إعداد وتحرير: صباح جلّول
"كيف يُعقل أن يُدلي، جون دونيسون، مراسل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بالملاحظة السافلة التالية في إعلانه عن اغتيال إسرائيل للصحافي مراسل قناة الجزيرة أنس الشريف نهاية الأسبوع: "هناك سؤال التناسب، فهل من المبرر قتل خمسة صحافيين بينما كان المستهدَف واحداً فقط؟". يثير الموضوع الصحافي البريطاني جوناثان كوك في مستَهلّ مقاله المعنون "بي بي سي ساهمت في قتل أنس الشريف. تغطيتها ستقتل المزيد من الصحافيين".
بالفعل، مذهلة طريقة تجاوز قتل الصحافيين في غزّة، وتسليم هيئة الإذاعة البريطانية بأن اغتيال أنس الشريف كان "مبرَراً"، بلا التوقف للحظة عند فداحة الجريمة وانتهاك كل القوانين الدولية، فقط لأن الاحتلال الإسرائيلي زعم أن الشريف كان عضواً في حركة حماس. ومذهل سؤال الصحافي جون دونيسون ببلاهة و"براءة" عمّا إذا كان ضرورياً قتل كلّ من كانوا معه لتحقيق الغاية: قتل صحافي واحد (!)...
لقد وصلت كبار المؤسسات الصحافية الغربية دركاً أدنى يصعب معه النظر إليها كأي شيء سوى ببغاوات بروباغندا صهيونية، وممارسة لا-صحافية معدومة الأخلاق والمعايير المهنية والإنسانية، مجرِمة بكل ما للكلمة من معنى، ومهزَلة تهريجية في أحسن الأحوال، تعتمد في تغطياتها الصحافية على القيل والقال (الإسرائيلي)، وتنتقي ما تريد في سبيل تكريس نهجها المبني على الإيمان بدونية حياة الإنسان في غزّة.
مدرسة إعلاميّي غزّة: وترٌ وحيدٌ.. يُقاوِم
26-10-2023
قَتل جيش الاحتلال الإسرائيلي الإبادي الصحافي في قناة الجزيرة أنس الشريف، وقَتل الصحافيين محمد قريقع وإبراهيم ظاهر ومحمد نوفل ومؤمن عليوة ومحمد الخالدي، مساء الأحد الماضي في 10 آب/أغسطس 2025. هذا مع العلم أن لجنة حماية الصحافيين (CPJ) الدولية كانت أصدرت في أواخر تموز/يوليو 2025 بياناً أعربت فيه عن قلقها إزاء "التهديدات المباشرة والتحريض العلني" ضد أنس الشريف، بعد أن ذكره المتحدث الرسمي الناطق بالعربية باسم جيش الاحتلال بالاسم. فهؤلاء الصحافيون كانوا قد أعلمونا وأعلموا العالَم مراراً وتكراراً بأنهم مستهدَفون، قبلَ أن تتم تصفيتهم أمام عيوننا.
إن كلّ واحد من هؤلاء الشباب - بإخلاصه وصدقه وألمه وجوعه وتفانيه في عمله لإعلاء صوت شعبه - كل واحدٍ منهم بثيابه المغبرة وشبشبه ودرعه الصحافي الممزوع من كثرة الاستعمال – يساوي كلّ إعلام الغرب ومؤسساته المصروف عليها مئات ملايين الدولارات. هذا موقفٌ صحافيّ غير حيادي في وجه تمترس إعلام بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة (وغيرها من الدول الاستعمارية المتخلّفة) خلف عدوّ يحلل قتلنا... بأفواههم.
تلك رويترز ،الأخرى كتبت بلا خجل: "إسرائيل قتلت صحافياً في قناة الجزيرة تقول أنه قائد في حماس"، أي تستدخِل التبرير فوراً، بلا إضاعةٍ للوقت، في تلك الجملة القصيرة التي تعلن فيها خبر مقتل أنس الشريف، وتكرِّر الزعم الإسرائيلي بأن الشريف "كان قائد خلية في حماس". والدليل؟ "معلوماتهم الاستخباراتية ووثائق وجدوها في غزة". هذا أيضاً صار عادياً جداً في الإعلام الغربي المنحاز لإسرائيل، والممنوع من دخول غزة بنفسه (إلا على متن دبابة إسرائيلية): أن يبرِّر قتل الصحافي الغزّي وأن يكون مصدره الوحيد للـ"معلومات" هو الاحتلال المتهم بهذه الجرائم. وعادي.. يوم آخر في المكاتب النظيفة "المحترِفة" و"المحترَمة"، للبي بي سي ورويترز وغيرهما.
وعلى الرغم من تغيير رويترز في وقت لاحق لبعض الكلمات في الخبر الذي نشرته، إلا أن المتابعين على وسائل التواصل ومنصة "إكس" كشفوا ذلك، منتقدين صياغاتها بشدة. ومن المؤسسات الإعلامية البريطانية إلى تلك الألمانية العريقة: رددت صحيفة "بيلد" الألمانية مزاعم الجيش الإسرائيلي واختارت عنواناً لخبرها من الصعب منافستها عليه: "إرهابيٌ متنكر بزي صحافي قُتل في غزّة"، متخففة حتى من عبارة "حسب مزاعم الجيش الإسرائيلي"، أو ما يشبهها من العبارات الشكلية، مما تستعمله بعض وسائل الإعلام كنوعٍ من رفع العتب. صحيفة "بيلد" هذه هي الأكثر انتشاراً في ألمانيا، صانِعة حقيقيّة للرأي العام، بحيث يقرأ العدد الواحد منها نحو 7.9 مليون إنسان (حسب إحصاءات موقع "ستاتيستا" للمعلومات، لعام 2025).
تسويق الوهم.. تواطؤ الصحافة في الحروب
26-03-2022
وهنا إحصاء آخر إلى من يهمه الأمر من مجرمي صحافة الاستعمار: لقد قتل الاحتلال الإسرائيلي 238 صحافياً فلسطينياً في غزة منذ بداية حرب الإبادة على القطاع في تشرين الأول/أكتوبر 2023 حتى الساعة. لم نسمع صيحات الاستهجان، ولا خاف هؤلاء على أنفسهم كصحافيين، لأنّ الحقيقة هي أنهم بممارستهم يفهمون ويتبنّون تماماً نظاماً عنصرياً يعطيهم أحقية بالحياة، تُسلب من أقرانهم في غزة.

كان أربعة من الصحافيين الشهداء الستة في المجزرة-الحدث يعملون لدى قناة الجزيرة، وقد علّق رائد فقيه، مدير التخطيط والمكاتب الخارجية في قناة الجزيرة، قائلاً "لو أن إسرائيل حُمّلت مسؤولية على اغتيالها لشيرين أبو عاقلة، لما تجرأت على قتل أكثر من مئتي صحافي في غزة مذّاك". ومذّاك، لا حساب.


يطرح جوناثان كوك سؤالاً آخر حول محاولات الاحتلال منح شرعية لاستهداف الصحافيين عبر اتهامهم بالانتماء إلى حماس"، فيذهب للقول أنه، وإن صحّ فرضاً أن الصحافي عمل في قسمٍ صحافي تابع للحكومة في غزة في وقت من الأوقات، "وماذا في ذلك، بحقّ الجحيم؟!"، حماس كانت تُدير الخدمات العامة في القطاع، من مدارس ومستشفيات وغيرها، وتوظف الآلاف. لا ينبغي لأي كان أن يقع في فخّ التبرير لهؤلاء المجرمين قتلة الصحافيين والأبرياء.
"هل تروننا حقاً؟": محاولات لإطفاء العيون
03-04-2025
مسؤوليت(نا)!
10-04-2025
وهذا الطرح هو بالضبط ما يذهب إليه المناضل محمد الكرد، الذي يقول في مقاله "مذنبٌ بالانتماء" إنّ صورة المدني كشخصية "محايدة" و"غير حزبية" ساهمت في مفاقمة نزع الطابع السياسي عن القضية الفلسطينية: "اقترنت جريمة قتل الصحافي الفلسطيني البطل أنس الشريف على يد إسرائيل باتهامات بانتمائه لحركة حماس. ثمة ميل لدى العديد من حلفائنا إلى إثبات براءته بإثبات "عدم انتمائه"."، يقول الكرد، مشاركاً نصاً سابقاً له مرتبطاً بقتل الصحافيين، حيث يحاجج بأنه "بعد أشهر من الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، والتي يقال عنها "منطقة الصراع الأكثر دموية للصحافيين في التاريخ الحديث"، اعتبرت قوات الاحتلال الإسرائيلي علناً الصحافيين العاملين لدى المؤسسات الإعلامية المرتبطة بحماس، أو التي تديرها، "أهدافاً عسكرية مشروعة". وذهب متحدث كبير باسم قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى حد إخبار الصحافيين بأنه "لا يوجد فرق بين العمل في قناة الأقصى والانتماء إلى الجناح المسلح لحماس". يُذكّرنا هذا التصريح بتعليق آخر لمتحدث عسكري آخر، قال فيه إن الراحلة شيرين أبو عاقلة كانت "مسلحة بكاميرتها". كما يُذكِّرنا أيضاً بعنوان رئيسي في موقع Jewish Insider يقول: "ثلث الصحافيين الذين قُتلوا في غزة كانوا تابعين لجماعات إرهابية".
يأخذنا طرح محمد الكرد إلى إعادة التفكير في تموضعنا "الدفاعي" إزاء جرائم قتل الصحافيين في غزة. ليس المتهم هو أنس الشريف، البطل الشجاع، الأب الحنون، الرفيق الصادق، والصحافي اللامع، ولا محمد قريقع، الزوج المحبّ، الهادئ في الشدائد، المتمكّن من اللغة، المؤدي لأمانته الأخلاقية والمهنية، ولا المئات غيرهم من شبان وشابات صحافيين كان من الممكن لهم أن يلوذوا بحياتهم أو يحاولوا على الأقل، بعيداً عن الميدان وشقاءاته وخطره. ليس هؤلاء هم المتهمون الذين يتوجب علينا أن ننبري للدفاع عن "براءتهم" في كل مرة، بل المتهم هي صحافة الاستعمار في الغرب الذي ما يزال "يتقدّم" بواسطة إباداته المتنقلة التي لا تنتهي.
شهداءنا الصحافيون هُم من يحقّ لهم توجيه أصابع الاتهام: نحن نتّهمكم أنتم.