ربما كانت واحدة من أكبر خسائر ما بعد "30 يونيه" (الانقلاب على انتفاضة 2011)، علاوة على انتكاس الثورة الشعبية والعودة إلى مربع اليأس واللاجدوى، هو ذلك التمزق غير القابل للرتق في المدى المنظور، والذي حدث للنسيج الاجتماعي والثقافي في مصر، نتيجة حال التنابذ والتباغض التي وقعت بين الناس، والتي لم تسْلم منها نخب مصر ومثقفوها. عداوات شائنة ومزمنة يُحاول فيها كل طرف أن يلقي كرة النار في وجه الآخرين، ويحمِّلهم مسؤولية ما جرى. وعلى الرغم من مرور اثنتي عشرة سنة على تلك الهزيمة، إلا أن الخرق لا يزال يتسع، ويمكِّننا مِن أن نرى أن كثيراً من الفصائل السياسية لا تعبأ بالأضرار التي يمكن أن تلحق بفصائل أخرى، طالما ظنت نفسها في مأمن من القمع والتنكيل، وهو القمع الذي يطالها في النهاية على أية حال.
حارس الحرية
من هذه النقطة نتناول، كواجب، سيرة أحمد نبيل الهلالي، لأنه على الرغم من خصوصية حال الرجل وتفرده في النبل والتفاني، إلا أن كثيرين من مجايليه فعلوا أيضاً ما رأوه واجباً أخلاقياً قبل أن يكون سلوكاً سياسياً أو اجتماعيّاً، في انحيازهم إلى مبادئ الحرية. وبتأمل ما كان يفعله الهلالي وغيره، يمكن الإشارة إلى دلالة ملفتة، وهي أن المجتمع حينها لم تكن قد سرت فيه نيران الكراهية، إلى الحد الذي توشك معه الآن أن تلتهم كل شيء.
فالهلالي الذي انحاز إلى الشيوعية كأيديولوجيا كان من أكبر المدافعين عن سجناء ومعتقلي التيارات الإسلامية وغيرهم، وهم يقفون في الناحية الأخرى من أفكاره وقناعاته. ولكن الرجل أدرك منذ وقت مبكر للغاية أنه يجب أن يدافع عن الحريات العامة وحقوق الإنسان، قبل الانتماءات الفكرية والأيديولوجية، وأن حرية الرأي والاعتقاد والتنظيم هي حقوق أصيلة وبديهية، وأنه لا يجوز للدولة المساس بتلك الحقوق تحت أية ذريعة، وأن مهنته كمحامٍ تلزمه بالدفاع عن سيادة القانون، وعن حق كل "متهم" في الحصول على فرصته في محاكمة عادلة .
كان الهلالي ينطلق من بديهية منطقية أثبتتها الأيام العجاف، وهي أن قمع أي فصيل سياسي يمكن أن يطال فصائل أخرى فيما بعد، طالما ان المجتمع تواطأ على الصمت والتشفي، لأن الاستبداد واحد، والاستبداد لن يكف عن قمع كل تغريدة خارج السرب الذي رسم معالمه وهندس حدوده.
إرهاب السلطة هو الذي ولّد إرهاب الجماعات، وكل منهما يعزز الآخر ويغذيه. ولا يمكن القضاء على الإرهاب بقوة السلاح فقط. فعلى الدولة أن تكف عن إرهابها كي تجف منابع الإرهاب في مهدها، كبديهة لا تقبل الجدل.
استخدم الهلالي ذلك المنطق في سائر القضايا التي كانت الدولة طرفاً أصيلاً فيها.. ففي أحداث 18 و19 كانون الثاني/ يناير عام 1972، التي انتفض فيها المصريون ضد قرارات رفع الأسعار التي أصدرتها الحكومة بشكل مفاجِئ، وأسماها السادات "انتفاضة الحرامية"، أكد هو في مرافعته أن ما جرى كان انتفاضة شعب، يشعر بالقهر والظلم، شعب كامل وليس مجرد فصيل أو مجموعة سياسية.
لم يكن الهلالي يتبنى أفكار موكليه ولا يبررها. ولكنه كان يصر على أن الاختلاف الفكري لا يسلب الإنسان حقه وفرصته في الدفاع القانوني. وكان إصرار الهلالي على الدفاع عن المتهمين في قضايا التيارات الدينية محل خلاف شديد بينه ورموز اليسار وغيرهم في مصر، ولكن الرجل أصر على أنه يدافع عن الانسان "المجرد" وليس عن الانسان "المصنّف"، وأن المحامي يجب أن يخلع انتماءه الفكري قبل الدخول إلى المرافعة عن هؤلاء المتهمين. فيقول: "في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، فالمعيار الأوحد الذي يحدد من هو الإنسان هو إنسانيته، وليس دينه أو لونه السياسي أو أيديولوجيته، وأنا لم أتوصل إلى هذه القناعة باختيار فكري فحسب. وإنما تولدت تلك القناعة لدي من دروس الحياة، التي تؤكد أن التغاضي أو السكوت عن أدنى انتهاك لحريات الآخرين، حتى لو كانوا منافسين سياسيين أو خصوماً سياسيين أو حتى أعداء سياسيين.. هو سهم لا بد أن يرتد إلى صدر المتغاضي، لأنه يُسهّل على الدولة البوليسية إرساء قاعدة، سرعان ما تُعمَّم على الجميع، وتكريس نهج سرعان ما تصيب لعنته الجميع.. لذلك لا يجوز التعامل مع أي إهدار لحريات خصومنا السياسيين، بمنطق "بركة يا جامع"، أو بمفهوم "اللي بعيد عن رأسي أهز له كتافي".
إرهاب الدولة
امتلك الرجل رؤية بالغة النضج والتكامل في النظر إلى قضايا الإسلاميين .. ففي الوقت الذي تصاعدت فيه العمليات الإرهابية التي قادتها بعض الجماعات الإسلامية في مصر، اصطف كثيرٌ من رموز اليسار والمثقفين والنخب مع الدولة في مواجهة الإرهاب، ورأوا أن ذلك يمثل موقفاً واجباً وبديهياً، رأى الهلالي أن الإرهاب لا ينبت بمعزل عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تصنعها سياسات الدولة البوليسية، وقمعها للحريات، وتعميق الفوارق الاجتماعية بين الطبقات، التي ولدها الفساد الذى أوجد بممارساته المتعسفة بيئة حاضنة للإرهاب.
ومن ثَمّ فإن إرهاب السلطة هو الذي ولّد إرهاب الجماعات، وأن كلّاً منهما يعزز الآخر ويغذيه. وأنه لا يمكن القضاء على الإرهاب بقوة السلاح فقط. فعلى الدولة أن تكف عن إرهابها كي تجف منابع الإرهاب في مهدها، كبديهة لا تقبل الجدل.
ففي مرافعته التي عُرِفت بمرافعة القرن في الدفاع عن المتهمين في قضية اغتيال الدكتور المحجوب، رئيس مجلس الشعب حينها، وضع الهلالي الدولة بممارساتها القمعية داخل قفص الاتهام، جنباً إلى جنب مع المتهمين، فقال: "خارج جدران هذه القاعة دماء تُسفك، وأرواح تُزهق، وأشلاء تتناثر، وعلى طول البلاد وعرضها، تمارس سياسة أمنية ثابتة تستهدف تصفية الخصوم جسدياً، وعلى طول البلاد وعرضها تتوالى في المقابل الأفعال الثأرية. وعندما تكون السياسة الأمنية المعلَنة والممارسة بالفعل هي "الضرب في القلب" [1] خلال عمليات الضبط، سواء كان المطلوبون خصوماً سياسيين أو مواطنين عاديين، فمن البديهي أن يقاوم المطلوب مطاردته، وأن يتعامل معهم بمنطق قاتل يا مقتول"[2] .
لم يستخدم الهلالي ذلك المنطق في دفاعه عن الإسلاميين فحسب، بل استخدمه في سائر القضايا التي كانت الدولة طرفاً أصيلاً فيها.. ففي أحداث 18 و19 كانون الثاني/ يناير عام 1972، التي انتفض فيها المصريون ضد قرارات رفع الأسعار التي أصدرتها الحكومة بشكل مفاجِئ، ذهب إلى تفنيد رأي النيابة التي عمدت إلى تصوير الانتفاضة وكأنها تخص مجموعة من الشيوعيين والمخربِين، اتساقاً مع رؤية رئيس الجمهورية، الذى وصفها بأنها "انتفاضة حرامية"، مؤكداً أن ما جرى تلك الأيام كان انتفاضة شعب يشعر بالقهر والظلم، شعب كامل وليس مجرد فصيل أو مجموعة سياسية.
من أشهر القضايا التي ترافع فيها، قضية إضراب عمال السكة الحديد عام 1986، وهو الإضراب الذي سعى فيه العمال إلى مواجهة نظام مبارك في منتصف الثمانينيات، عندما حاول إرضاء صندوق النقد على حساب الطبقات الأفقر، فوقعت مواجهات واسعة بين الشرطة والعمال، الذين ناهز عددهم الألف عامل، وألقي القبض على عدد كبير منهم. وعندما ترافع الهلالي عن العمال، مع عدد من المحامين المتطوعين، تمت تبرئتهم جميعاً من التهم الموجهة إليهم.
وفي وقت ما، صار وجود الهلالي ضامناً وحافظاً للحقوق والحريات، حتى أن كثيرين ممن عاشوا في أوساط النضال السياسي والنقابي، يقولون إن وجوده كان مبعث طمأنينة، وصار من المألوف أن يقال: " إن حدث شيء فالهلالي موجود".
ومن أقواله التي ذهبتْ مثلاً: "أن الفكر، أي فكر، اتفقنا معه أو اختلفنا، لا يجوز أن يكون موضع تأثيم أو محل تجريم، أو حتى هدفاً للازدراء والتحقير. وأن حدود الإباحة في التعبير ليست على مزاج الحاكم أبداً، فمن حقي أن أخطِّئ الحاكم، وأخالف الحاكم، وأهاجم الحاكم".
النشأة
ولد أحمد نبيل الهلالي في السابع من آب/ أغسطس عام 1922، وحصل على ليسانس الحقوق عام 1949. وهو ابن آخر رئيس لوزراء مصر في العهد الملكي، نجيب باشا الهلالي. ولد كما يقال في مثل هذه الأحوال وفي فمه ملعقة من ذهب، ولكنه منذ طفولته المبكرة، امتلك حساً إنسانياً مرهفاً، استطاع به أن يرصد متألماً، تلك الفروق الكبيرة التي كانت تفصل بين الطبقات الاجتماعية في مصر، وأخذ يقارن بين الترف الذي تنعم فيه طبقته الاجتماعية، وحالات الجوع والحرمان، التي تعاني منها طبقات أخرى. فيُحكى أنه شاهد ذات مرة بعض الأطفال وهم يلحسون زجاج بعض محلات الحلوى، لأنهم لا يأملون بأية حال في الحصول على تلك الحلوى فقال: "لماذا يعاني هؤلاء وأسرتي غارقة في النعيم؟!".
وضع الهلالي الدولة في قفص الاتهام مجدداً، في مرافعته في قضية حريق قطار الصعيد، وهو القطار رقم 832 المتجه من القاهرة إلى أسوان، الذي اندلعت النيران في إحدى عرباته الخلفية يوم 20 شباط/ فبراير 2002، وراح ضحية الحريق 361 مواطناً من فقراء مصر الكادحين، وهو الحادث الأكثر مأساوية في تاريخ السكك الحديدية المصرية، استقال على إثره وزير النقل المصري إبراهيم الدميري.
وهناك مرافعته في قضية المستشارَين أحمد مكي وهشام البسطويسي، حين قام وزير العدل، محمود أبو الليل، عام 2006 بتحويل كُلٍّ من المستشارَين المرموقين إلى لجنة التأديب، لدورهما البارز في حركة استقلال القضاء، التي دعمتها القوى السياسية المعارضة آنذاك.
كانت هذه الأسئلة وغيرها هي التي جعلته ينحاز إلى اليسار منذ وقت مبكر للغاية، فيقول: "اخترت الاشتراكية لأنني شاهدت مطبخ المجتمع الرأسمالي واكتشفت وجهه القبيح". وهكذا، انسلخ الهلالي من طبقته، وخرج من تحت عباءة أبيه، ومن حياته المترفة الى ساحة المواجهات مع المجتمع الحقيقي بكل خشونته وصدماته.
في ساحة المواجهات
ما تبقى من حياة الهلالي بعد ذلك، نذره للدفاع عن الناس، وتبني قضاياهم في العدل والحرية والكرامة، وتحوّل مكتبه في حي باب اللوق بالقاهرة إلى مقصد لكل أصحاب الحقوق. من أشهر القضايا التي ترافع فيها، قضية إضراب عمال السكة الحديد عام 1986، وهو الإضراب الذي سعى فيه العمال إلى مواجهة نظام مبارك في منتصف الثمانينيات، عندما جرت محاولات إرضاء صندوق النقد على حساب الطبقات الأفقر، فوقعت مواجهات واسعة بين الشرطة والعمال، الذين ناهز عددهم الألف عامل، وأوسعتهم الشرطة ضرباً، وألقي القبض على عدد كبير منهم. وعندما ترافع الهلالي عن العمال، مع عدد من المحامين المتطوعين، تمت تبرئة جميع العمال من التهم الموجهة إليهم.
أسس الهلالي لجنة الدفاع عن الحريات في نقابة المحامين، مع ذكي مراد، ومحمد فهيم، التي يمكن اعتبارها الجذر الرئيسي في نشأة المجتمع المدني في مصر. فمنها نشأت العديد من لجان الدفاع عن الحريات، التي تحولت بعد ذلك إلى مؤسسات ومراكز لحقوق الإنسان في القاهرة والمحافظات المختلفة.
وكذا مرافعته في قضية حريق قطار الصعيد، وهو القطار رقم 832 المتجه من القاهرة إلى أسوان، الذي اندلعت النيران في إحدى عرباته الخلفية يوم 20 شباط/ فبراير 2002، وراح ضحية الحريق 361 مواطناً من فقراء مصر الكادحين، وهو الحادث الأكثر مأساوية في تاريخ السكك الحديدية المصرية، استقال على إثره وزير النقل المصري إبراهيم الدميري. وقد وضع الهلالي الدولة في قفص الاتهام مجدداً، كعادته في الوصول إلى قلب الحقيقة بلا مواربة أو محاولة للتجميل، فقال: "أرجو ألاّ يُفهم من كلامي عن الرؤوس الكبيرة الغائبة عن قفص الاتهام، بأنني ألقي بعبء المسؤولية عن الكارثة على مديري الإدارات أو على رؤساء الهيئات الحاليين والسابقين، أو حتى على الوزراء المتقاعدين. إطلاقاً. فالمتهم الأول في قضيتنا الغائب عن القفص، هو الدولة بالتحديد. الدولة بسياستها الاقتصادية، وبفلسفتها الاجتماعية".
.. ومرافعته في قضية المستشارَين أحمد مكي وهشام البسطويسي، حين قام وزير العدل، محمود أبو الليل، عام 2006 بتحويل كلٍّ من المستشارَين المرموقين إلى لجنة التأديب، لدورهما البارز في حركة الاستقلال، التي دعمتها القوى السياسية المعارضة آنذاك، وهي المحاكمة التي خرجت على إثرها كثيرٌ من التظاهرات المناهِضة لمحاولة المساس باستقلالهم، وكان الهتاف الشهير: " في مصر قضاة لا يخافون إلا الله"، فكان الهلالي من أهم مناصري الحركة، كما كان من أول المدافعين عنهم في مواجهة قرارات النظام.
الثمن
كان طبيعياً للغاية، والهلالي يتصادم مع الدولة ويفنِّد توجهاتها وخططها المرسومة في القمع والسيطرة، أن يتعرض للاعتقال والتنكيل، إذ تم اعتقاله أربع مرات.
المرة الاولى كانت عام 1959، واستمر سجنه خمس سنوات، والثانية عام 1965 حيث سجن أربع سنوات، والثالثة عقب مظاهرات الطلاب المطالِبة بالحرب في عام 1972 واستمر اعتقاله مدة عام، أما المرة الرابعة فكانت أثناء "اعتقالات سبتمبر" الشهيرة عام 1981.
أسس الهلالي لجنة الدفاع عن الحريات في نقابة المحامين، مع ذكي مراد، ومحمد فهيم، التي يمكن اعتبارها الجذر الرئيسي في نشأة المجتمع المدني في مصر. فمنها نشأت العديد من لجان الدفاع عن الحريات، والتي تحولت بعد ذلك إلى مؤسسات ومراكز لحقوق الإنسان في القاهرة والمحافظات المختلفة.
شاهندة مقلد: سيدة الاختيارات الصعبة
03-07-2013
رضوى وأروى: البدايات والمآلات
08-06-2023
قامت هذه اللجنة بدعم مظاهرات الطلاب، إذ تشكلت اللجنة العليا للطلاب بعد فض الاعتصام الذي دام 24 ساعة في ميدان التحرير. في ذلك الحين ألقي القبض على عشرات القيادات العمالية والطلابية والنقابية، وأودع كل معتقل في زنزانة انفرادية، وبدأت القيادات في توعية المحبوسين بأن محاميهم جميعاً هو أحمد نبيل الهلالي، وبدأ المحبوسون بتعريف أنفسهم بصوت عال من داخل زنازينهم، ليُفجَأ الجميع بأن محاميهم معهم في السجن! وهي اللحظة التي خلّدها الشاعر أحمد فؤاد نجم متهكماً وحزيناً:
"والقفص مليان ضحايا.. والهلالي لما قام.. قلّعوه روب المحامي.. لبسوه توب الاتهام.. والنيابة ع الغلابة.. طبقت بند اللجام.. يا سلاملم يا سلام.. والوطن عايش آلام.. وإلإذاعة مستباعة.. قول يا عم الشيخ إمام...".
خوارزميات فيس بوك
اندهشت قليلاً عندما طالعت ذلك الفيديو[3] أثناء تصفحي لتطبيق فيس بوك. كان غريباً للغاية أن يظهر فيديو بدا أنه يعود إلى فترة التسعينيات أثناء مطالعتي لأخبار ما يجرى في غزة وغيرها، من الكوارث المحدقة بنا من كل جانب. تصدر الفيديو المحامي الأستاذ منتصر الزيات، وهو يقوم بتقديم الأستاذ الهلالي ليبداً كلمته في مناسبة لا أدريها. لبث الهلالي صامتاً ملياً ريثما ينتهى الهتاف، ثم بدأ كلمته. وفي محاولتي البحث في كواليس ذلك اللقاء الجماهيري، الذي بدا فيه الهلالي حزيناً وغاضباً، سألتُ الأستاذ منتصر الزيات، فقال: "عُقد هذا اللقاء الذي قدمت فيه الأستاذ الراحل أحمد نبيل الهلالي في شهر أيار/ مايو 1994 بمناسبة وفاة زميلنا عبد الحارث مدني، المحامي الذي توفي عقب القبض عليه في ظروف تشي بتعرضه للتعذيب. وكنا نطالب بإعلان التحقيقات وتحديد المسؤول عن وفاته وتعذيبه، وكان المؤتمر إعداداً لخروج مسيرة سلمية، من نقابة المحامين إلى قصر عابدين احتجاجاً على ما جرى". وأضاف الزيات: "تقريباً، لا توجد قضية تتعلق بالحريات وحقوق الإنسان في الإطار السياسي والعمالي إلا وكان الهلالي ركناً ركيناً من أركان الدفاع فيها. يقلب فيها الموازين ويعيد تشكيل وعي المنصة وإدراكها بالأسباب الحقيقية التي أنبتت المشكلة. كانت مرافعات الهلالي قطعاً من الأدب الرفيع والصياغة المحْكمة، تعلمتُ منه كيف أترافع والتصقت به جداً في قضية اغتيال المحجوب. وحتى ذلك الوقت، كنت أنتهج في مرافعتي الارتجال، لكني رأيته يعد مرافعته كتابة من الألف إلى الياء، بلغة سهلة تتضمن حتى اللطائف والمواقف والرسائل، ولا يشعر أحد أبداً أنه يقرأ، فاتبعتُ طريقته منذ ذلك الحين. لقد كان عبقرياً على المستوى المهني بما لا يمكن الوصول إلى أدائه قط".
لُقِّب الهلالي بقديس اليسار المصري، وهو الذي عاش زاهداً ورافضاً لأي دعم مادي من أيّ كان ، واكتفى بشقته المتواضعة مع زوجته الأستاذة فاطمة زكي، في حي روض الفرج، أغلب حياته . وكان ترافعه في قضايا العمال مجانياً في كل الأحوال ، اذ كان يهدف إلى رفع مصاريف التقاضي عن كواهلهم الضعيفة . فعاش طبقاً لمبادئه التي آمن بها، والتي نسجها على مدى عمره الحافل بالنبل والعطاء.
1- كان قد أُطلق على السياسة العامة التي أرستها وزارة الداخلية في ذلك الحين، سياسة "الضرب في سويداء القلب"، التي وضع فلسفتها الوزير زكى بدر، وكان يدعو علانية إلى التخلص من المتهمين لحظة القبض عليهم، أو مطاردتهم، وأن الدولة ليست في حال تسمح لها بالقبض على هؤلاء وإدخالهم السجون وإطعامهم ايضاً!! ( رحل زكي بدر عن وزارة الداخلية قبل تسعة أشهر من اغتيال المحجوب). ↑
2- المحجوبون عن العدالة / الصادر عن مركز هشام مبارك للقانون.
↑