قطر: تلك الإمارة التي لن تتخلى عنها الولايات المتحدة

بعد هجمات "11 سبتمبر 2001"، قبلت واشنطن العرض القطري للمساعدة، حيث أصبحت قاعدة العديد بمثابة مركز العمليات في "عملية الحرية الدائمة" اعتباراً من عام 2001 فصاعداً. وفي عام 2003، أتت الاستراتيجية القطرية مزيداً من الثمار عندما نقل مركز أمريكا الجوي لعمليات القتال في الشرق الأوسط من المملكة العربية السعودية إلى قاعدة العديد التي أصبحت، إلى جانب كونها قاعدة جوية كبرى، المقر الإقليمي للقيادة المركزية الأمريكية.
2025-10-16

صبري زكي

كاتب ومترجم من مصر


شارك
موقع قطر في خارطة المنطقة

مقدمة إخبارية

ورد في التغطية الإخبارية لوكالة رويترز خبران في عام 2025، بينهما فاصل زمني أربعة أشهر، يتناولان العلاقة بين الولايات المتحدة وقطر. في 15 أيار/ مايو جاء الخبر الأول بعنوان "ترامب: قطر ستستثمر 10 مليارات دولار في قاعدة جوية أمريكية" – هي قاعدة العُدَيد الجوية، أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط - كما صرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وذكر، في كلمة ألقاها أمام القوات الأمريكية في القاعدة، أن قيمة المشتريات الدفاعية القطرية، من الاتفاقات التي أبرمتها أمريكا حينها تبلغ 42 مليار دولار، بالإضافة إلى توقيع سلسلة من الاتفاقيات التجارية، تضمنت صفقة مع الخطوط الجوية القطرية، لشراء ما يصل إلى 210 طائرات بوينغ عريضة البدن.

وعلى ذلك، في عصر يوم 9 أيلول/ سبتمبر 2025، تعرضت الدوحة لغارات إسرائيلية، استهدفت منطقة كتارا، التي يقع فيها مقر إقامة أعضاء وفد حركة حماس المفاوض. ولم تفعِّل واشنطن أنظمة الدفاع الجوي بقاعدة العديد، على الرغم من قدرتها على ذلك. هذا الحادث أثار تساؤلات حول جدوى الاستثمارات القطرية في القاعدة، وما إذا كانت الدوحة ستستمر في خطط التوسعة، أم ستعيد النظر في شراكتها مع واشنطن.

مقالات ذات صلة

رداً على هذه التساؤلات، نشرت رويترز في 16 أيلول/ سبتمبر خبراً، بعنوان "قطر وأمريكا على وشك إبرام اتفاق دفاعي بعد هجوم إسرائيل على الدوحة"، إذ قال وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو خلال مغادرته تل أبيب متّجهاً إلى الدوحة: "لدينا شراكة وثيقة مع القطريين. في الواقع، لدينا اتفاقية تعاون دفاعي معززة، نعمل عليها، ونحن على وشك وضع اللمسات النهائية عليها". كما أفاد المتحدث باسم وزارة الخارجية القطرية بأن "هذا الهجوم (الإسرائيلي)، بطبيعة الحال، يعجّل الحاجة إلى تجديد اتفاقية الدفاع الاستراتيجي بيننا وبين الولايات المتحدة. إنه ليس أمراً جديداً في حد ذاته، ولكنه جرى التعجيل به بالتأكيد".

تلك الإمارة الصغيرة

لا شك في أن الغارة الإسرائيلية على قطر لم ترفع فقط سقف ما يمكن أن تفعله إسرائيل في المنطقة، لا سيما ضد حلفائها، بل إنها تثير العديد من التساؤلات التى حيّرت الأذهان، بما تحمله قطر من تناقضات سياسية لم يشهد حدتها التاريخ السياسي من قبل: فهي دولة ثرية وصغيرة للغاية، ومع ذلك فهي تبعث الخوف في نفوس جيرانها الكبار، تتبرع بملايين الدولارات للجماعات المجاهِدة من جهة، بينما تستضيف أكبر قاعدة عسكرية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط من جهة أخرى. تقيم علاقات قوية مع إيران، وجماعة الإخوان المسلمين، وطالبان (التي لها مكتب دائم في الدوحة) وحزب الله، وتدعم تنظيم الدولة الإسلامية منذ أن كان في مهده.

العلاقات الجيدة مع المملكة العربية السعودية حاسمة بالنسبة لقطر، إذ ليس لديها حدوداً برية سوى معها، ولا سيما لمواد البناء التي تعد أمراً حيوياً في ضوء مشاريع الدوحة الطموحة للبنية التحتية. ولأنها تعرف أهمية ذلك، عرقلت الرياض إقامة جسر يصل بين قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة في عام 2004، من أجل الحفاظ على اعتماد قطر البري عليها.

تقع قطر تحت خطر تهديد استراتيجي محتمل من قبل إيران حول أكبر حقول الغاز في العالم، والذي يُعرف بحقل غاز الشمال المشترك بين البلدين. يغطي هذا الحقل البحري الضخم مساحة تبلغ حوالي 9.700 كيلومتر مربع، توجد منها 3.700 كيلومتر مربع، تسمى حقول "بارس الجنوبية"، في المياه الإقليمية الإيرانية. وتقع المساحة المتبقية، وتسمى "قبة الشمال"، في المياه الإقليمية لدولة قطر. لقد دفع ذلك قطر إلى إقامة علاقات أوثق مع طهران، حيث إن أي صراع معها قد يعرِّض مكانتها الاقتصادية، كأكبر مصدِّر للغاز، للخطر. 

ونتيجة لهذا، تنظر كثيرٌ من دول العالم - وليس فقط دول العالم العربي - إلى تلك الإمارة الصغيرة بعين الدهشة المقرونة بالاستحسان والاستهجان. فشبكتها الفريدة من العلاقات التي تشمل في بعض الأحيان أكثر الخطوط الأيديولوجية تناحراً في العالم، تبدو في أعين البعض شبكة خرقاء، وفي أعين آخرين شبكة رائعة.

قطر صديقة الجميع

أدى سعي قطر إلى أن تصير صديقة للجميع، ووضع نفسها في مركز الأحداث للعب دور الوسيط في الشرق الأوسط، إلى اتهامات بأن صديق الجميع ليس صديقاً لأحد، بحسب مقولة أرسطو. ولكن هذه الصفة تنطبق على قطر كما تنطبق على غيرها أيضاً. فلا أحد ينسى تلك الابتسامة العريضة، التي كانت تكسو وجه الملك حسين عاهل الأردن، التي كان يقابل بها الجميع، الأعداء قبل الأصدقاء. إن سياسة "صديق الجميع" لها تراث سياسي بين الدول الصغيرة التي تتقرب من الجميع، وتحاول إرضاء الجميع خوفاً من عصف الأقوياء بها. قد يكون ذلك صحيحاً بالنسبة إلى قطر – بل قد يكون نقطة فهم السياسة الخارجية القطرية – لا سيما أنها واقعة بين فكي قوتين، تحاول كل منهما مد نفوذها على حساب الأخرى: إيران والسعودية. فهل هناك وسيلة للخروج من هذا المأزق سوى اللعب على الحبلين، نظراً للخسائر التي قد تتكبدها إذا انتقلت صراحة إلى أحد المعسكرين؟ إليكم بعض الوقائع.

بين شِقَّيّ الرَّحى

تقع قطر تحت طائلة تهديد استراتيجي محتمل من قبل إيران حول أكبر حقول الغاز في العالم، الذي يعرف بحقل غاز الشمال المشترك بين البلدين. هذا الحقل البحري الضخم، يغطي مساحة تبلغ حوالي 9.700 كيلو متراً مربعاً، توجد منها 3.700 كيلو متراً مربعاً، تسمى حقول "بارس الجنوبية"، في المياه الإقليمية الإيرانية. وتقع المساحة المتبقية، وتسمى "قبة الشمال"، في المياه الإقليمية لدولة قطر. لقد دفع ذلك قطر إلى إقامة علاقات أوثق مع طهران، حيث إن أي صراع معها قد يعرِّض مكانتها الاقتصادية كأكبر مصدِّر للغاز، للخطر.

كانت بصمات قطر واضحة على كل شيء تقريباً خلال العقد الماضي. فخلال الربيع العربي، لعبت تغطية الجزيرة دوراً رئيسياً في نشر الانتفاضات الشعبية من بلد إلى آخر. وكانت القناة الأداة الرئيسية في زيادة نفوذ قطر، حيث لعبت – ولا تزال تلعب – دوراً مركزياً في السياسة الخارجية للدولة منذ إطلاقها في عام 1996.

أما على الجانب الآخر، فإن العلاقات الجيدة مع المملكة العربية السعودية تعتبر حاسمة بالنسبة إلى قطر، إذ ليس لديها حدودٌ برية سوى مع السعودية، التي تشكل المدخل البري الوحيد لها، لا سيما لمواد البناء التي تعد أمراً حيوياً في ضوء مشاريع الدوحة الطموحة للبنية التحتية. ولأنها تعرف أهمية ذلك، عرقلت الرياض إقامة جسر يصل بين قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة في عام 2004 من أجل الحفاظ على اعتماد قطر البري عليها. وحتى تحد من نفوذها الاقتصادي، تصدت المملكة العربية السعودية في السابق، لمشروع بقيمة مليارات الدولارات، لتزويد الكويت بالغاز القطري. وهكذا، فإن حجم المملكة وثرواتها الهائلة، مكنتها من أن تلقي بظلالها الكثيفة على الشؤون القطرية.

شبكة علاقات متناقضة

لكن إذا كانت قطر مضطرة فعلياً إلى إرضاء الخصمين اللدودين، فماذا عن شبكة علاقاتها التي تبدو متناقضة للوهلة الأولى. إن الجميع يعلم بعلاقتها مع إسرائيل وحماس في الوقت نفسه، بل وتمويلها السخي للجانبين. ففي عام 1996، تم افتتاح مكتب تجاري لإسرائيل في الدوحة، كما تم التوقيع على اتفاقية لبيع الغاز القطري إلى إسرائيل، وإنشاء بورصة الغاز القطرية في تل أبيب. وفي 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2012، عبر الشيخ حمد إلى غزة من الجانب المصري، في أول زيارة رسمية لرئيس دولة أجنبية إلى القطاع. وخلال الزيارة تعهّد بضخ 400 مليون دولار لمشاريع البنية التحتية. وتجدر الإشارة إلى أن الوضع صار أكثر تعقيداً في وقت سابق، مع ضرب إسرائيل لحماس في أواخر 2008 – أوائل 2009 (عملية الرصاص المصبوب)، حيث دعا الشيخ حمد إلى عقد قمة عربية طارئة، للتنديد بـ"العدوان الوحشي الصارخ على الشعب الفلسطيني" (وقاطعتها مصر والسعودية وعدة دول عربية أخرى). وفي غضون ذلك، أعلنت قطر عن إنهاء التطبيع مع إسرائيل، وأبلغت رئيس البعثة الإسرائيلية بإغلاق مقر البعثة وترك الإمارة في غضون أسبوع واحد.

دعم تنظيم داعش

أما من ناحية دعم الجماعات "الجهادية" ، فعلى الرغم من حفاظ المسؤولين القطريين على أن يبقى دعمهم لتلك في الظل، إلا أنه من المعلوم أن شخصيات قطرية – يرتبط كثير منها ارتباطاً وثيقًا بالحكومة القطرية – لعبت دوراً رئيسياً في تمويل الجهاديين. ويرى كثيرون أن الحكومة سمحت، في الواقع، بحدوث ذلك. وفي مقالة بتاريخ 23 شباط/ فبراير 2015 (Qatar’s Ties to Militants Strain Alliance)، ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أن وزارة الخزانة الأمريكية قالت إن رجل أعمال قطريّاً ـ لم تذكر اسمه ـ قام بتسليم مليوني دولار إلى أحد قيادات تنظيم داعش. وإذا كانت داعش صناعة أمريكية وفق ما أدلى به مسؤولون أمريكيون كبار، فإن تمويلها واجب على وكلائها! أما من ناحية دعم الإخوان المسلمين، فإن قطر قدمت بالفعل مساعدة مالية ضخمة لمصر خلال فترة رئاسة مرسي القصيرة، وهي قرض بقيمة ملياري دولار لدعم النظام المصرفي المصري. وقد ردت مصر هذا القرض في أيلول/ سبتمبر 2013، وسارعت السعودية والإمارات إلى تقديم قرض بديل قيمته 8 مليار دولار.

أدى سعي قطر لتصبح صديقة للجميع، ووضع نفسها في مركز الأحداث للعب دور الوسيط في الشرق الأوسط، إلى اتهامات بأن صديق الجميع ليس صديقاً لأحد، بحسب مقولة أرسطو. ولكن هذه الصفة تنطبق على قطر كما على غيرها أيضاً.

فهل هذا الدعم ينطلق من رؤية استراتيجية، أم أنه دعم إيديولوجي؟ يبدو – وإن كان من الصعب الجزم بذلك – أن دعم قطر للإسلام السياسي هو دعم تكتيكي، وليس دعماً إيديولوجياً. إذ إنه من المحتمل أن دعمها هذا كان نتيجة لاعتقاد الدوحة (ومن ورائها واشنطن) أن الإسلاميين هم القوة الصاعدة في الشرق الأوسط. وقد يكون هذا الاعتقاد قد تأثر جزئياً بفوز حماس (أحد فصائل الإخوان المسلمين) في الانتخابات الفلسطينية عام 2006، وجزئياً بتأثير جماعة الإخوان المتزايد في مصر والأردن وشمال أفريقيا. ومعلوم أن قطر ليس لديها مفتي، كما أن مدارسها الدينية يحضرها أقل من1 في المئة من مجموع سكان قطر، ناهيك عن أن المواطنين القطريين الأصليين لا يشكلون من هذه النسبة الضئيلة سوى 10 في المئة فقط.

كانت بصمات قطر واضحة على كل شيء تقريباً خلال العقد الماضي. فخلال الربيع العربي، لعبت تغطية الجزيرة دوراً رئيسياً في نشر الانتفاضات الشعبية من بلد إلى آخر. وكانت القناة هي الأداة الرئيسية في زيادة نفوذ قطر، إذ لعبت – ولا تزال تلعب – دوراً مركزياً في السياسة الخارجية للدولة، منذ إطلاقها في عام 1996.

قراءة التاريخ ومحاولة الفهم

لفهم طبيعة السياسة القطرية، ولماذا قامت بعمل هذه الشبكة من العلاقات المتناقضة، لا بد من الرجوع إلى الوراء. كان غزو صدام حسين للكويت عام 1990 لحظة فارقة وحاسمة في تشكّل توجهات السياسة الخارجية لقطر. وهكذا، على سبيل المثال، كانت علاقة الدوحة مع الولايات المتحدة قبل الغزو العراقي فاترة. والجدير بالذكر أن واشنطن فتحت سفارتها في قطر عام 1973، لكنها قامت في عام 1988 بتجميد المفاوضات الثنائية والتعاون العسكري، حيث حظر الكونغرس بيع الأسلحة إلى قطر، لأنها اشترت صواريخ أميركية مضادة للطائرات من السوق السوداء.

كل هذا التناقض الظاهري هو، في حقيقة الأمر، ليس تناقضاً، بل سياسة القوة الناعمة. والعلاقات الحسنة هنا لا تفرِّق بين العدو والصديق. غير أن سياسة "صديق الجميع" قد تدخل في أزمة إذا ما وصلت الأطراف المتصارعة الى صدام علني وبدأت تدق طبول الحرب، ناهيك عن أن الراعي الأكبر لهذه السياسة قد يتخلى عن دور الدولة الصغيرة – بحسب مقتضى الحال – إرضاءً لأخرى كبيرة ليستخدمها كمخلب قط في الصراع. فهل تتخلى الولايات المتحدة عن دور قطر كقوة ناعمة لتستخدم مخالب إسرائيل بغاية تفتيت المنطقة؟

ثم أدت حرب الخليج في 1991 إلى ذوبان الجليد في العلاقات الأميركية القطرية، إذ انضمت قطر إلى قوات التحالف. وفي 23 حزيران/ يونيو 1992، أبرمت اتفاقية تعاون دفاعي، سمحت للجيش الأمريكي باستخدام المنشآت القطرية وإجراء مناورات عسكرية. وقد تم توسيع الاتفاقية باستمرار وتجديدها دورياً. وعملت قطر بجد، لإقناع واشنطن بتعزيز علاقاتهما الثنائية، حيث استثمر الشيخ حمد أكثر من مليار دولار أمريكي لبناء قاعدة العديد الجوية جنوب الدوحة.

مقالات ذات صلة

وبعد هجمات 11 سبتمبر 2001، قبلت واشنطن العرض القطري للمساعدة، حيث صارت قاعدة العديد بمثابة مركز العمليات في "عملية الحرية الدائمة" اعتباراً من عام 2001 فصاعداً. وفي عام 2003، أتت الاستراتيجية القطرية مزيداً من الثمار عندما تم نقل مركز أمريكا الجوي لعمليات القتال في الشرق الأوسط من المملكة العربية السعودية إلى قاعدة العديد التي صارت، إلى جانب كونها قاعدة جوية كبرى، المقر الإقليمي للقيادة المركزية الأمريكية.

الثورة الإيرانية تبلور لأمريكا دور قطر

إذا كان مصير الكويت هو المحرك الأول لسياسة قطر الخارجية، التي تمثلت في كسب ثقة الولايات المتحدة  لتمنحها دوراً في منظومتها السياسية، وإقامة علاقات مع كل القوى المتناحرة، الحليفة والعدوة على السواء، فإن أحد المستجدات التي طرأت على السياسة الخارجية الأمريكية، جراء الثورة الإيرانية، قد بلورت بقوة الدور الذي يمكن أن تلعبه قطر. فبعدها، اكتشفت أمريكا أنها لم تكن فاعلاً مؤثراً في الأحداث ومسارها، نظراً لأنها لم تكن على صلة بالخميني والفصيل الذي صعد إلى الحكم. وهكذا، كانت الثورة الإيرانية نقطة تحول في السياسة الخارجية الأمريكية، حتى لا تأخذها الأحداث على حين غرّة، وحتى تفرض سطوتها عليها.

وهكذا تلاقت استراتيجية قطر لإقامة صداقات مع الجميع مع التوجه الأمريكي. فهي كدولة صغيرة وغنية، وتتلاقى أهدافها مع القوة العظمى، تعلم أنها إذا كانت تطمح إلى السطوة والنفوذ، فعليها أن تضع نفسها في الوسط بين القوى المتصارعة، بل عليها في أحيان كثيرة أن تؤجج الصراعات، وأن تغري أحد الأطراف بالمساعدات والدعم حتى يتقرب إليها الطرف الآخر أيضاً سعياً إلى التفوق على عدوه. ولأن كل الأطراف ستتنافس على الحصول على دعمها، فستظهر أمام الجميع كدولة لها نفوذ وسطوة، وهي أكبر من أية سطوة كانت ستجنيها من الالتزام تجاه أي طرف من الأطراف.

ولعل ذلك هو ما يفسر كل هذا التناقض الظاهري، الذي هو في حقيقة الأمر ليس تناقضاً، بل سياسة القوة الناعمة. والعلاقات الحسنة هنا لا تفرِّق بين العدو والصديق، لأن المنطق هنا: اقترب من صديقك كثيراً ومن عدوك أكثر. غير أن سياسة "صديق الجميع" قد تدخل في أزمة، إذا ما وصلت الأطراف المتصارعة إلى صدام علني وبدأت تدق طبول الحرب، ناهيك عن أن الراعي الأكبر لهذه السياسة قد يتخلى عن دور الدولة الصغيرة – بحسب مقتضى الحال – إرضاءً لأخرى كبيرة، ليستخدمها كمخلب قط في الصراع. فهل تتخلى الولايات المتحدة عن دور قطر كقوة ناعمة، لتستخدم مخالب إسرائيل لتفتيت المنطقة؟

مقالات ذات صلة

لن تؤثر الغارة الإسرائيلية على قطر على نسيج العلاقات بين الولايات المتحدة وقطر، ولم تكن قطر في حاجة إلى عقد قمة عربية رداً على انتهاك إسرائيل لسيادتها. كما أن أزمة 2017 الدبلوماسية، التي قطعت السعودية بمقتضاها العلاقات الدبلوماسية مع قطر، ثم اتهمتها بدعم الإرهاب والتدخل في الشؤون الداخلية لدول الخليج، ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، فالسياسة القطرية ستكون محل خلاف طول الوقت، ليس مع إسرائيل فحسب، بل مع جيرانها. ففي شهر آذار/ مارس 2014 سحبت السعودية والإمارات والبحرين سفراءها من قطر، احتجاجاً على ما وصفته بتدخلها في شؤونهم الداخلية، ثم عادوا بعد ذلك بثمانية أشهر. والأرجح أن الأزمة قد انتهت حينذاك بعد ما حدث في تموز/ يوليو 2014، حيث أبرمت قطر صفقة مع الولايات المتحدة، لتشتري بموجبها مروحيات أباتشي القتالية، وصواريخ باتريوت المضادة للصواريخ بمبلغ 11 مليار دولار.

وختاماً، فإن دور قطر لن ينتهي، وستظل لاعباً مهماً في مجريات الأحداث، والذي كان في جزء منه دوراً إيجابياً فيما يتعلق بفضح الأنظمة العربية عبر منصة الجزيرة وقنواتها...

مقالات من قطر

دروس الأزمة الخليجية

"العصر الخليجي" يبدو عصر تفكك ونزاع بين دول الخليج نفسها، عوضاً عن قيادة السعودية لمنطقة الخليج وريادتها للعالمين العربي والاسلامي. لا الحرب على اليمن ولا الأزمة مع قطر دفعتا الى...