بانكسي يضع مرآة أمام أوروبا

قال الفنان نفسه ذات مرة: "إنّ أكبر الجرائم في العالَم لا يرتكبها الأشخاص الذين يخرقون القانون، بل يرتكبها أولئك الذين يتبعون القوانين. أولئك الذين يتبعون الأوامر هم مَن يلقون الصواريخ ويرتكبون المجازر في القرى".
2025-09-11

شارك
جدارية لفنان الغرافيتي "بانكسي" على جدار محاكم العدل العليا في لندن صباح الاثنين 8 أيلول / سبتمبر 2025. الصورة نشرها "بانكسي" على صفحته على إنستغرام.
إعداد وتحرير: صباح جلّول

"على الفنّ أن يواسي المضطرِبين ويُزعجَ المرتاحين"
*رسّام الغرافيتي "بانكسي"

استيقظَتْ العاصمة البريطانية لندن صباح الاثنين في الثامن من أيلول / سبتمبر الحالي على مفاجأة صغيرة. عملٌ "تخريبي" من توقيع فنان الغرافيتي الشهير "بانكسي"، مرسوم على جدار مبنى محاكم العدل الملَكية وسط المدينة. يُصوِّر رسم الغرافيتي قاضياً بلباس القضاة التقليدي، بشعره الأبيض المستعار، مستخدِماً مطرقة القُضاة التي تُعلَن بها أحكام العدالة عادةً، ولكن هذه المرّة كأداة اعتداء، يضرب بها متظاهراً مطروحاً أرضاً، أعزلَ إلّا مِن يافطة صغيرة، لُوّثت بدمه بفعل الضرب.

لاحَظ المارة الرسم، وازدحم الشارع بالمواطنين الراغِبين بتصويره وتوثيقه. وكذلك لاحظه المحامون والقضاة عند وصولهم إلى مقرّ عملهم المعتاد. تأكّد سريعاً خبر كون الرسم لـِ"بانكسي" (الفنان مجهول الهوية) بعد تكهنات، إذ نشر الفنان صورة عن العمل على صفحته الرسمية على منصة انستغرام.

توقيت هذه الجدارية يكشف السياق الذي يتطرق إليه الفنان، فهي تأتي بعد يومين فقط من اعتقال الشرطة البريطانية 890 شخصاً أثناء مظاهرات في لندن تحتجّ على حظر مجموعة "بالستاين أكشن" (أو "العمل من أجل فلسطين")، والتي باتت مصنَّفة "إرهابية" في المملكة المتحدة منذ تموز / يوليو 2025. في المملكة المتحدة، أصبحت المشاركة في أنشطة هذه المجموعة – أو حتى دعمها - جريمة جنائية يعاقَب عليها بالسجن لمدة تصل إلى 14 عاماً.

هؤلاء الذين اعتُقِلوا بتلك الأعداد الكبيرة، كلّ "جرمهم" أنهم رفعوا شعارات "أنا أعارض الإبادة. أنا أدعم بالستاين أكشن". في جدارية "بانكسي"، يستدعي هذا الاعتراض، في نظر هذا النظام، تدميم المعترِض. لقد وصفهم الفنان بما هو قائمٌ فعلاً، فلم يعجبهم الأمر.

مقالات ذات صلة

تلَت لحظة اكتشاف الغرافيتي سلسلة من الأفعال المتسرعة القمعية والتافهة. بسرعة هائلة، قامت المحكمة والشرطة بتغطية العمل الفني بألواح وحواجز معدنية كبيرة، بل فرزت رجلَي أمن للوقوف أمام العوائق التي وُضعت أمام الرسم، للتأكد من أنّ أحداً لا يقوم بتصويره أو إزالة السواتر. أكد متحدث باسم المحكمة بأن العمل سيُمحى، متحججاً بكون "المبنى مدرَجاً في قائمة التراث"، كما أعلنت الشرطة اللندنية عن تلقيها البلاغ الجنائي وعملها على التحقيقات المتصلة.

عنصرا أمن يقفان لحماية الجدران التي تخفي غرافيتي "بانكسي".

بالفعل، لم يصمد الغرافيتي على ذلك الجدار طويلاً، فكُلف أحدهم بمحوه عن جدار المحكمة. وقف شخص مع مواد التنظيف في المساحة الضئيلة بين الجدران المؤقتة التي نصبتها المحكمة مع عنصري الأمن، وشرع يفرك الحائط ويشطفه، فنجح بإخفاء ملامح الرسم، ليبقى ظلّه حاضراً.

الغرافيتي كما بدا، شبَحيّاً، يوم الأربعاء في 10 أيلول / سبتمبر، بعد محاولة إزالته بمواد لمحو الطلاء.

"أنتم تنزعون غرافيتي بانكسي كما تنزعون حق الناس بالتظاهر؟"، علّق أحد المواطنين.

"الفنّ الحقيقي ليس في الجدارية نفسها، بل في سرعة إخفائها"، قال آخر في مقطع فيديو على انستغرام.

لا يمكن رؤية ما يحدث في المملكة المتحدة في السياق العام إلا بصفته متسقِاً مع القمع المتزايد في بلدان أوروبا (المتواطئة تماماً مع الإبادة الإسرائيلية في غزة). فلا يكاد يمر أسبوع لا نرى فيه شابات وشباباً تُسحَق رؤوسهم بالاسفلت أو تُكسَر أنوفهم من الشرطة في برلين بألمانيا، أو يُعتدى عليهم لمجرد حملهم لعلم فلسطين في باريس، أو تتمّ جرجرتهم إلى المحاكم بتهم متنوعة لمجرد تلفظهم بعبارة "من النهر إلى البحر، فلسطين حرة"، على سبيل المثال، لا الحصر.

في معظم هذه الحالات، تكون أسباب اللجوء إلى قمع الأصوات المناصِرة لفلسطين في أوروبا مثيرة للضحك: رهاب من الرسومات والعبارات والأعلام والملصَقات.. والغرافيتي! فينتهي الأمر إلى مشهد هزلي تماماً كصورة الشرطييّن المكلّفَين بحماية جدار أمام جدارٍ عليه رسم غرافيتي... هذه أوروبا اليوم.

***

في كتابه "بانكسي: جدار ورسم" (Banksy: Wall and Piece)، يقول الفنان: "الغرافيتي هو واحد من الأدوات القليلة التي يمكن لكَ استخدامها عندما لا تملك شيئاً تقريباً". يتعامل الفنان مع الجدار نفسه، قبل الرسم، كسلاح. فالجدار صَلب، عنيد، شاسع، وهو أقرب أداة يمكن لأيٍ كان استخدامها "لتثبيت العدوّ".

مقالات ذات صلة

أعمال بانكسي، الذي صار أحد أشهر فناني عصرنا على الإطلاق، دائماً سياسية. تُسائل السلطات وتهزأ بالمؤسسات القمعية والكولونيالية والرأسمالية. وهو سبق أن ترك أعمالاً على جدار الفصل العنصري الذي أقامه الاحتلال الإسرائيلي على طول حدود الضفة الغربية، وكان قد وضع عام 2019 مجسّماً يمثّل ميلاد السيد المسيح، أسماه "ندبة بيت لحم"، كتعديل لـ"نجمة بيت لحم"، بداخل أحد فنادق المدينة في فلسطين. يُظهِر المجسم مشهد المسيح في المزود محاطاً بمريم العذراء ويوسف، في خلفيته جدار الفصل العنصري وقد ثُقِب بما يشبه الانفجار، على شكل نجمة. إلى جانب هذا، فقد درج الفنان على التبرع بمبالغ من بيع بعض أعماله في المزادات، - منها أكثر من مليون دولار لقاء واحد فقط من أعماله - تبرع بها عام 2020 لمستشفى فلسطيني في الضفة الغربية.

"ندبة بيت لحم" .
أحد أشهر أعمال "بانكسي" على جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية.

أنجزَ عمل "بانكسي" الفني الأحدث، "محاكم العدل الملَكية"، ما خرج لإنجازه. فقد نجح في "إزعاج المرتاحين" الذين يسعون لتطبيع القمع والاعتقال وإسكات الأصوات المندِّدة بالظلم، والباقي على من يتلقف تلك الرسالة التحريضية عن جدران العدل... فكما قال الفنان نفسه ذات مرة: "إنّ أكبر الجرائم في العالَم لا يرتكبها الأشخاص الذين يخرقون القانون، بل يرتكبها أولئك الذين يتبعون القوانين. أولئك الذين يتبعون الأوامر هم مَن يلقون الصواريخ ويرتكبون المجازر في القرى".

مقالات من العالم