بمجرّد سقوط العقيد الليبي الراحل، معمر القذافي، في 17 شُباط/ فبراير من العام 2012، سادت أجواء من التفاؤل بانهيار نظام مستبدّ دام لأكثر من 43 عاماً. لكن سرعان ما بددت الأزمة التي أعقبت ذلك وتعقيداتها، لا سيما الأمنيّة منها، هذا التفاؤل.
فبعد 2012، تشكّلت مجموعات مسلحة تحوّلت لاحقاً إلى ميليشيات منظمة تتنافس على النفوذ، وكان لها دور كبير في هندسة الحكم والمشهد، سواء بـ "القُوّة"، أو من خلال التحالف مع بعض الأطراف والكيانات السياسية، خاصة في غرب البلاد.
في السنوات الأولى للثورة الليبية، لم يتجاوز عدد أفراد الميليشيات العشرة آلاف، لكن في 2014 أحصت السلطات حوالي 260 ألفاً، ما يعكس حجم تغوّل هذه التشكيلات واجتذابها للناس، مستفيدة في ذلك من إغداق الحكومات المتعاقبة أموالاً طائلة عليها.
فن الحرب: تفكيك أوصال ليبيا
12-02-2014
وعلى ذلك، سجّلت ليبيا محاولات محتشِمة لتقليص نفوذ الميليشيات في تلك السنوات، من خلال تقليص مخصصاتها المالية، وهي خطوات جوبهت بمقاومة شرسة. ففي 2013، أقدم رئيس الحكومة آنذاك، علي زيدان، على قرار شجاع وجريئ في هذا الشأن، لكن الردّ كان صادماً وكشف عن هشاشة الدولة، فاختُطف هو نفسه من قبل "غرفة عمليّات ثوار ليبيا" لساعات قبل أن يتمّ الإفراج عنه بعد تفاهُمات شفويّة.
هندسة الحُكّام
منذ اللحظة الأولى لسقوط نظام القذافي، كان واضحاً أن الميليشيات ستصبح المعضلة الأكبر في ليبيا، إذ أدى تسريح آلاف العناصر، التي كانت تنتمي إلى الأمن والجيش، وحلّ الأجهزة الأمنية، إلى تدريب الآلاف من المقاتلين بسرعة، بهدف تأمين التحاقهم بجبهات القتال، ضمن تشكيلات مسلحة مُكوّنة مما يعرف بـ "ثوار 17 فبراير".
بعد 2012، تشكّلت مجموعات مسلحة، تحوّلت لاحقاً إلى ميليشيات منظمة تتنافس على النفوذ، وكان لها دور كبير في هندسة الحكم والمشهد، سواء بـ "القُوّة"، أو من خلال التحالف مع بعض الأطراف والكيانات السياسية، خاصة في غرب البلاد.
قادت حاجة حكومات طرابلس بالأخصّ، إلى من يؤمنها بوجه جماعات مثل تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش) التي أعلنت مدينة سِرت إمارةً لها - وأيضاً بوجه خصومها من فلول النظام السابق، وكذلك قوات المشير خليفة حفتر - إلى إغداق أموال طائلة على الميليشيات.
وقد تولّت تلك الميليشيات بنفسها استعادة سِرت، وأيضاً إحباط هجوم المشير حفتر في العام 2019، ما جعلها رقماً صعباً في المعادلة السياسية والعسكرية في البلاد.
لم يتوقّف دور هذه الميليشيات عند هذا الحدّ، إذ كشفت عمليّة تشكيل حكومة الاستقرار الوطني برئاسة فتحي باشاغا، في العام 2023، عبر توافق من البرلمان، وقوات شرق ليبيا، والمجلس الأعلى للدولة، عن قدرتها الهائلة على تحديد من يحكم ليبيا.
في ليبيا، حكم العائلة لم ينته بسقوط القذافي
20-07-2022
احتمى آنذاك الدبيبة بالميليشيات التي يتحدّر معظمها من مصراتة، وتمتلك ثقلاً عسكريّاً قويّاً، وتَمكّن من خلال ذلك من منع باشاغا من دخول طرابلس، التي تضمّ معظم مقارّ المؤسسات الرسميّة المُهمّة، على غرار المؤسسة الوطنية للنفط، والمصرف المركزي. وعلى الرغم من محاولته عقد تفاهمات مع الميليشيات، إلا أنّ باشاغا فشل في إقناعها بضرورة الاصطفاف خلفه، فرجّح ذلك كفّة الدبيبة الذي ظلّ في الحكم مستنداً إلى تحالفٍ وثيق مع تلك التشكيلات.
والدبيبة نفسه، يتحدّر من مصراتة، وهو ما يعكس الوازع الجهوي-القبلي أيضاً، الذي تخضع له ولاءات الميليشيات المسلحة في ليبيا.
أنشطة غير مشروعة وتعيينات
مع تردي ليبيا في أزمة اقتصاديّة حادّة، جراء تراجع إيرادات النفط، الذي يُعدّ ركيزة أساسيّة من ركائز الاقتصاد، بسبب الإغلاقات المتكرّرة الناجمة عن احتجاجات أو غير ذلك، تمّ التقليص بشكل كبير في مخصّصات الميليشيات المسلحة، ما أجبر كثيراً منها على البحث عن "موارد بديلة"، فوجدت ضالّتها في أنشطة غير مشروعة.
وتكمن تلك الأنشطة في تهريب الوقود، لا سيما في مدينة الزاوية، التي تبعد حوالي 46 كيلو متراً عن العاصمة طرابلس، وأيضاً في الاتجار بالبشر، والاختطاف وطلب الفدية، ما جعلها تشكِّل عقبة رئيسة أمام الحكومات المتعاقبة، التي صارت في حرج شديد، وأضحت سمعتها على محكّ حقيقي، وسط مساعيها إلى استرضاء قوى أجنبية، من أجل البقاء في السلطة.
منذ اللحظة الأولى لسقوط نظام القذافي، كان واضحاً أن الميليشيات ستصبح المعضلة الأكبر في ليبيا، إذ أدى تسريح آلاف العناصر، التي كانت تنتمي إلى الأمن والجيش، وحلّ الأجهزة الأمنية، إلى تدريب الآلاف من المقاتلين بسرعة، بهدف تأمين التحاقهم بجبهات القتال، ضمن تشكيلات مسلحة مُكوَّنة مما يُعرف بـ "ثوار 17 فبراير".
مقابل ذلك، حافظت بعض الميليشيات على موارد قويّة، تحصل عليها من قبل السلطات، بعد أن رسّخت نفسها طرفاً "لا غنى عنه"، على غرار ميليشيا دعم الاستقرار التي يقودها عبد الغني الككلي، المعروف اختصاراً بـ "غنيوة".
بدأ غنيوة مسيرته في العام 2011 من خلال إنشاء كتيبة "أبو سليم"، واتّخذ من حيّ أبو سليم في العاصمة، المكتظّ بالسكان، مقراً لقواته، ونجح في الحفاظ على السلم والاستقرار في المنطقة وعدم الانخراط في أية مناوشات بين الميليشيات، وعكف طيلة السنوات الفائتة، على نسج علاقات متقدّمة مع الفاعلين السياسيين والعسكريين في غرب ليبيا، من أجل تعزيز نفوذه، وقد نجح في ذلك بشكل كبير، ليصبح قائد أكبر فصيل مسلح في غرب البلاد.
أيضاً نجد ميليشيا جهاز الردع لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، بقيادة عبد الرؤوف كارة، وهو جهاز يتبع المجلس الرئاسي، لكنه يملك نفوذاً واسعاً من خلال السيطرة على مطار معيتيقة الدولي، ومنشآت أخرى حيوية مكّنته من جني أرباح ضخمة.
المفارقة أن هذين الفصيلين بشكل خاصّ كان لهما باع وذراع في التعيينات في الوزارات وسائر المناصب، إذ أتاح لهما النفوذ الواسع، الذي صار يملكه كُلٌّ من الككلي وكارة، التدخّل في التعيينات الحكومية، لاسيما الككلي – الذي قضى قبل أسابيع – إذ كان الطرف الرئيسي في صدّ قوات باشاغا، التي كانت تسعى إلى إدخاله بالقوّة إلى طرابلس، واستلام الحكم، وبالتالي كان للككلي الفضل في بقاء الدبيبة على رأس الحكومة.
رحلة الانهيار
بدأت قبضة الميليشيات في غرب ليبيا ترتخي شيئاً فشيئاً في الآونة الأخيرة، وبدا ذلك واضحاً من خلال تصفية الككلي في طرابلس، من قبل قوات حكومة الوحدة الوطنية. وإثر هذه الحادثة، التي هزّت ليبيا وأثارت مخاوف من انزلاق البلاد نحو حرب شاملة بين الميليشيات، خرج الدبيبة معلناً عن حرب ضد "الميليشيات التي تسعى إلى السيطرة على مؤسسات الدولة".
ويعكس هجوم الدبيبة المنسّق والحادّ ضد الميليشيات الانزعاج من تدخلها في التعيينات الحكومية وسعيها إلى الحصول على المزيد من الموارد الماليّة، حيث لم تقتصر حملته على الككلي، بل سارع إلى حشد وتعبئة قواته تمهيداً لهجوم ضد ميليشيا عبد الرؤوف كارة، لاستعادة السيطرة على مطار معيتيقة الدولي.
وقد كان له ما أراد. لكن هذه المرة، من خلال مفاوضات شاقّة، انتهت باتفاق يقضي بانسحاب عناصر ميليشا جهاز الردع لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظّمة، وهو اتفاق جنّب طرابلس مؤقتاً مواجهة كانت ستكون داميّة بين الطرفين، إذ يملك هذا الفصيل حوالي 5 آلاف عنصر، ويدير سجناً في العاصمة يتواجد فيه حوالي ألف متشدد، قاتلوا في وقت سابق، ضمن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
مع انحدار ليبيا إلى أزمة اقتصاديّة حادّة، جراء تراجع إيرادات النفط، الذي يُعدّ ركيزة أساسيّة من ركائز الاقتصاد، بسبب الإغلاقات المتكرّرة الناجمة عن احتجاجات أو غير ذلك، تمّ التقليص بشكل كبير في مخصّصات الميليشيات المسلحة، ما أجبر كثيراً منها على البحث عن "موارد بديلة"، فوجدت ضالّتها في أنشطة غير مشروعة.
ومحاصرة الميليشيات لم تقتصر على ضغوط الدبيبة، إذ اعتقلت إيطاليا آمر الشرطة القضائية الليبية، أسامة نجيم، استجابة لمذكرة اعتقال صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، التي تتهم نجيم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، حيث كان مسؤولاً عن احتجاز المئات في العاصمة طرابلس.
وقد سلّمته إيطاليا لاحقاً إلى ليبيا، حيث خضع لتحقيقات واسعة من قبل حكومة الدبيبة، الذي صار مدركاً أن عليه إعادة ترتيب أوراقه، من خلال تفكيك الميليشيات المناهضة له، واستمالة جماعات أخرى، خاصة أن تحركات حفتر وخطابه الأخير يشيران بوضوح إلى إمكانية شن هجوم ضد سلطات طرابلس. فحفتر حذّر من أنه "تمّ منح الوقت الكافي للعملية السياسية بدون جدوى"، وأنه "سيتخذ قراراً حاسماً".
في المُحصّلة، صار جلياً أن عمليةً لإعادة رسم خريطة الميليشيات يتمّ تنفيذها في غرب ليبيا، وهي عملية تفرضها مساعي الدبيبة إلى تلميع صورته خارجياً، من خلال إخضاع قادة بعض تلك الميليشيات إلى المساءلة والمحاسبة، كما يسعى الرجل إلى تأمين بقائه في السلطة، من خلال رسم تحالفات جديدة واستبعاد ميليشيات أخرى، سواء بالقوّة، من خلال الاغتيالات والتصفيات، أو بالتفكيك، وهو مسار محفوف بمخاطر عدّة، أبرزها انزلاق طرابلس والغرب الليبي إلى انقسام شديد. وهذا الانقسام يصبّ في صالح حفتر، الذي يترصّد فرصةً للعودة إلى الهجوم على طرابلس والسيطرة على السلطة، خاصة مع فتحه قنوات مع تركيا، التي كانت حليفة وثيقة لسلطات طرابلس، ما قد يضمن له "حياداً" من أنقرة، يُضعِف به الميليشيات وحكام الغرب الليبي.



