إميلي كونوفر* | العالم الجديد، 17 / 12 / 2025
ترجمة - رمزي ناري**
في عشرينات القرن العشرين، عندما كانت ميكانيكا الكم في بداياتها، أجرت الفيزيائيتان جين ديوي ولورا تشالك بعضًا من أولى الاختبارات العملية للنظرية، استنادًا إلى ظاهرة تُسمى «تأثير ستارك» (Stark effect). هذا التأثير يشير إلى تغيّر أطوال موجات الضوء التي تمتصها وتصدرها الذرات بسبب وجود مجال كهربائي خارجي. وبفضل هذه القياسات، قدمت ديوي وتشالك مساهمات مهمة في مجالي الضوء والكهرباء. لكن، لاحقًا، أشاد عالم فيزياء الكم الشهير فيرنر هايزنبرغ (Werner Heisenberg) بروعة قياس تأثير ستارك الذي أجراه زميله الفيزيائي الكندي جون ستيوارت فوستر، في حين تجاهل مساهمات جين ولورا، وهو ما يُعد مثالًا واضحًا على التعتيم على دور النساء في هذا المجال العلمي.
لقد كان هذا التعتيم على مساهمات النساء أمرًا شائعًا في تاريخ ميكانيكا الكم، وهي النظرية التي تشرح فيزياء الذرات وغيرها من الظواهر ذات المقاييس الصغيرة. بينما يحتفل العلماء بمرور مئة عام (1925-2025) على تطوير أسس هذه النظرية، يقدم كتاب جديد بعنوان «النساء في تاريخ فيزياء الكم» سردًا بالغ الأهمية لحياة هؤلاء الرائدات المجهولات. الكتاب يغوص بعناية واهتمام في القصص التي غالبًا ما تُنسى لستة عشر عالمة فيزياء كم، تم بحث كل واحدة منهن بعناية على يد مؤلف أو مؤلفين مختلفين. ويعطي الكتاب فرصة للقارئ للاطلاع على حياة هؤلاء النساء اللاتي كان لهن دور محوري في تشكيل هذا المجال.
ميكانيكا الكم: فيزياء للأولاد فقط؟
في سنواتها الأولى، كانت ميكانيكا الكم تُعرف باسم (Knabenphysik) باللغة الألمانية، أي (فيزياء الأولاد). هذا الاسم كان يعكس حقيقة أن العديد من الفيزيائيين الذين عملوا في هذا المجال كانوا من الشباب الذكور. ومع ذلك، كانت النساء جزءًا من هذا المجال طوال الوقت، لكن مساهماتهن غالبًا ما كانت تُغفل أو تُنسب إلى الرجال. على سبيل المثال، قامت ديوي بقياسات لتأثير ستارك، وكانت هذه القياسات متوازية مع تلك التي أجراها فوستر. كما درست تشالك، طالبه الدكتوراه لدى فوستر آنذاك، تأثير ستارك في الهيدروجين. وبينما واصل فوستر مسيرته المهنية الطويلة كفيزيائي مرموق، غادرت تشالك وديوي ميدان البحث الأكاديمي في نهاية المطاف. هذه القصص تسلط الضوء على التحديات الكبيرة التي واجهتها النساء في هذا المجال.
التحديات المهنية والإقصاء
تُظهر قصص تشالك وديوي بعضًا من المواضيع البارزة في هذا الكتاب، حيث غالبًا ما نُسبت مساهمات النساء إلى مشرفيهن من الرجال، أو تم تجاهلها بالكامل. بل أكثر من ذلك، استُبعدت النساء من نوادي الشباب القديمة (old boys’ clubs) التي كان الفيزيائيون الذكور يدافعون من خلالها عن أعمال بعضهم البعض. هذه النوادي كانت جزءًا أساسيًا من الثقافة الأكاديمية في ذلك الوقت، ما جعل الوصول إلى الفرص العلمية والاعتراف بالإنجازات أمرًا بالغ الصعوبة للنساء.
كلثوم عودة الأكاديمية الفلسطينية المتمردة
12-08-2024
حتى عندما وجدت النساء مرشدين داعمين، كان التمييز مستشريًا إلى درجة أن حياتهن المهنية غالبًا ما كانت تُعرقل أو تُختصر. على سبيل المثال، كافحت ديوي لتأمين وظيفة دائمة في الأبحاث الأكاديمية. وعندما قام فيزيائي بارز في مهمة للعثور على وظيفة لها، أفادت الزميلة الوحيدة التي أبدت اهتمامًا أن زملائها رفضوا وجود امرأة في فريق العمل. في النهاية، وجدت ديوي وظيفة في كلية برين ماور في بنسلفانيا (Bryn Mawr College)، ولكن حتى هناك، في كلية نسائية، تم استبدالها بفيزيائي ذكر بعد أن أخذت إجازة لإسباب صحية.
أما تشالك، فقد رُفض طلبها للحصول على منحة دراسية بناءً على شائعة كاذبة مفادها أنها مخطوبة. في ذلك الوقت، كان يُتوقع من النساء المتزوجات التخلي عن وظائفهن، وهو ما كان ينهي مسيرة العديد من النساء اللواتي تم تناولهن في الكتاب. وعندما تزوجت تشالك، انتقلت إلى وظيفة بدوام جزئي كأستاذة في جامعة مكغيل في مونتريال (McGill University)، حيث عملت جنبًا إلى جنب مع زوجها الفيزيائي. لكنها فُصلت في النهاية بسبب سياسات مكافحة المحسوبية التي كانت تمنع الأزواج من العمل في نفس القسم – وهو عائق آخر للكثير من النساء العالمات.
التهميش الثقافي والاجتماعي
والأدهى من ذلك، أن ديوي لم تكن تُنادى باسمها في كثير من الأحيان، بل باسم رجل مرتبط بها. فقد كانت تُدعى «السيدة كلارك» – اسم زوجها – رغم أنها كانت تُفضل اسمها الأصلي في المنشورات العلمية. أو أسوأ من ذلك، كانت تُدعى «حماقة ماجي» (Magie’s Folly)، نسبة إلى ويليام فرانسيس ماجي الفيزيائي الذي كان دعم مسيرة ديوي المهنية. هذا التهميش الثقافي كان سمة متكررة في تاريخ العديد من النساء في مجالات العلوم، حيث كانت إنجازاتهن تُنسب إلى رجال عُرفوا بارتباطهم بهن.
النساء في فيزياء الكم: هل مازلن في الظل؟
لا تزال النساء ممثلات تمثيلًا ضعيفًا في عالم فيزياء الكم. ويُشير محررو الكتاب إلى أن الروايات التقليدية لتاريخ هذا المجال، التي تُشيد في الغالب بـ «عباقرة» من الذكور، قد يكون لها علاقة بالأمر. فهذه الروايات قد تساهم في إبراز فكرة أن النجاح في هذا المجال هو نتاج عبقريات فردية، وبالتالي يتم تهميش أي إسهامات جماعية أو نسائية.
لمقاومة هذه الفكرة القائلة بأن الإنجاز في هذا المجال ينتمي فقط إلى العباقرة الفرديين، تجاهل الكتاب عمدًا أسماء لامعة في مجال العلوم، مثل ماري كوري. فالاحتفاء بمثل هذه الشخصيات البارزة قد يعزز بشكل غير مباشر الصورة النمطية التي تُبعد النساء عن دخول هذا المجال.
رصدٌ لسيرورات معارك النساء الكبرى
28-07-2022
وبالتالي، يسلط الكتاب الضوء على نساء ظللن في الظل، مثل الفيزيائية الأمريكية كاثرين واي (Katharine Way)، التي انشأت قاعدة بيانات بالغة الأهمية للبيانات الذرية والنووية؛ وكارولين باركر (Carolyn Parker)، الفيزيائية الأمريكية السوداء التي عملت في مجال الأبحاث العسكرية وفي جامعة فيسك (Fisk University) في ناشفيل خلال فترة جيم كرو (Jim Crow era) العنصرية؛ وماريا لويسا كانوت (Maria Lluïsa Canut)، عالمة البلورات بالأشعة السينية التي عملت في إسبانيا خلال فترة الديكتاتورية الفرانكوية؛ وآنا ماريا سيتو (Ana Maria Cetto) الفيزيائية الكمومية المعاصرة من المكسيك التي قدمت العديد من المساهمات في أسس ميكانيكا الكم، وهي إحدى منظمي السنة الدولية لعلوم وتكنولوجيا الكم لعام 2025.
خلاصة
يؤكد الكتاب، من خلال تمثيل هؤلاء النساء المجهولات، أنه ليس من الضروري أن تكون عبقريًا استثنائيًا لتقديم مساهمات في البحث الكمومي. هذه الفكرة تنطبق على الرجال والنساء على حدٍ سواء. فالكثير من النساء كُنّ أشخاصًا عاديين، لديهنّ رغبة في استكشاف عجائب الفيزياء، حتى في الظروف الصعبة التي واجهنها. وكما يوضح الكتاب، يمكن لأي شخص فهم قصص حياة هؤلاء النساء الآسرة، على الرغم من أن النص مليء بالمعادلات والمفاهيم العلمية المتقدمة.
الموضوع مترجم عن موقع مجلة ScienceNews
*إميلي كونوفر Emily Conover كاتبة فيزياء بارزة، انضمّت إلى مجلة ScienceNews عام 2016. وهي حاصلة على درجة الدكتوراه في الفيزياء من جامعة شيكاغو، حيث درست الطرق الغريبة للنيوترينوات، وهي جسيمات أولية دقيقة يمكنها اختراق الأرض بسرعة. خاضت إميلي تجربة الكتابة العلمية لأول مرة كزميلة في قسم الإعلام في الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم (AAAS) في صحيفة ميلووكي جورنال سنتينل.
**رمزي ناري: كاتب ومترجم عراقي يُقيم في عمّان، الأردن.





