حينما أعلنت مفوضية الانتخابات نتائج الاقتراع على دستور العراق في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2005، كانت الأقدار قد شاءت أن ترجِّح محافظة نينوى (ومركزها مدينة الموصل) قبول ذلك الدستور بعد أن رفضته محافظات صلاح الدين (ومركزها مدينة تكريت، مسقط رأس صدام حسين) والأنبار (ومركزها مدينة الرمادي). بضعة آلاف من المصوتين بـ"لا" كان يمكنهم الوصول إلى نسبة الثلثين التي كانت كافية للإجهاز على الدستور، لكن نينوى أبت ذلك. حينها لم يكن ليتخيل أحد أن هذه المحافظة ستسقط بيد تنظيم إرهابي بعد أقلّ من عشرة أعوام. ولم يدر في خلد العراقيين أنهم سيشاهدون موصليين (ولو قلة) يصفقون فرحاً في استقبال مسلحين يبيعون النساء ويلقون بمعارضيهم من بنايات شاهقة بتهمة المثلية. وقتها قالت ممثلة الأمم المتحدة إثر استلامها نسخة من الدستور (الذي وصف لاحقا بالملغوم من قبل أعضاء في لجنة كتابته) أن نتائج الاستفتاء تظهر أن تصويت العراقيين على الدستور الجديد بغالبية كبيرة دقيق ويجب الوثوق به. المفارقة أنّ المفوّضيّة تأخرت في إعلان النتائج ما يقارب الشهرين، وكانت حجتها أن هناك عمليات تدقيق تُجرى في النتائج في غالبية المحافظات بسبب "وجود شوائب" لا تتطابق والمعايير الدوليّة. في تلك الأيّام سُمّي هذا التصويت بـ"الثورة البنفسجية" لأنّه أتى بعد مخاض عسير، وبعد مجلس حكم وحكومة تمّ تنصيبهما من قبل الاحتلال. واعتبر أنه سيفرز للمرة الأولى الشكل الذي يريده العراقيون ويتمنّونه لمستقبلهم.
الآليات تتغير
آنذاك، كان أعضاء "المجلس الأعلى للمفوضية" ثمانية من المستقلّين، تمّ اختيارهم من قبل الأمم المتحدة عام 2004، حيث أعدّ 24 اسماً عرضوا على "مجلس الحكم" الذي رفض في البداية القبول باختيار ثمانية أسماء من القائمة المرشحة، ثم عدل عن ذلك تحت الضغط. الانتخابات التي جاءت بمن كتب الدستور كانت بقوائم مغلقة، وكان العراق في وقتها بحسب القانون دائرة انتخابية واحدة، وعلى هذا الأساس فقد كان ملايين الناخبين مدعوّون لاختيار شخصيّات لا يعرفونها.
منذ 2007 حين تولى "مجلس المفوضين" الخاضع للمحاصصة مهامه، لم تخلُ انتخابات لاحقة من خروقات وتلاعبات، وصل بعضها إلى بيع وشراء الأصوات والصناديق والمراكز الانتخابية بل وحتى المقاعد البرلمانية
قيل في وقتها إنّ المشاركة كانت بنسبة 76 في المئة من مجموع من يحق لهم التصويت. استمر مجلس الثّمانية هذا حتى عام 2007 لتدخل الانتخابات في العراق طوراً جديداً. فقد اختير حينها مجلس مفوضين يمثلون مكونات وأحزاب سياسية، ولم يُمنح المسيحيون مقعداً لأنّ البعض اعتبر من سيمثّلهم ضعيفاً يمكن التأثير عليه بحسب المتحدّث السّابق باسم مجلس المفوضين ذاك. ومنذ أن تولّى هذا المجلس الخاضع للمحاصصة مهامّه، لم تخلُ انتخابات لاحقة من خروقات وتلاعبات وصل بعضها إلى بيع وشراء الأصوات والصناديق والمراكز الانتخابية بل وحتى المقاعد البرلمانية.
وتعتمد "المفوضية العليّا المستقلّة للانتخابات" في العراق في كل مرّة على كوادرها المختصّة المدرّبين في إدارة المراحل الثانويّة من كلّ تصويت (العدّ والفرز ورفع البيانات). أمّا المرحلة الأولى (الاقتراع المباشر) فهي على عاتق كوادر وزارة التربية من مدرّسين ومعلّمين. وعلى الرغم من أنّه يشاد عادةً بنزاهة غالبيّة التربويّين من قبل منظّمات المراقبة، إلّا أنّ بعضهم لا يخفي ميوله السياسية من خلال توجيه وتحريض المواطنين، وصولا إلى تزوير الأصوات بالتنسيق مع جهاتٍ سياسيّة، حيث تتضمن هذه المرحلة فتحاً للصناديق وعدّاً أوّليّاً وفرزاً لما اصطلح على تسميته "أحجام الكيانات السياسيّة"، ويقصد بها أعداد المصوّتين للأحزاب الرئيسية والائتلافات. مراقبو "الكيانات" تلك (ممثّلو الأحزاب) ينظرون إلى صندوق الاقتراع بحذر، بعضهم واجه الخروقات وبعضهم اكتفى بالجلوس ومتابعة الأخطاء تتراكم خوفاً أو كسلاً. ويغيب مراقبو "الكيانات" السنية عن مناطق الشيعة والعكس صحيح، فيما لا يهتم الساسة الكرد لأصوات من يصوتون لهم خارج إقليمهم.
يتدفق الحديث عن الخروقات من موضوع تحديث سجل الناخبين، فهو لم ينجز بشكل كامل خلال ثلاثة مواسم انتخابية كبرى، والتجربة الأخيرة والمعروفة بـ"البايومتري" لم تسجل سوى 20 في المئة من الأصوات
والخروقات تتعاظم
حكاية الخروقات بدأت في 2005 حيث أجريت ثلاثة اقتراعات لاختيار كتبة الدستور ومن ثم التصويت عليه، وبعد ذلك اختيار مجلس النواب الأوّل. حينها صدر تقرير "البعثة الدولية لمراقبة الانتخابات في العراق" وفيه إشارة إلى ظواهر "يجب ألّا تتكرر" بحسب ما ورد فيه. في انتخابات 2010 صدر تقرير "بعثة الاتحاد الأوربي لمراقبة انتخابات مجلس النواب" ولم يختلف عن سابقه إلّا في اتّساع الإشارة إلى الخروقات والخشية من آثارها السّياسيّة. يتدفّق الحديث عن الخروقات من موضوع تحديث سجلّ الناخبين، فهو لم ينجز بشكل كامل خلال ثلاثة مواسم انتخابية كبرى، والتّجربة الأخيرة والمعروفة بـ"البايومتري" لم تسجّل سوى 20 في المئة من الأصوات. وأمّا المرحلة اللّاحقة للاقتراع المباشر، وهي ما يعرف بالفرز الذي يشتمل على إعادة عدّ الأصوات وتوزيعها فقد شهدت في عام 2014 دخول شخصيّات سياسيّة إلى المراكز "للاطّلاع". وفي محافظة كربلاء في حينها، جرى تداول أنباء عن حضور أحد أقارب رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وجلوسه في مركز الفرز من أجل الإشراف والمراقبة بنفسه، على الرغم من أنّه أحد المرشّحين.
والتكنولوجيا تتدخل!
المرحلة الثّالثة والأخيرة، والأكثر خطورة في أي انتخابات عراقيّة، هي مرحلة إدخال البيانات إلكترونياً وجمعها في برنامج إلكتروني يفرز النتائج بشكل أوتوماتيكي. قبل وفاته، اتسعت مساحة المتابعة لصفحة تحمل اسم الدكتور أحمد الجلبي على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، تبعا للأسرار التي كان يكشف عنها صاحبها. لم تكن الصفحة موثقة. وبعد موته، تعددت الصفحات التي تحمل اسم الرجل والتي تنشر (كما تدّعي) أسرار الفساد. وفي أحد الأيّام أشاعت هذه الصفحة حديثاً عن شاب وشابّة عراقيين كانا مسئولين عن التزوير في مرحلة إدخال البيانات، أحدهما التجأ لاحقاً إلى السّويد والشابة التجأت لاحقاً إلى أمريكا. وتحدثت الصفحة أيضا عن مدير عمليات المفوضية الذي تمّ إجباره على التقاعد عام 2013 (يعلن الرجل أنه تقاعد، لكن ليست هناك إشارة الى "إجباره" على ذلك سوى قصر مدة عمله) بسبب محاولاته إيقاف التزوير. من جانب آخر، لم يكن تصويت رجال الأمن ومنتسبي الجيش والسجناء خالياً من التوجيه والتحريض والتزوير، فيما قالت مفوضية الانتخابات عام 2005 إنّها لا تضمن ديمقراطية اقتراع العراقيين في بعض الدول خارج العراق.
ما مدى تأثير مفوضية جديدة للانتخابات على شكل الطبقة السياسية في أي تجربة انتخابية مقبلة؟ الأمل يزدحم بضوضاء الموت، تدفعه تضحيات المعركة ضد داعش باتجاه جدران المنطقة الخضراء المتعالية
من مفارقات الانتخابات في العراق أنّ كتلاً سياسيّة تتّهم هذه الانتخابات أو تلك بأنها تتضمن تزويرا قبل إعلان النتائج أو بعده، وربما عرضت أدلة على ذلك، لكنها لا تمضي بالأمر قدما نحو القضاء أبداً. اعترض زعماء "القائمة العراقية" (بقيادة أياد علاوي) على مزاعم بأنّ آية الله السّيستاني دعم "الائتلاف العراقي الموحّد" الذي يمثّل السّاسة الشّيعة في أكثر لحظات توحّدهم متانةً عام 2005، حينها هدّد أياد علاوي وعدنان الباجه جي وهما من علمانيي الطائفتين بإثبات العكس، وأنّ مرجعية السيستاني لن تدعم طرفا ضد طرف، وذهبا إلى النّجف ولم يستطيعا مقابلة مرجع الشيعة الأعلى. وبعد الانتخابات لم يعد أحد يتذكّر الأمر. وفي عام 2010، وبعد فوز قائمة أياد علاوي، اعترض المالكي وتحدث عن تزوير في الانتخابات، لكنّه بعد أشهر أصبح رئيساً للوزراء ونسي الأمر تماماً. وفي عام 2014 خرج "المجلس الأعلى الإسلامي" (بزعامة عمار الحكيم) ليتهم "دولة القانون" (بزعامة المالكي) على خلفية شبهة تزوير وإتلاف أصوات لينتهي الأمر عند هذا الحد.
نحو ماذا؟
.. منذ أشهر وبغداد تشهد تظاهرات كبيرة يقودها "التيار الصدري" ويتحالف معه فيها "التيار المدني" الذي يضم خليطاً من الشيوعيين والمثقفين ومتطوعي الحملات المدنية وحقوق الإنسان. وجاءت المطالبات بتغيير مجلس مفوضي المفوضية العليا للانتخابات عبر الشارع، مع اقتراب موعد اقتراع هذا العام لانتخابات مجالس المحافظات وفي العام القادم لانتخاب مجلس النواب، وهناك مواعيد أخرى مهمة على المحك، ومنها مشروع قانون جديد للانتخابات، مع موعد نيابي لاختيار أعضاء جدد لمجلس المفوضية بطريقة المحاصصة من جديد، وهو ما يرفضه مقتدى الصدر وتيّاره ومن يتحالف معه، بدعوى فساد المفوضية الكبير وتلاعبها بالنّتائج. ويبدو ردّ رئيس المفوضية العليا للانتخابات على مطالبة المتظاهرين بتغيير المفوضية معبّراً عن ترفع الطبقة السياسية على هموم المواطنين وقادة الحراك السلمي، حيث قال في تصريح مثير إنّ مجلس المفوضية لن يستقيل تحت الضغط الجماهيري.
فما مدى تأثير مفوضية جديدة للانتخابات على شكل الطبقة السياسية في أي تجربة انتخابية مقبلة؟ الأمل يزدحم بضوضاء الموت، تدفعه تضحيات المعركة ضد داعش باتجاه جدران المنطقة الخضراء المتعالية.