الخراب المجنون

في طول المنطقة العربية وعرضها خراب تجاوز المتعارف عليه، ووصل الى حد الجنون. ولكنّ في طول المنطقة وعرضها أناساً يرفضون هذا الخراب. بعضهم يفعل بوعي متكامل، وبعضهم الآخر بفضل الغريزة الإنسانية. بعضهم يتمسك بحلول وآخرون يعبرون عن يأس من تغيير الحال. ولكن أول المقاومة هو رفض الامتثال للخراب والتأقلم معه. وهؤلاء، على تنوعهم، نقطة الضوء وسط بحر الظلمات المطبِق على منطقتنا بفعل فاعل، يدّعي
2014-09-24

شارك
(من صفحة هيثم يحيى على فايسبوك)

في طول المنطقة العربية وعرضها خراب تجاوز المتعارف عليه، ووصل الى حد الجنون. ولكنّ في طول المنطقة وعرضها أناساً يرفضون هذا الخراب. بعضهم يفعل بوعي متكامل، وبعضهم الآخر بفضل الغريزة الإنسانية. بعضهم يتمسك بحلول وآخرون يعبرون عن يأس من تغيير الحال. ولكن أول المقاومة هو رفض الامتثال للخراب والتأقلم معه. وهؤلاء، على تنوعهم، نقطة الضوء وسط بحر الظلمات المطبِق على منطقتنا بفعل فاعل، يدّعي أنه لا مناص من القبول به.
تنشر السفير العربي في هذه الزاوية ما يتيسر لها من النصوص التي ترصد الواقع البشع، عبر تجارب معيشة ومشاهدات عيانية يدلي بها أصحابها ويتحملون مسؤولية كلامهم بالتوقيع أسفلها بالاسم الصريح.

هنا الحلقة الاولى:
«المكان القذر ابن الوسخه ده، كان السبب في إني قررت بشكل نهائي وقاطع إني أسيب الطب وممارسته للأبد». هيثم كان طبيباً يُزاول مهنته في هذا المكان. يقول: «عمري لن أنسى رائحة الموت والتقيؤ والعفن التي تشعّ من كل ركن فيه. كنت أدخل المكان صباحاً أو ليلاً فأشعر أنني داخل قبر. في هذا المكان رأيت أناساً يموتون بسبب الإهمال والتأخير واللامبالاة، والشرّ أحيانا كثيرة. أذكر أنني في ليلة كنت فيها طبيب الامتياز السهران، مات أمامي 12 رجلا وامرأة في أعمار مختلفة بسبب لا مبالاة النايبة المشرفة عليّ وعلى العنبر.
وصلت لدرجة أني ساعتها كنت مقتنعاً بأن الست قصدت قتلهم من أجل إفراغ بعض الأسرّة. لاحقاً ما فهمته هو أنّ الست (كانت من البنات الـ«هاي كلاس») تمّت محاكمتها وفصلها، ولكنها الآن عادت لتعمل كمدرسة مساعدة في القسم.
في ليلة من الليالي الكئيبة، النايبة ذاتها طلبت مني أن أدخل وأسحب سوائل الجهاز التنفسي لمريض، وذلك عبر استخدام شفّاط مخصص لهذه العمليّة. لكنّي اكتشفت لاحقاً أن المريض كان مشكوكاً في إصابته بالسل، من دون أن تقوم بتنبيهي أو أن تعطيني علاجاً وقائياً. في ساعتها «سبيت ميت مله وقررت ما أروحش مرة تانية». وبقيت لمدة شهر آخذ مضادات حيوية.
في هذا المكان كانت أحلامي في حياة كريمة تتدمّر، وكل طموحاتي في الطب والنجاح وإثبات النفس تنتهي إلى الأبد. كان أقصى أملي في كل ليلة أن يطلع النهار وأخرج من هذه التربة. لكن المثير هو أن هذا المكان شهد قصة حب «معلّمه في قلبي» بذكرياتها الغريبة والمختلطة بالفرح واليأس وكسرة القلب التي ما زال طعمها في حلقي. اليوم قررت زيارة كليتي القديمة والمستشفى في اسكندرية، وتفاجأت بأنّي ما زلت أشعر أنه لو كان مكان في العالم أنا أكرهه أكثر من أي شيء فهو هذا العنبر الحقير.
ما زلت أذكر وجوه كثر من الناس الذين ماتوا وكنت أنا آخر من رأوه. كانت نظرة الخوف في عيونهم على أساس أنه ممكن أن تكون هذه نهايتهم وهم آتون إلينا لننقذهم.
يوم 28 كانون الثاني/يناير 2011، وأنا على كوبري قصر النيل فكرت في العنبر هذا معظم الوقت. وعلى الرغم من المثاليّة العبيطة المحرجة في ما سأقوله، ولكن فعلاً وبينما أرمي «طوب» على الشرطة وأهرب من الرصاص المطاطي، كانت أحد الأشياء التي «تزقني وتخليني عايز أدخل التحرير» هو كراهية هذا المكان وإحساسي أن الناس التي تموت أمامي يمكنها تغيير شيء ويمكنها تنظيف هذا المكان ومنع ما يحصل فيه. ولكن للأسف المكان كما هو، وأسوأ، والبلد كما هي وأسوأ، وشكلها «حاتفضل كده كتير».
- ناديا أحمد: «كنت فاكرة أنا الوحيدة اللي عندها مشاعر الكراهية العنيفة دي ناحية مستشفى الجامعة».
- أحمد الغنيمي: «المشكلة مش عنبر الباطنه، المشكله كانت في الميري أو مستشفى الجامعة كلها. المكان بالنسبه لنا كدكاترة عبارة عن جبل من الهم والقلق والقرف والإهمال، سواء بإرادتك أو غصب عنك. عمرك شُفت دكتور رايح يشتغل وهو خايف أنه يتضرب أو يتشتم، أو حدّ يموت بسببه، أو يموت بسبب النايب اللي نايم وهو اللي يشيله...»
نبش الذكريات دفعت بهيثم للتعليق ثانيةً: «يا دين أمي يا فكري. إنت كنت بتصور وبالدليل كمان؟ فكرتني بالجراحة واللي كان بيحصل فيها. ولا النسا والولادة وضرب الستات اللي بتولد. ولا الأطفال. الهي ما يعودها، أيام وسخة».
- عبد الله عطا لله يعيد فتح النقاش: «كل اللي انته بتقوله ده كلام جميل وعظيم، وأنا بعترف إن ده واقع ابن ستين كلب، بس طول ما البلد فيها اللي بيفكر يخلع نفسه من المسئولية بسرعة، عمرها ما هتتقدم. زى حضرتك كده، بس انت عارف حاجة أيأس ونام واستغطا واستنا تتقدم مع انك مبتصبرش ع الواقع اللي انت ذات نفسك معترف فيه. وعموما الطب أسمى مهنة في الكون خصوصاً لو كانت في بلد الغلابة، مصر، يعنى عموما استمتع».
- أحمد فكري المنشاوي، أجاب ساردا تجربته الشخصية: «يخلع نفسه اي يا باشا؟ في أكتر من أن النايبة دي أنا لوحدي مقدّم فيها 3 شكاوى باسمي، وشكوى في البوليس بسبب المرضى. في اكتر من إني اتحقّق معاي في قسم المبتسرين عشان بلغت عن إهمال وطفلة ماتت بسببه. طب بلاش، في أكتر من إني كنت أنا وزملائي بنجيب الأدوات والأدوية من جيبنا للمرضى».
- ذكّر أحدهم هيثم بالعمليات ما دفعه للتعليق «يا لهوي. انا مره حضرت عمليه في الفاسكولار ده وكان في قطط معديه فوق العيان. بس ع الاقل الناس كانت بتعيش».
- ردّ أحمد فكري المناشوي جاء هذه المرة مع صورة «قصدك دول لأ ده عادي دي بيرمولها (القطّة) placenta في النسا تاكلها ... احا تجوع يعني!»

* الرابط للبوست في صفحة هيثم يحيى على فايسبوك
( التدخل في النص اقتصر على تحويله بقدر الامكان من اللغة المصرية المحكية إلى الفصحى)
            
 

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...