أقال الملك عبد الإله بنكيران، كرئيس وزراء معين لتشكيل الحكومة، وهو رئيس الحزب الفائز في الانتخابات، وقرر تعيين شخص آخر من الحزب نفسه يتكلم أقل ويصغي أكثر. وقد انفجرت مواقع التواصل الاجتماعي سخرية وشماتة، وتسريبات بأن مليارديراً انضم لحزب "العدالة والتنمية" ليلة 16 آذار/مارس 2017 على أمل أن يعينه الملك رئيسا للحكومة.. في المقهى، يتحدث الزبائن عن مصائب العالم الإسلامي المتصلة أكثر من حديثهم عن المغرب.
كيف وصلنا إلى هنا؟
هذه محاولة لرصد المشهد المغربي بقليل من المزاح على طريقة "ثرثرة فوق النيل" قبل هزيمة 1967. المشكل أن السوسيولوجي البصاص ــ شبيه أنيس زكي في الرواية ــ لا يستطيع أن يمزح بالتخمين، إنه يمازح بالمعطيات فقط. حين تكون لدى المغاربة معطيات صادمة ويمزحون، يرددون "كثرة الهم تضحك".
الكهرباء لا تنقطع في المغرب. إنتاجها يرتفع وكلفتها تنخفض وثمنها في المنازل يرتفع. فبينما كان المغرب يستورد النفط والغاز لإنتاج الكهرباء، صار ينتج نصف حاجته من الكهرباء من الطاقة الشمسية. الشمس مجانية ومتوفرة في المغرب، وكان يتوقع أن ينخفض ثمن الكهرباء.. كمية صيد الأسماك ترتفع، وأسعار الأسماك ترتفع. مصدر المعلومة الأولى هي الحكومة ومصدر المعلومة الثانية هي سوق الحي. هذا هو الوضع إلى أن يفهم الشعب.
إليكم أهم خبر في المغرب: "وزارة الفلاحة تبشر بموسم فلاحي جيد"، سيتكون هناك وفرة في القمح والخضر واللحم. أروع خبر نشرته وزارة الفلاحة يقول الحالة الصحية للقطيع الوطني "مُرضية جداً"، وقبيل عيد الأضحى ستقول وزارة الفلاحة "عرض أضاحي العيد يفوق الطلب"، ولن تصدر أي جهة تكذيباً، سيقول الناس الأكباش تفوق الطلب وتفوق قدرتهم الشرائية. القطيع بخير.
حين يقرر الملك أمراً يتزاحم المباركون المؤيدون المصفقون. لذا لا خلافات سياسية. وإن اختلف المصفقون فحول شركة حافلات أو موقع ملعب كرة قدم. وفي 2017 يطالب الرفيق، الوزير السابق خالد عليوة، بملكية تنفيذية. أي نعم. ولم يكذبه أحد.
آخر الدواء لكل مرض سياسي: إصدار بلاغ تكذيب. لماذا؟
كل الأحزاب ملكية تدافع عن الملك وتتهم بعضها بعضا بأنه أقل ملكية. وقد اكتشف صحافي أن هناك أحزاب أكثر ملكية من الملك نفسه
بسبب الرعب من ندوة صحافية تطرح فيها أسئلة مباشرة وتكون الأجوبة مباشرة فورية. يختفي السياسي الكسول خلف البلاغات.
النتيجة أن الانتخابات تجرى والمنتخبون لا يحكمون. مع ذلك كل الأحزاب ملكية تدافع عن الملك وتتهم بعضها بعضا بأنه أقل ملكية. وقد اكتشف صحافي أن هناك أحزاب أكثر ملكية من الملك نفسه.
تسفيه صندوق الاقتراع
ينص الفصل 47 من دستور 2011 الذي جاء به الربيع العربي ــ الأمازيغي على ما يلي:
"يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها".
جرت العادة أن تستنزف السلطة الحركات المعارضة، فتقلم أظافرها وتدجنها قبل دمجها في أجهزة الدولة (..). هذا يحتاج وقتاً ولم يتسن تطبيقه على الإسلاميين في عهد محمد السادس لأن الربيع فرض ضم حزب "العدالة والتنمية" بسرعة قبل تدجينه. والنتيجة أن محاولة التدجين تتم بعد تشكيله للحكومة
زعم برلماني أن الملك هو بنفسه الذي كتب هذا الفصل في الدستور، فطرد البرلماني من موقعه في حزبه. بعد ستة أشهر من عرقلة تشكيل الحكومة، اقترح صحافي تعديل الفصل المذكور ليصير "يعيّن رئيس الحكومة من الحزب الأول في الانتخابات، بعد استشارة الأحزاب التي حلّت في الرتب الرابعة والخامسة والسابعة، وضم الحزب السادس إلى الحزب الرابع، لأن التقاء الإرادتين الملكية والشعبية (الانتخابية) بتعيين الملك رئيس الحكومة من الحزب الأول لا يساوي بصلة. في الجدول أدناه الأسعار المعتمدة دستورياً للبصل، إذا تجاوزها السوق تمت الدعوة الى استفتاء جديد".
كيف وصلنا لهذا العبث؟
جرت العادة أن تستنزف السلطة الحركات المعارضة، أن تقلم أظافرها وتدجنها قبل دمجها في أجهزة الدولة.. عندما دعا الحسن الثاني المعارضة لتشكيل الحكومة في 1992 كانت قد ضعفت.. وعندما شكلت تلك المعارضة الحكومة في 1998 كانت قد تفككت.. صارت معارضة اسمية لأنه قبل 1992 قُمعت، وبين 1992 و1998 استُقطبت كوادرها وتمّ إبعاد العنيدين فيها بينما صعد الليّنون للواجهة ومنهم الرفيق خالد عليوة... هذا المسلسل الذي يحتاج وقتا لم يتسن تطبيقه على الإسلاميين في عهد محمد السادس لأن الربيع فرض ضم حزب العدالة والتنمية بسرعة قبل تدجينه، والنتيجة أن محاولة التدجين تتم بعد تشكيله للحكومة..
في انتظار التدجين التام تم نشر خبر غريب عن اختلاس 1700 هكتار. عجب وكأن المساحة هاتف اختفى في جيب. سرقت مساحة مدينة نهارا جهاراً ويقولون اختلاس. لا مشكلة لأن التطبيع مع الفساد مفيد للاستبداد. وبما أن سبعة وتسعين في المئة من مساحة المغرب غير مبنية، فما زال هناك أراضي تكفي للنهب لمئة سنة القادمة. لذلك فخدام الدولة – وهم رجال الدولة سابقا - يستفيدون، لا أحد يوقفهم. كل فضائح الفساد تنتهي بالنتيجة نفسها، تنكشف فيغضب كسلاء مواقع التوصل. يظهر سياسيون نزهاء ظرفيا ولا صلة لهم بهذه الفضيحة للتنديد بالفساد. وعندما تندلع فضيحة جديدة على صلة بهؤلاء يظهر المتورطون في الفضيحة الأسبق للتنديد بالفساد. يجري هذا بالتناوب. لا نعرف بالضبط لائحة الرفاق الذين صاروا يمينيين بعد سن الأربعين. بعضهم صاروا رجال دولة يسوقون سيارات فاخرة.
طيب أيها المواطن: ما نصيبك من الناتج الداخلي الخام لبلدك؟ نصيبي أنا؟ نصيبي من الحشيش المغربي الجيد هو الأعلى. لذلك أعلن: نحن الرعايا الموقعون أسفله الذين يحكمنا خدام الدولة نطالب بنصيبنا من الريع الذي حصّله الملياردير بذراعه..
الدولة والملياردير يملكان ويمولان وسائل الإعلام. والنتيجة؟
الجواب بإيجاز:
يجري الكلام كل يوم،علّ الكلام يحول التراب إلى ذهب. صارت الصحافة هي كيمياء السياسة. مخض الوحل لين يجعل منه ذهبا.
الجواب بإطناب:
يجري حوارا مع مثقف الملياردير: ما هي الأماكن التي تعرق منها؟ أعرق من إبطي في الصيف ومن ظهري عندما أنكح ومن جبيني عندما أجري ومن قفاي عندما أكذب.
هكذا تجري الثرثرة فوق الرباط، ولذلك العبث سند مادي. فالمغرب أنتج 700 ألف طن حشيش في العام الماضي.. حشيش جيد لم يتوفر لركاب عوامة النيل.
إعلام يمخض الوحل
صحافي؟ من يدفع لك، الجريدة أم الذين تكتب عنهم؟
لغة المال هي اللغة الكونية الوحيدة اليوم... من يزعم أنه لا يفهمها؟
رئيس التحرير على صلة دائمة بالمصادر العليمة. المشكل أن المصادر العليمة هي نفسها المصادر المموِّلة له. في المغرب تمنح الحكومة 200 ألف دولار سنويا لجرائد كثيرة لا تبيع أكثر من ألف نسخة يوميا. وتمنح الحكومة 100 ألف دولار لآلاف الجمعيات سنوياً نادراً ما يظهر مفعولها.
لا يظهر السوسيولوجي البصاص في التلفزيون، لكن الصحافي المرضي عنه يقود سيارة رباعية الدفع ويظهر في التلفزيون باستمرار ولا يعترض أبدا على خدام الدولة ويشتم الأحزاب ببلاغة ولا يحضر أي نشاط لا ينتهي بعشاء.
مصيبة المموَلين هي أن مواقع التواصل الاجتماعي المجانية تشتعل بسرعة وتنتصر على صحفهم الممولة بأسعار مرتفعة مرهقة. لذلك نصح الأطباء الملياردير بالتوقف عن مطالعة الصحف المخالفة إلى حين يتراجع ضغطه. طبق النصيحة لكن الإنتاج الإعلامي الإعلاني لم يتوقف. والفنادق التي تحجز للإعلامي المأجور الذي سيكتب عن نجاح الملياردير بخير.
كتب صحافي شكاك على صفحته: "الصحافة أقصر طريق نحو الثروة، لا أدري لماذا لا يطرح سؤال من أين لك هذا على المنتمين لقبيلة الصحافة". ومن سيسألهم؟
يقول الراوي في نهاية فيلم شابلن "الهجمة على الذهب" أن الثروة دائما ما تستقطب الصحافيين.
الخلاف قليل في المغرب. السبب؟ يتحدد الموقف السليم والرأي الصائب بناء على قائله وليس على محتواه. ثم إن كل واحد سيصله نصيبه من الكعكة فلماذا الخوف؟
لدينا منابر صحافية تعاشر الملياردير وتبقى بكراً. لا شيء مستحيل. وللتسلية، زادت أخبار الاغتصاب في العناوين الصحافية.
إليكم المزيد من الثرثرة فوق الرباط.
الأكثر قراءة
هناك مستوى استغباء غير مسبوق. آخر مثال: الصحافي الذي يحرر الخبر هو الذي يقوم برد الفعل منذ العنوان، يعلق قبل أن يخبر. لذا يبدأ هكذا "الصدمة.. الفاجعة ..خطير.. لا أحد يصدق أن..
ماذا سيضيف القارئ إنْ قرأ؟
بجانب مقال يتحدث عن غياب برنامج للحكومة، وصلة إعلان تقدم تفاصيل برنامج إنقاص الوزن للكسالى. لا بد في عناوين الأخبار من اسم إشارة، ومن ذكر صورة، والأفضل فيديو لأنه الجريدة تتوفر على مشاهدين لا على قراء، ويغلب استخدام الإشارة في أخبار الجنس لتجنب تسمية الأعضاء..
الخبر الأكثر قراءة "ليلة الدخلة ومفاجآتها". هذا هو العنوان المثير أما اللب فهو أن هناك أسباب تمنع ممارسة الجنس بين العروسين في الليلة الأولى. لا يذكر الخبر أنهما مارساه منذ شهر قبل الدخلة لأن الزواج في حالات كثيرة يأتي تتويجا للقصة، لا بداية لها.
في هذا الخراب الإعلامي ينمو ما ليس خراباً، فالفلاح ينتج والمصنع يعمل والمخابز توفر خبزاً بأسعار متباينة.. في هذا الخراب الإعلامي ينمو ما ليس خرابا، ينمو الأمل. فالنخب تتشاجر وتنكشف أمام الشعب
تجتهد الشرطة لتقديم المادة الفضائحية من غرف نوم المغاربة. كل مرة توقيف بسبب خيانة أو اغتصاب أو تهمة تحرش للمغضوب عليهم سياسيا.. من يرى الأخبار يتوهم أن العفة قلّت في عهد حكومة الإسلاميين. الخبر الأكثر قراءة هو "معركة ربة بيت مصرية مع جن يريد تطليقها من زوجها الثاني". مع هكذا إعلام سنصل القاع ثم نرى إن كنا سننهض.
وبجانب أخبار الجنس، هناك أخبار داعش التي تهدد، والانفجارات التي لا تقع، والمخابرات التي تعتقل الإرهابيين قبل اللحظة الصفر. البلد بلا حكومة وكل شيء في مكانه. هذا يسبب الملل.
خاتمة قد تفسر الوضع
يحتل المغاربة المرتبة الأولى في الحاصلين على الجنسية الإسبانية (34807 شخص في 2014) ويحتلون المرتبة الثانية بين جنسيات العالم الأكثر تنفيذا للعمليات الانتحارية في "داعش"، هذا علامة على الإيمان الشديد..
في هذا الخراب الإعلامي ينمو ما ليس خراباً، فالفلاح ينتج والمصنع يعمل والمخابز توفر خبزاً باسعار متباينة، من الخبز العادي إلى الخبز بالسميد الفاخر.. في هذا الخراب الإعلامي ينمو ما ليس خرابا، ينمو الأمل. فالنخب تتشاجر وتنكشف أمام الشعب.
عين الملك الرجل الثاني في حزب "العدالة والتنمية" رئيساً للحكومة، وهو طبيب نفسي. هدأت النفوس لكن السخرية لم تتراجع، زعم داعية شاب أن الملك قد عين طبيباً نفسياً رئيساً على أكبر مستشفى للأمراض العقلية..
كشف بنكيران أن الملك أعفاه من دون أن يستقبله. تزايد حجم الإهانة وارتفع صوت الشامتين الحداثيين الديمقراطيين. تدخل الملك ليقول لسعد الدين العثماني، رئيس الوزراء الجديد: "حزب العدالة والتنمية حزب وطني وأرغب في الاشتغال معه". يبدو أن الملك تكلم من قلبه لا من أوراق مستشاريه. العثماني بلا جاذبية بل هو رجل رجعي، لذا من المريح للسلطة التعامل معه. هو نسخة قديمة (لو أمكن اعتبار بنكيران تحديثاً). ويعبر العثماني عن الرجوع الى ما قبل اجواء الربيع العربي / الأمازيغي والتغييرات التي أحدثتها في كل البنى، بما فيها التراتبيات داخل الاحزاب.
عاد الهدوء للمشهد السياسي على أمل ألا يتكرر العبث وألا يستمر نهب البلد، شعر المغاربة بالفخر لوجودهم في بلد راسخ ومنتج يمتص الهزات.. لكنهم ليسوا واثقين أن من ينهبونهم ويحتقرونهم سيخجلون.