بعد مرور خمسة أشهر من إعلان الجيش السوداني رسميا؛ عن استعادة السيطرة على الخرطوم، لا تزال التساؤلات حائرة عن مصير العاصمة، إذ إن هذه المدينة التي انقلبت رأساً على عقب، ما انفكت ترزح تحت وطأة الخراب والمرض والفقر، من جهة وتحت قصف مسيرات قوات الدعم السريع بعيدة المدى من جهة أخرى.
تصاعدت الدعوات مؤخراً إلى عودة المواطنين إلى منازلهم في العاصمة، وعلى نحو خاص إلى مدينتي الخرطوم وبحري، حيث أن مدينة أم درمان نجت أجزاء واسعة منها، ولم تصل إليها الاشتباكات المباشرة، وظلت الحياة طبيعية فيها.
ومع تصاعد هذه الدعوات، برزت مبادرات تحفيزية لعودة الناس، ذلك بتحمل كافة مصاريف النقل، خاصة للراغبين بالعودة من مصر. ونشطت هذه المبادرات بشكل موسع في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن الواقع على الأرض غير ذلك.
خراب واسع وواقع معقد
لا تزال عودة المواطنين ضعيفة، وتنعدم تماماً في مناطق رئيسية، وعلى الرغم من تشكيل لجنة عليا لتهيئة البيئة لعودة المواطنين، إلا أن الواقع يبدو أكثر تعقيداً من تشكيل لجنة، كما أنه فوق قدرة المؤسسات الحكومية بطاقتها الحالية. وعلى ذلك، فإن الوضع القائم الآن لا يزال وضع حرب.
ويبدو بالفعل أن الحديث عن استعادة الحياة في العاصمة قبل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار - على الأقل - ضرب من المستحيل. والاتفاق ليس فقط لوقف العداء وإنما تمهيداً لسلام يمنح الفرصة لتدفق الأموال إلى مشاريع إعادة الإعمار، لعاصمة تحولت من مدينة مركزية إلى مكان يفتقد أبسط الخدمات.
استعادة الحياة للعاصمة ليست بالأمر اليسير، وليست كذلك بالأمر المستحيل تماماً، إذا ما توافرت شروطها. ابتداءً، فَقَد كل المواطنين مصادر دخلهم، سواء هؤلاء الذين يعملون في وظائف في الخرطوم، أو في قطاعات العمل الحر، أو في النشاط التجاري بمختلف مستوياته. وفقد الجميع ممتلكاته ومدخّراته، إما بسبب عمليات النهب الواسعة، وإمّا باستهلاكها طيلة شهور الحرب الطويلة.
واجهت الخرطوم خلال عامين من الحرب دماراً واسعاً طال كل شيء، فتحولت إلى مدينة غير صالحة للعيش، أمنياً، بيئياً وصحياً. وبعد إعلانها خالية من قوات الدعم السريع، كان المتوقع أن تتسارع الخطى، لبث الحياة فيها مجدداً على المستوى الخدمي. لكن اكتشف الناس أن حجم الدمار في قطاعات الخدمات الأساسية هائل. وإن كان الوضع الخدمي في السودان عموماً لم يكن جيداً قبل الحرب، لكن ما هي عليه الخرطوم الآن هو انعدام تام لأبسط مقومات الحياة، مع مشقة شديدة في الحصول عليها، إن وُجِدت، وبتكاليف باهظة.
على سبيل المثال، بلغت خسائر قطاع الكهرباء في العاصمة، حوالي ملياري دولار، وفقاً لتقارير صحافية، إذ تعرّض هذا القطاع لاستهداف مباشر من قوات الدعم السريع بعد خروجها من الخرطوم، وذلك بقصفها الدقيق لمحطات الكهرباء بالمسيرات المتطورة. وقبل ذلك، تعرض القطاع لعمليات نهب وسرقات ممنهجة، بغرض سرقة أسلاك النحاس والآليات الأخرى، وتم تدمير 15 ألف محول كهربائي، تبلغ قيمة الواحد منها أكثر من 40 ألف دولار، وتخريب حوالي 150 ألف كيلو متراً من خطوط الكهرباء.
ونتج عن ذلك برمجة قاسية في إمداد التيار الكهربائي في مدينة أم درمان ومناطق أخرى، وأثّر هذا النقص الحاد في الإمداد على عمليات الإنتاج التجاري والصناعي، على قلّته.
أما مدينتا الخرطوم وبحري، فقد لجأت المجموعات التي ظلت باقية في الخرطوم، أو تلك التي عادت، إلى تدابير أهلية لشراء ألواح الطاقة الشمسية لسد الحاجة الأساسية، وحينما نتحدث عن حياة في الخرطوم، نشير مباشرة إلى أطراف العاصمة، وليس إلى المدينة بشكلها القديم، حيث لا يزال عمق المدينة خالياً تماماً، من أية مؤشرات عودة.
التفشي الواسع للحميّات في الخرطوم، في ظل انهيار النظام البيئي، ومحدودية قدرة القطاع الصحي الذي يحاول الصمود بميزانيات محدودة، وضع حاجزاً أمام عودة المواطنين. ومع شح الخدمات الصحية والطبية في الخرطوم، يبقى الحصول على الخدمة الطبية هاجساً حقيقياً، على الرغم من جهود وزارة الصحة، في ضخ الروح في المشافي الطَرَفية حيث الكثافة السكانية.
العودة ليست مستحيلة بتوافر شروطها
مما لا خلاف حوله، أن استعادة الحياة للعاصمة ليست بالأمر اليسير، وليست كذلك بالأمر المستحيل تماماً، إذا ما توافرت شروطها. ابتداءً، فقد كل المواطنين مصادر دخلهم، سواء هؤلاء الذين يعملون في وظائف في الخرطوم أو في قطاعات العمل الحر، أو في النشاط التجاري بمختلف مستوياته. وفقد الجميع ممتلكاته ومدخّراته، إما بسبب عمليات النهب الواسعة، وإمّا باستهلاكها طيلة شهور الحرب الطويلة. والعودة إلى الخرطوم من دون تأمين مصادر دخل، مستحيلة، إلا بالاعتماد على تحويلات المغتربين. ومع الغلاء المرعب في السودان، فقد يفضل المغتربون - دافعو المال - الإبقاء على أسرهم خارج السودان - في مصر على سبيل المثال - وذلك لتقليل المصاريف، وضمان وجود خدمات بجودة عالية وبأسعار معقولة.
وهناك قطاعات من المواطنين تمكّنت من ترتيب أوضاعها في ولايات أخرى، وأمّنت مصادر دخل هناك. ولكن، وبلا شك، فهذه القطاعات يمكن أن تعود إلى الخرطوم إذا ما توافرت الشروط.
بلغت خسائر قطاع الكهرباء في العاصمة، حوالي ملياري دولار، وفقاً لتقارير صحافية، إذ تعرّض هذا القطاع لاستهداف مباشر، من قوات الدعم السريع، بعد خروجها من الخرطوم، وذلك بقصفها الدقيق لمحطات الكهرباء بالمسيرات المتطورة.
في ظل الواقع المتشابِك، الذي يحكمه العامل الاقتصادي بالأساس، وكذلك الأمني، مقابل غياب كامل لرؤية وخطة حكومية واضحة، فإن العاصمة الخرطوم قد تحتاج إلى سنوات من العمل الشاق والاستثمارات الضخمة، لإعادة بناء ما دمرته الحرب واستعادة ثقة سكانها. هذا التأخير سيؤدي أيضاً إلى تغييرات ديموغرافية واجتماعية عميقة، وربما ينتهي إلى فقدان العاصمة لدورها المركزي التقليدي، اقتصادياً، سياسياً، واجتماعياً، لصالح مدن أخرى، ليست بالحجم نفسه، لكنها ستقوم بدور البديل.
أما المسألة الأمنية فهي مصدر قلق كبير، ليس فقط بسبب تهديد مسيرات قوات الدعم السريع، التي لا تزال تستهدف المدنيين، بل أيضاً بسبب الانتشار العشوائي للمجموعات المسلحة المسانِدة للجيش، التي ظلت تهديداتها المستمرة متكررة للمواطنين، جراء مختلف أسباب الاحتكاكات، مما يعزز مخاوفهم من العودة، ويقوِّض ثقتهم في قدرة الحكومة على حماية أرواحهم وما تبقى من ممتلكاتهم، حتى وإن كانت هواتف محمولة أو مبالغ مالية زهيدة.
السودان: انفلات أمني في "المناطق الآمنة"!
24-07-2025
في ظل هذا الواقع المتشابِك، الذي يحكمه العامل الاقتصادي بالأساس، وكذلك الأمني، مقابل غياب كامل لرؤية وخطة حكومية واضحة في هذا الصدد، فإن العاصمة الخرطوم قد تحتاج إلى سنوات من العمل الشاق والاستثمارات الضخمة لإعادة بناء ما دمرته الحرب واستعادة ثقة سكانها. هذا التأخير سيؤدي أيضاً إلى تغييرات ديموغرافية واجتماعية عميقة، وربما ينتهي إلى فقدان الخرطوم لدورها المركزي التقليدي، اقتصادياً، سياسياً، واجتماعياً، لصالح مدن أخرى، ليست بالحجم نفسه، لكنها ستقوم بدور البديل.
وفي نهاية الأمر، فإن غياب العاصمة - كقلب نابض للبلاد - يُضعِف من قدرة الدولة على إدارة شؤونها، ويعمِّق من حال التشرذم والانقسامات الجهوية والمناطقية. وتبقى عودة الحياة إلى الخرطوم رهينة بتوافر إرادة سلام حقيقية، تعبِّد الطريق أمام عملية إعمار شاملة لكي تستعيد العاصمة مكانتها.


