مرّ شهرٌ على قرار وقف إطلاق النار في قطاع غزّة، وبِدْء سريانه. قبلَ هذا الشهر لم يكُن الأمل يحوم في الأُفق. كانت مدينة غزّة تتعرّض لأبشع عدوانٍ تدميري، استكمالاً لحرب الإبادة التي انطلقت منذ سنتيْن. حينها، نزحَ الناس وهم يرون من بعيد المدينة الأخيرة في القطاع تُمحى عن الوجود. كان الهدف واضحاً، كما قاله يسرائيل كاتس وزير الحرب الإسرائيلي: "سنجعل غزّة مثل رفح وبيت حانون".
حين بدأت الحرب قبل عاميْن، كانت طاحنة بشكلٍ لم نشهد له مثيلاً. لا حرب مثلها في كلّ الحروب. ولو قارناها مع الجميع، فلن نجد شيئاً مثل الذي يحدث هنا. بعد عاميْن، وخلال أشهرٍ طويلة بعد تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني / نوفمبر 2023، بدأنا نشهد أشكالاً أُخرى للحرب. صارت حرب إبادة، حرب تجريبية. تُجرِّب إسرائيل كثيراً من أسلحة وأدوات الموت والتدمير، فنشهد الأبشع والأصعب في كلّ مرّة. التجربة التي تنجح، تنتقل إلى تطبيقها في مناطقَ أُخرى، حتى صارت غزّة نفسها، تُنازع نفسها في نِسب الدمار وأشكاله.
دُمِّرت غزّة وقُصِفت في البداية، نزح الناس من الشمال، نُسِفت الأبراج ورأينا المدينة تنهار. دخل الجيش إلى خانيونس مطلع كانون الأول/ ديسمبر 2023، فقُلنا سيفعلون فيها كما فعلوا بغزّة. خرجَ الجيش من خانيونس بعد أشهر، ودخلتُ إليها أنا، رأيتُ ما لا يُمكِن وصفه، مبانٍ متراصة جنباً إلى جنب، لكنّها مُدمّرة، مفرَّغة مما فيها، شوارع مُجرَّفة وجبالٌ من الرمال. شوارع أخرى مفتوحة من بين المنازل. قُلت هذا الدمار لا مثيل له، حتى جاءَ احتلال رفح، الذي أصبح المثال الأبرز في القطاع.
أظهرت مقاطع فيديو مشاركة شركة "ميشك عفار المحدودة" الإسرائيلية، في عمليات التدمير في رفح، وهي شركة خاصة تعمل في البنية التحتيّة. ليس ذلك فقط، إنما شارك رئيسها، رجل الأعمال الإسرائيلي ألون إلغالي، بنفسه، في عمليات التدمير برفح. فالمهمة عدا عن كونها تجارة، إلا أنها نهجٌ إبادي، مزروع بين الإسرائيليين، وليس في جيشهم فقط.
مُسِحت رفح عن الوجود خلال أكثر من سنةٍ ونصف من احتلالها وتدميرها. انتقلَ الجيش من عمليات القصف إلى تفخيخ المنازل والمربعات السكنيّة بواسطة وحدات الهندسة والجنود، حتى فَشلَ الأمر باعتباره خطراً على عناصره، فاستبدلها العدو بطرقٍ أُخرى: تدمير المنازل باستخدام شركات المقاولات! فقد وثّقت العديد من التقارير الصحافيّة والاستقصائية استقطاب الاحتلال لأفراد وشركات المعدات الثقيلة، للمشاركة في عمليات الهدم، بهدف تسريعها، والتخفيف من الثقل على عناصر الجيش.
غزّة.. أكلها الذئب
25-10-2025
أظهرت مقاطع فيديو مشاركة شركة "ميشك عفار المحدودة" الإسرائيلية، في عمليات التدمير في رفح، وهي شركة خاصة تعمل في البنية التحتيّة. ليس ذلك فقط، إنما شارك رئيسها، رجل الأعمال الإسرائيلي ألون إلغالي، بنفسه، في عمليات التدمير برفح. فالمهمة عدا عن كونها تجارة، إلا أنها نهجٌ إبادي، مزروع بينَ الإسرائيليين، وليس في جيشهم فقط.
انتقلَ التدمير في رفح إلى شكلٍ آخر لاحقاً. العربات المفخخة أو "الروبوتات"، التي اشتهرتْ لتصبح الوجه الأبرز في عملية التدمير والنسف في القطاع، وصولاً إلى لحظتنا الحاليّة.
لدى إسرائيل المئات من عرباتٍ عسكرية خرجت عن الخدمة، بالية، لا أهمية لها. لكن العقلية التدميرية والاستعمارية التي تمتهن القتل والتدمير، لا تكُف عن الإبداع. قرّرتْ إسرائيل استثمار هذه العربات القديمة والمهترئة، في مزيد من القتل والنسف، إذ بدأت بإعادة تجهيز تلك الخارجة من الخدمة، وتحويلها إلى كتل ضخمة من المتفجرات تُوجَّه إلكترونياً وتُسيَّر نحو الهدف، قبل تفجيرها.
انتقلَ هذا الأسلوب من رفح إلى بيت حانون لاحقاً، حينَ حاول الاحتلال تطبيق ما سُمّي "خطة الجنرالات"، التي دمّرت، في تطبيق الجزء الأوّل منها، محافظة شمال قطاع غزّة، وصولاً إلى"عربات جدعون 1"، التي سُيطِر فيها بالكامل على محافظتيْ الشمال وخانيونس. مُسِحتْ بيت حانون من الوجود ، وصارت رفح المثال: قالوا سنجعلها مثل رفح، ثم انتقلوا إلى سواها. ثم قالوا سنجعل خانيونس مثل رفح وبيت حانون، فمسحوا مناطقها الشرقيّة بالكامل.
حتى جاء الدور على مدينة غزّة، فيما سمِّي "عربات جدعون 2". قبلَ أن ننزح، كانت عمليات النسف الهائلة تزيد وتتصاعد كلّ يوم: زيادة في العدد، وزيادة في القوّة التفجيرية. تُرافقها زيادة في القلق وزيادة في الألم، ونحن نشهد المدينة وهي تُمْحى عن الوجود بهذا الشكل البشع.
انتقلَ التدمير في رفح إلى شكلٍ آخر: العربات المفخخة أو "الروبوتات"، التي اشتهرتْ لتصبح الوجه الأبرز في عملية التدمير والنسف في القطاع، وصولاً إلى لحظتنا الحاليّة.
من رفح إلى بيت حانون لاحقاً، حينَ حاول الاحتلال تطبيق ما سُمّي "خطة الجنرالات"، التي دَمّرت، في تطبيق الجزء الأوّل منها، محافظة شمال قطاع غزّة، وصولاً إلى"عربات جدعون 1"، التي سُيطِر فيها بالكامل على محافظتيْ الشمال وخانيونس. مُسِحتْ بيت حانون من الوجود ، وصارت رفح المثال: قالوا سنجعلها مثل رفح، ثم انتقلوا إلى سواها. ثم قالوا سنجعل خانيونس مثل رفح وبيت حانون، فمسحوا مناطقها الشرقيّة بالكامل.
انفجار هائل يتجاوز الكلام في وصفه. انفجار يؤدي إلى اهتزاز المنازل بشكل أصعب من اهتزازات الزلازل، قبله تشتعل السماء بنارٍ هائلة، وتسبق وصول الصوت المُرعب الذي يخترق القلوب، قبل الآذان، مع شدّة ضغط الهواء. في مناطق أُخرى، وفي شهاداتٍ حيّة، حين يكون "الروبوت" قريباً منك، فإنهُ يمكن أن يؤدي إلى تفتيت الجسد وتقطيعه، أو على الأقل إلى أضرارٍ في القلب والتنفس، هذا فيما لو كنتَ على بُعدٍ متوسّط.
وثّقتْ التقارير الحقوقيّة أواخر أيلول/ سبتمبر الماضي، تفجير الاحتلال ما يزيد على 17 عربة يومياً في مدينة غزّة وحدها. يُعادل تفجير كل واحدة منها زلزالًا بقوة 3.7 درجة على مقياس ريختر. استمرَ هذا الأمر حتى وقف إطلاق النار في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر، واستمر بعده.
تقوم هذه العربات المفخخة والمسيرة عن بعد، بالتركيز على مناطق سكنيّة كثيفة المباني، تُوضَع بحماية من الدبابات والطيران تحت أحد المنازل أو العمارات السكنية، وسُرعان ما تنفجر بعد ساعاتٍ، يُحدِّدها الجندي المُسيِّر، لتُدمّر المبنى الذي تتواجد قُربه، وكُل الحي من حولها، بفعل قوة شديدة الانفجار، يصل مداها إلى محافظاتٍ أُخرى، وليس الى المدينة وحدها فقط.
حينَ نزحنا من غزّة، لم يختفِ القصف، فقد كنا نسمع الانفجارات في المنطقة الوسطى. كنّا هاربين من الموت، ونستغرب في كلّ مرة من هول الانفجار، الذي نستوعب لاحقاً أنه وقع في مدينتنا وبينَ أحيائنا السكنيّة.
مع الوقت، صار تفجير "الروبوتات" مهنةً إسرائيلية، وأسلوباً رئيسياً في عملية التدمير في غزّة. فبدلاً من دخول الجيش إلى المناطق السكنية، والمخاطرة بجنوده، وجعْل الدبابات والعربات العسكرية عرضةً للاستهداف أو المواجهة، تُستَخدم هذه الآليات في التدمير قبل دخول الجيش، لتؤمِّن المكان وتتأكد من نسفه ومسح ما تبقى منه من الوجود.
انفجارٌ هائل يتجاوز الكلام في وصفه. انفجارٌ يؤدي إلى اهتزاز المنازل بشكل أصعب من اهتزازات الزلازل. قبله تشتعل السماء بنارٍ هائلة، تسبق وصول الصوت المُرْعب الذي يخترق القلوب، قبل الآذان، مع شدّة ضغط الهواء. في مناطق أُخرى، وفي شهاداتٍ حيّة، حين يكون "الروبوت" قريباً منك، فإنهُ يمكن أن يؤدي إلى تفتيت الجسد وتقطيعه، أو على الأقل إلى أضرارٍ في القلب والتنفس، هذا فيما لو كنتَ على بُعدٍ متوسّط.
كانت السرعة التدميرية عالية جداً، وجذرية تماماً، كأنّ الاحتلال في سباقٍ مع الزمن، لإبادة الأمل المتبقي لدى الناس في العودة إلى منازلهم.
لاحقاً صارت معظم محافظات القطاع، مكاناً غير صالح للسكن. بالدخول الى شوارع أية مدينة، سترى أن الروبوتات كانت تحرق ما تبقى من منازل المواطنين فيها. على تلة عالية في شارع الجلاء، الذي يُطِل على الجهة الشرقية الشمالية، يقع حي "أبو سكندر" الذي تم مسحهُ بالكامل، خلال شهرٍ واحد - بين أيلول/ سبتمبر وتشرين الأول/ أكتوبر- ولم يبقَ منه سوى بقايا حجارة مكوّمة على بعضها. كذلك حصلَ في حي الزيتون وحي الشجاعية، ومناطق كثيرة في مدينة غزّة. كانت السرعة التدميرية عالية جداً، وجذرية تماماً، كأنّ الاحتلال في سباقٍ مع الزمن لإبادة الأمل المتبقي لدى الناس في العودة إلى منازلهم.
العبودية الجديدة
06-10-2025
اليوم، وعلى الرغم من انتهاء الحرب بشكلها الوحشي البشع، لا تزال مهمة "الروبوتات" فعّالة. فخلفَ "الخط الأصفر" الفاصل بين مناطق سيطرة جيش الاحتلال، الذي يستولي على أكثر من 51 في المئة من أراضي القطاع، لا تزال عمليات التدمير جارية بسرعة هائلة، إذ تُسمع يومياً الانفجارات الضخمة الناتجة عن العربات المفخخة.
لم تنته اللُعبة بالنسبة إلى الاحتلال. لعبة بدأت منذُ أشهر الحرب الأولى، حين كان الجنود يُصوِّرون فيديوهاتهم وينشرونها عبر تطبيق "تيك توك". مقاطع مختلفة لجنود يُهْدون أطفالهم في أعياد ميلادهم هدايا تتمثّل في تفجير وتدمير منازل، لا تبدو إلّا كألعابٍ ناريّة، فيما تَقتل في كلّ مقطع أمل طفلٍ آخر في العودة إلى منزله. هذه اللعبة مستمرّة حتى اللحظة، وفي كلّ لحظة، على الرغم من وقف إطلاق النار، حيث يُقتَل أملٌ آخر، قتلٌ لا يوقفه تصريحٌ أو اتفاق!




