بينما تتردّى ليبيا في جمود سياسي لا تلوح في الأفق نهاية له، دفع قائد "الجيش الوطني" خليفة حفتر بترقيات شملت اثنين من أبنائه، هما صدام وخالد، في رتب عسكرية عليا، ما يُكرّس توريثاً لزعامته على خطى العقيد الراحل معمر القذافي.
استغلّ حفتر احتفالات عسكرية على هامش إطلاقه "رؤية العام 2030"، للإعلان عن ترقية نجله صدام إلى نائبٍ له، وخالد إلى رئيس للأركان العامّة، في خطوة بدت وكأنها تهدف إلى ترسيخ نفوذ عائلي محكم، في شرق البلاد حيث تَصدّر أبناؤه المشهد منذ سنوات.
لدى حفتر ستة أبناء هم: صدام، خالد، عقبة، المنتصر، بلقاسم، وأسماء، والأخيرة متوارية عن الأنظار شأنها في ذلك شأن المنتصر وعقبة. لكن خالد وصدام وبلقاسم يضطلعون بأدوار مختلفة، بين الترتيبات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وأخرى متّصلة بإعادة الإعمار.
دوافع التوريث
مسألة سعي حفتر إلى توريث أبنائه ليست وليدة اللحظة، لكنه بقراراته الأخيرة بدا أكثر تصميماً على توزيع الأدوار بين هؤلاء، وفي ذلك رسائل إلى الداخل والخارج على حد سواء. فمنذ أيار/ مايو من العام 2024، يقود صدام القوات البرية، لكن بروزه يعود إلى سنوات خلت، حيث أسّس "اللواء 106 مجحفل" في العام 2015، ثُمّ عُيّن قائداً للواء طارق ابن زياد، الذي تلاحقه اتهامات بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في شرق البلاد.
هكذا تَدرّج صدّام حفتر في سُلّم المناصب العسكرية في شرق ليبيا، فيما صار فعلياً الذراع اليُمنى لوالده خارج البلاد، حيث شكّل حلقة وصل بينه وقوى إقليمية ودولية، وشكّل علاقات قويّة مع النظام السوري السابق، وقوات الدعم السريع في السودان، وأيضاً مجموعة فاغنر شبه العسكرية الروسية.
في ليبيا، حكم العائلة لم ينته بسقوط القذافي
20-07-2022
لكنّ دوره لم يقتصر على ذلك، إذ تولى مهامّاً مدنية، كرئاسة لجنة الاستجابة للكوارث إثر إعصار دانييل المُدمّر، الذي شهدته مدينة درنة في العام 2023، وهو منصب أتاح لصدام أن يكون واجهة للتعامل مع قوى دولية ومنظمات غير حكومية ودولية، هبّت لنجدة المنكوبين بمساعدات، أشرف بنفسه على دخولها وتوزيعها.
أمّا خالد فقد سلك هو الآخر طريق صدّام نفسه، إذ دشّن مسيرته العسكرية، بقيادة لواء "حمزة ابن المطلب"، ثم رقّاه والده إلى رتبة "فريق"، وكانت له تحركات خارجية، على غرار افتتاح قنصلية لليبيا في بيلاروسيا، وكان مثل الظلّ الذي يرافق والده في الجولات الخارجية.
ودور خالد كان أوسع وأهمّ من حيث خطط والده، إذ أُوكلت إليه مُهمة بسط الأمن والاستقرار في المناطق التي يسيطر عليها حفتر (جنوب وشرق ليبيا)، من أجل إفساح المجال أمام الاستثمارات، بينما تولى بلقاسم إدارة ملفّ إعادة الإعمار.
تحرّك قائد "الجيش الليبي" الأخير لا يمكن قراءته بمعزل عن المخاوف التي تُبديها قوى خارجية، على غرار روسيا ومصر، من حدوث شغور في شرق ليبيا في ظلّ هشاشة الوضع الصحي لحفتر، ومحاولة تأمين انتقال سلس لسلطته إلى أبنائه بشكل مُهيكل.
يُحاول حفتر توزيع الأدوار هنا بشكل صارم للغاية، إذ يُعَدّ صدّام واجهة للقرار الأمني والدبلوماسي والاقتصادي، فيما يتولّى خالد السيطرة الميدانية على القوات، وإتاحة الفرصة أمام تطويرها من خلال نسج علاقات خارجية، بدت جلية أكثر من أيّ وقت مضى مع بيلاروسيا، حيث تجري بالفعل الآن وحدات من "الجيش" الليبي تدريبات هناك.
تدرّج صدّام حفتر في سُلّم المناصب العسكرية في شرق ليبيا، فيما صار فعلياً الذراع اليُمنى لوالده خارج البلاد، حيث شكّل حلقة وصل بينه وقوى إقليمية ودولية، وشكّل علاقات قويّة مع النظام السوري السابق، وقوات الدعم السريع في السودان، وأيضاً مجموعة فاغنر شبه العسكرية الروسية.
كان دور خالد أوسع وأهمّ، إذ أُوكلت إليه مُهمة بسط الأمن والاستقرار في المناطق التي يسيطر عليها حفتر (جنوب وشرق ليبيا)، من أجل إفساح المجال أمام الاستثمارات، بينما تولى بلقاسم إدارة ملفّ إعادة الإعمار.
داخلياً، يعي حفتر أن نفوذه يقوم على شبكة من العلاقات المعقّدة، وولاء قبلي يحتاج إلى تجديد القيادة من أجل تثبيته، وأيضاً يُرسِل إشارة من خلالها إلى قادة وضباط "الجيش"، مفادها أن القيادة ستظلّ بيده وعائلته التي تحكم بقبضة من حديد، لمنع حدوث أيّ انشقاق أو محاولة تمرّد.
ليبيا: آل حفتر بعد الطوفان
12-09-2024
كما يُروّج حفتر من خلال تعيينات أبنائه هذه بوصفها "ضمانة" للاستقرار والسلم في شرق البلاد، لاسيما في ظلّ حديث متنامٍ في الآونة الأخيرة عن "صراع" حول خلافته. لذلك فإن الرجل قد حسم الأمر، بتوزيع المناصب والأدوار، ما يجعل صدّام هو الأوفر حظاً لخلافته، لكن من دون تهميش تامّ لبقية أشقائه.
استنساخ نموذج القذافي
ما يقوم به حفتر الآن من توزيع للأدوار بين أبنائه، يُذكّر الليبيين بنموذج العقيد الراحل معمر القذافي، الذي سبق أن منح أولاده صلاحيات واسعة وامتيازات في ما بدا وكأنّه تمهيد لتمكينهم من السلطة، خاصة سيف الإسلام. وكان لدى القذافي ثمانية أبناء هم: محمد (من الزوجة الأولى فتحية خالد)، وسبعة من زوجته الثانية صفية فركاش، يعد سيف الإسلام أكبرهم سناً.
ولعب سيف الإسلام، الذي لا يزال يطمح إلى رئاسة ليبيا، أدواراً متقدمة، من بينها قيادة مؤسسة القذافي الخيرية، كما رعى مصالحات بين والده وأنظمة عربية، قبل أن يتمّ تكليفه بقيادة مشروع "ليبيا الغد"، وهو مشروع حاول أن يقدِّم فيه صورة مختلفة للنظام الليبي عما كرّسه والده، وأن يكون هذا النظام متلائما مع المعايير الغربية.
لكن هذه المساعي لم تحقق المأمول، خاصة أن سيف الإسلام كان يقود عملية إنهاك المعارضة السياسية في ليبيا وتحييدها، وخاصة التيار الإسلامي منها. وخلال انتفاضة السابع عشر من شباط/ فبراير ، كان أول من خرج من إخوته متوعِّداً المتظاهرين ومتهماً إياهم بـ "تعاطي حبوب الهلوسة"، وهي التهمة التي كرّرها والده بعده.
يعي حفتر أن نفوذه يقوم على شبكة من العلاقات المعقّدة، وولاء قبلي يحتاج إلى تجديد القيادة من أجل تثبيته، وأيضاً يُرسِل إشارة من خلالها إلى قادة وضباط "الجيش"، مفادها أن القيادة ستظلّ بيده وعائلته التي تحكم بقبضة من حديد، لمنع حدوث أيّ انشقاق أو محاولة تمرّد.
العقبة الأكثر إزعاجاً لحفتر تكمن في موقف خصومه، إذ سارع المجلس الأعلى للدولة الاستشاري إلى مخاطبة البعثة الأممية، واتهم حفتر والبرلمان بخرق الاتفاق السياسي من خلال هذه الترقيات، وأيضاً من خلال تعديل قانون الرتب العسكرية، فيما طالب عضو المجلس الرئاسي، عبد الله اللافي، باجتماع للردّ على ذلك.
أما الساعدي، فمنحه والده هو الآخر أدواراً عسكرية متقدمة، وتمت ترقيته إلى رتبة "عقيد" في الجيش الليبي، وقد قاد كتيبة عسكرية اتهمت بقتل المتظاهرين خلال الانتفاضة في مدينة بنغازي، شرق البلاد.
إلى جانب هؤلاء، تولى خميس القذافي مناصب عسكرية مرموقة في الجيش الليبي، إذ تولى قيادة الوحدة 32 وهي الوحدة الأكثر تدريباً وتسلحاً، لذلك كانت عقبة رئيسية أمام المعارضة الليبية المسلحة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) في "انتفاضة فبراير".
وكان يُعرَف عنه أن له علاقات جيدة مع سيف الإسلام، بخلاف أخويه المعتصم والساعدي، لذلك شكل اليد اليمنى لوالده، إذ كلفه بمهام حساسة للغاية، من بينها سحق الانتفاضة التي اندلعت ضد نظام حكم ليبيا الذي استمر لمدة 43 عاماً.
ويسير حفتر الآن على خطى القذافي، من خلال منح أبنائه سطوة حقيقية على مناصب عسكرية وسياسية ومدنية بارزة، لإتاحة المجال أمام تمكين عائلي يحكم شرق ليبيا منذ العام 2014.
عقبات أمام حفتر
طريق حفتر إلى توريث الحكم لأبنائه لن تكون مفروشة بالورد، فقد اصطدم منذ البداية بعقبات قانونية حملت البرلمان المنعقد في طبرق، والمتحالف معه، للانعقاد من أجل إزالتها من خلال تعديل قانون الرتب العسكرية.
لكنّ العقبة الأكثر إزعاجاً لحفتر تكمن في موقف خصومه، إذ سارع المجلس الأعلى للدولة الاستشاري إلى مخاطبة البعثة الأممية، واتهم حفتر والبرلمان بخرق الاتفاق السياسي من خلال هذه الترقيات، وأيضاً من خلال تعديل قانون الرتب العسكرية، فيما طالب عضو المجلس الرئاسي، عبد الله اللافي، باجتماع للردّ على ذلك.
علاوة على ذلك، فإن خطوة حفتر قد تُثير بعض القبائل المؤيدة لسيف الإسلام القذافي في جنوب البلاد وشرقها، التي دخلت أصلاً في خلافات مع قواته في وقت سابق على غرار قبيلة القذاذفة. وسبق أن دعت قبيلة القذاذفة في العام 2020 أبناءها إلى الانسحاب من قوات حفتر.
والأهمّ من ذلك كلّه، فإن مُضيّ حفتر قدماً نحو توريث صدام قد يثير حفيظة إخوته الأكبر سناً، إذ لا توجد ضمانات حقيقية لمنع الصراع بين هؤلاء على الخلافة في شرق ليبيا.
وعلى الرغم من أن هناك تحديات وجودية، تفرض على حفتر ضرورة الابتعاد عن المشهد وتمكين ابنه صدام من خلافته - من بين تلك التحديات تدهور صحته وامتلاكه جنسية أميركية تضعه خارج السباق الرئاسي، إذ يصرّ خصومه على وضع شرط إقصاء كل من يملك جنسية أجنبية من الانتخابات الرئاسية – إلا أنّ كثيراً من المعطيات، قد تُقوّض بالفعل مسعاه إلى تنصيب ابنه، خاصةً في خضمّ منافسة من بقية أشقائه، وخلافات مع قبائل تملك نفوذاً واسعاً.