجال الأعمال يفوزون في الانتخابات التي يصوّت فيها الفقراء للسادة المتفوقين اقتصادياً واجتماعياً. كان الرفيق يناضل باسم الفقراء ويعلن أن اليسار هو القائد الأول للعمل النقابي على المستوى الميداني، حتى لو كانت قيادة النقابات في يد شخصيات مخضرمة. لقد جعل اليسار من النقابة منبراً سياسياً. لذا يدين كل نضال ذي أهداف "خبزية" أي مادية بحتة. النقابة ـ كتنظيم مهني برجوازي أفرزه المجتمع الرأسمالي ـ يمارس السياسة. وهذا خلل، لأن النقابة تتحوّل لتمارس عمل الحزب. وفي لحظة التمدد التنظيمي هذه، طلب الرفيق الدعم من ذاك الجميع الفضفاض، ولم يتوصل له، استنتج ألاّ جدوى من أن يتزعم النضال نيابة عن شعب غير مكافح.
يقول الرفيق، على خطى ماركس، إن التاريخ يتطوّر حين يتعفن. وهو لم يسبق له أن تعفن مثل اليوم ولكن لا يبدو أنه يتطور بل يتقهقر، وبالأرقام لا بالأحلام. تاريخنا يتعفن ولا يتطور
عملياً استقال الرفيق وهو الآن يراقب بقلق ما يسميه الهجوم الأخير للأوليغارشية لاسترداد مواقعها. اليمين يستولي على المواقع واليسار يندد بذلك.. يعرف الرفيق أن الفقراء تضرروا، وهو يسمع الى صوت رئيس الحكومة يفتخر بأن تكاليف دعم الدقيق والسكر والغاز عرفت انخفاضاً متواصلاً منذ سنة 2012. وتكاليف دعم المواد تنخفض والضرائب تزداد، ومع ذلك لا معارضة ولا احتجاجات.
يقول الرفيق، على خطى ماركس، إن التاريخ يتطوّر حين يتعفن. وهو لم يسبق له أن تعفن مثل اليوم ولكن لا يبدو أنه يتطور بل يتقهقر، وبالأرقام لا بالأحلام. تاريخنا يتعفن ولا يتطور.
الخطير أن الرفيق يشعر بأنه هو الآخر يتعفن. في بعض الوقفات الميكروسكوبية يردد شعار "يا مسكين يا مقهور لا صحة لا تعليم"، لكنه يقوم بممارسات رأسمالية أنانية مثل دروس خصوصية في بيته أو في مدرسة خصوصية. الرفيق يتأقلم للتخلص من بقايا التسمم الثوري.. تسمّم الحزب والحقيقة.
الحزب
بحث الرفيق عن الحزب المعارض بمكبر فلم يعثر عليه. عملياً صارت السلطة الأولى وحدها في الميدان. إعلامياً هناك معارضة بلا محتوى، معارضة قضت عاماً تسخر من ربطة عنق رئيس الوزراء وهزمها في الانتخابات فنسيت الربطة.
انقرض النشطاء السياسيون من طينة حنظلة وبقي نوع المناضل الحزبي الرخو الأراجوز وحيداً دون أن يشعر بالعار، بل هو سعيد بما لديه. مناضل، حسب الرفيق هو ابن الجوع، ابن الحصير والخميرة، مضخم الرأس الذي يعاني الكساح والذي يتحول إلى انتهازي في أول فرصة.. الخبث والدروشة واللؤم.
تضررت صورة الأحزاب بسبب بحثها المستمر عن "التوافق" مع وزارة الداخلية. تتماهى مع النظام، وقد اعترف الرفيق محمد الساسي بأن جميع الأحزاب اصطفت في خندق واحد، همها هو المشاركة في الحكومة بأي ثمن، والتسليم بمعطى سيادة الملكية وهي ظل الله في الأرض.ولكي يُصدّق هذا التسليم فكل حزب يساري لديه كفيل يميني أو إسلامي لأن حزب الرفيق بلا عمود فقري ليقف وحده. حزب التقدم والاشتراكية ملحق بحزب العدالة والتنمية الإسلامي، وحزب الاتحاد الاشتراكي ملحق بحزب التجمع الوطني الذي يتزعمه ملياردير. يتحدث الكفيل فيوافقه الملحق به والأدلة لا تحصى.
الحقيقة
بنى الرفيق حياته على أنه يملك الحقيقة، ومهمته النبيلة هي توصيل تلك الحقيقة للبروليتاريا. لقد عطلت هذه الحقيقة كل نقد ذاتي، وبالتالي صارت سمّاَ. لذلك رجع الرفيق خطوتين للوراء وبدأ يكثر من تعابير نسبية مثل ربما وغالباً ويحتمل.. بداية يحتمل أن حقائقه الثورية لم تصل أبداً إلى الفلاحين، ومشكوك أنهم كانوا في انتظارها. وقد أدرك الرفيق أنه لم يعد متأكداً أنه يملك الحقيقة، أي "البرافدا" بحسب الروس. وقد شرع يحذر من الأسئلة الخادعة، اكتشف أنه يبدو أن النخبة تطالب في الكثير من الحالات بالديمقراطية دون أن تقصد ذلك فعلاً.. وهذا الانفصام لا يخص النخبة وحدها، فللرفيق نصيبه. فاليساري المغربي حداثي مع كل نساء العالم إلا مع أمه وأخته وزوجته.. زوجة الملك أكثر حداثة في ملابسها من زوجة الرفيق. جهاز البوليس أكثر حداثة من نصف مدرسي الجامعة الجدد. زعيمة الرفاق نبيلة مونيب تؤكد مواظبتها على أوقات الصلاة درءاً للشبهات، ومع ذلك لم تفز في الانتخابات التي اكتسحها الإسلاميون..
هذه حقائق لا يجد لها الرفيق تفسيراً غير "الأمر الواقع"، وهو الذي ندد طيلة حياته بفرض سياسة الأرض الواقع. يكاد يصرخ الآن بفضائل الأمر الواقع. ولكي يتعايش مع النسبية يتناسى أيديولوجيته الواضحة الحاسمة. وهو يبحث عن أيديولوجيا بديلة يضحي فيها بخلفيته الاشتراكية العادلة. بفضل هذه النسبية لم يعد يخجل من المغرب، والآن يقول "هذا هو المغرب ولا أخجل منه".. المغرب جميل.
لذلك لن يحتفل الرفيق بالثورة، والوضع القائم مقبول، فبعد ست سنوات من إحراق البوعزيزي لنفسه لم يقتل مغربي واحد في الشوارع. هذا المعطى يسعد الرفيق بغض النظر عن كل ما سبق. المغرب جميل كما هو فمن يريد التغيير؟