"12 فبراير".. صباح يليق به مدح كبار الثورة المصرية "الصغار"

12 شباط/ فبراير، ذكرى تنحي من كان على رأس السلطة لثلاثين عاماً، بعد أن مشَّطت مكانس الثوار الميدان، وانطلق جيل يبلغ من العمر الآن عشرين عاماً ويحمل من التجارب ما يستحق أن يُسمع.
2017-02-12

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
حائط "ليسيه الحرية" - شارع محمد محمود - القاهرة 2013 - تصوير: محمود أبو زيد "شوكان"

يبلغ من العمر الآن عشرين عاماً، جاءت الخمس الأولى منها فى دفء صدر أمه ثم عشر سنوات بين اللعب والدرس والبيت والأصدقاء ثم تفجرت من حوله شمس جميلة ملأت أشعتها قلبه والشوارع فخرج إلى الميدان، ومن هناك عاش خمس سنوات أخرى تواترت عليه فيها مئات الأحاسيس والخبرات، عرف جدران الزنازين ووهج الشماريخ وأسطورة المظاهرات المليونية.

من هناك تجرع المحاولات البائسة لشطب مستقبله من دفتر القادم، فمرة عبر توقيع سخيف على قرار فصل من الجامعة، ومرات عبر إجباره على الإدلاء باعترافات، ومرات بمحاولة زرع فكرة "المشى جنب الحيط" فى عقله الكبير.

"إحنا كُنا في بلاعة وخرجنا للدنيا والحياة.. كل واحد خرج بطريقته، اللي راح استحمى وحبّر قلمه، واللي فوراً راح يستكشف الحياة بكامل هيئته الرثة وملابسه المهلهلة، لكن كلنا خرجنا وتنفسنا، حتى لو أتولدنا بعاهات وعيوب خلقية.."

"هو" لا اسم محدداً له، فهم كثر، وجميعهم يتبادلون معجزاتهم الصغيرة وسخافات الحياة الكبيرة لتتحول جميعها إلى عقل جمعي يرسم ملامح جيل جديد، جيل خرج من ضيق الأزقة والشوارع إلى رحابة الميادين مع اندلاع ثورة الخامس والعشرين، ومن يومها هذا "الشاب" لم يعد، ومن يومها أيضاً لم يصل. لا يزال في الطريق. والطريق ــ عن قصد ــ مفروش بالأشواك.

اليوم يدركنا الثاني عشر من شباط/ فبراير 2017، صباح ذكرى يوم يشبههم كثيراً، بعد تنحي من كان على رأس السلطة بعد ثلاثين عاماً، صبيحة أن مشطت مكانس الثوار الميدان، صبيحة انطلاق جيل يبلغ من العمر الآن عشرون عاماً ويحمل من التجارب ما يستحق أن يجلس الجميع ويتراص لسماعه على مدار العشرين عاماً القادمة وربما أكثر.

"حسن" لم يذهب للميدان ولم يمسح دموع "مبارك"

محمد حسن شاب حديث التخرج، شارك فى فعاليات الثورة التالية على الأيام الثمانية عشر الأولى التي انتهت بتنحي الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك وقد تشكل وعيه بدءاً من تلك الأيام الثمانية عشر.

وحسب روايته التي سجلها على فيسبوك، يقول "أنا ابن الثورة، مواليد ما بعد 11 فبراير،أنا عندي 6 سنين حالياً ومفتكرش قبل التاريخ دا إلا القليل، ماتشات المُنتخب ومانشيتات جريدة المصري اليوم والـ 76 في المئة اللي جبتهم في الثانوية الأزهرية، إحنا كُنا في بلاعة وخرجنا، في بلاعة بشكل حرفي. خرجنا للدنيا والحياة، صحيح كان ألم المخاض والخروج رهيب، وولادة قيصرية عتيقة، لكن خرجنا، كل واحد خرج بطريقته من البلاعة، اللي راح استحمي وحبّر قلمه، واللي فوراً راح يستكشف الحياة بكامل هيئته الرثة وملابسه المهلهلة، لكن كلنا خرجنا وتنفسنا، حتى لو اتولدنا بعاهات، وعيوب خلقية، ومشاكل في التنفس والقلب، لكن خرجنا ونزلنا، واجهنا التخبط والألم والفشل والدم والفقد لوحدنا.. كيف تواجه الحياة والتخبط والألم والدم والفشل والحرب والغاز والأمن بدون معلم في 11 يوم". قرأ "حسن" كثيراً بعد الـ 11 يوماً تلك،علمته الثورة واجب التثقف كسلاح لِما يأتي بعد، وانطلق يختبر ما عرفه عبر المشاركة السياسية بالأحزاب الوليدة بعد الثورة، أما "مَنسي" فهو من "راح يستكشف الحياة بكامل هيئته الرثة وملابسه المهلهلة".

المنسي.. لا ينسى الشهداء ويلعب الكرة

"السيد مَنسي" كانت ثورته الأولى موازية لثورة مصر، كان يحتاج أن يخرج من البيت في موجة تمرد ليسمعهم صوت رفضه وأحلامه. خرجت مصر من ميدان التحرير صباح 12 شباط/ فبراير تبحث عن حياة جديدة، وخرج "مَنسي" من حي "منشأة ناصر" البسيط يبحث عن كل ما يقربه من رائحة وروح الميدان، اقترب أكثر وأكثر، تفاعل مع كل حدث، ميًزه ـ كما يشهد له الجميع ـ الإخلاص. قرر استكمال تعليمه "لأن البلد تحتاج منا ذلك" كما كتب فى شهادته عشية الذكرى السادسة للثورة، جرب العمل الحرفي أكثر من مرة، لكن ظلت قرارات الفصل من الجامعة تلاحقه وقرارات الطرد من العمل أيضاً، والسبب تكرار القبض عليه.

"مَنسي" الآن داخل زنزانة ضيقة بقسم شرطة لكنه ليس "مَنسياً". رحلت أمه مبكراً ولعل هذا هو السبب فى ارتباطه الشديد بكل رفاق مواجهات الميدان، وبشكل خاص في عام 2012 خلال حكم المجلس العسكري. كانت المعرفة الأولى بالزنازين عقب أحداث "محمد محمود" وتم التشهير به وبرفاقه كصغار مأجورين، وفي 2014 ألقي القبض عليه هو ومجموعة من الشباب خرجوا للتظاهر ضد المذبحة التى شهدها فض اعتصام رابعة، وأودع في "المؤسسة العقابية" التي امتلأت بأعداد كبيرة ذلك العام ممن لم يبلغوا بعد 21 عاماً، لكنهم يملكون ـ داخل أنفسهم ـ ناصية القرار.

في 2015 كان قد يأس من إمكانية تأثير الخروج بالمظاهرات في تغيير الواقع الذي أصبح شديد الصعوبة والتركيب. وعلى الرغم من هذا، قام أصحاب "البذات السوداء" بالقبض عليه..

فى 2015 كان قد يأس من إمكانية تاثير الخروج بالمظاهرات فى تغيير الواقع الذي أصبح شديد الصعوبة والتركيب، وعلى الرغم من هذا، قام أصحاب "البذات السوداء" بالقبض عليه والسبب لعبه للكرة مع رفاقه فى محيط "قصر عابدين" الذي وقف أمامه قبل 100 عام الزعيم الوطني "أحمد عرابي" وهتف "لقد خَلقنا الله أحراراً ولن نورِّث بعد اليوم".

لم يهتف "منسي" بشيء بعد خروجه بشهور، قرر استكمال دراسته والاكتفاء بمساندة رفاقه ممن لا زالوا خلف الزنازين، لكن كان للسلطات رأي آخر، فتم القبض عليه هو وبعض الأصدقاء ظهيرة يوم 25 كانون الثاني/ يناير الماضي من داخل أحد المقاهي بمنطقة شعبية، ولا زال رهن الحبس ويواجه اتهامات من ضمنها "محاولة تشكيل جماعة سياسية تخريبية تحمل اسم 25 يناير".

مرج البحرين يلتقيان

"مَنسي" و"حسن".. قد يكونان الماء العذب والمالح حين يلتقيان، قد يكونان كل ما تحتاجه المعادلة من موجب وسالب كى تكتمل، قد يكونا نفس الشيء، وهما بالتأكيد "كل شيء".

وجهان لفكرة واحدة، لعملة واحدة، لثورة واحدة، ومن حولهما آلاف من الفتيات والفتيان، دفعوا أكثر من غيرهم ثمناً طوال السنوات الست الماضية، من طرد من المنازل وفصل من الجامعات وليالٍ بالسجون. هم أيضاً من استطاعوا اكتناز مئات الذكريات والخبرات الجماعية التى يمكنهم أن يتنافسوا بها مع غيرهم من الأجيال، هم القادم الذي قال عنه حسن فى نهاية شهادته: "12 فبراير تعبير رمزي، ومستحيل أقول كلام إنشائي عن الثورة، لكن هقول إننا مواليدها".

هم أبناء صبيحة 12 فبراير 2011.. هم ما يأتي.

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...