قراءة في خريطة التفاوتات الصامتة لنتائج البكالوريا التونسية

تواصل السياسات العمومية العمل بمنطق "الحياد"، أي تطبيق البرامج نفسها على الجميع، متجاهلة أن تكافؤ الفرص لا يمكن أن يتحقق من دون معالجة الفجوة في الشروط الأصلية. هذه الدينامية تُولِّد مفارقة أخيرة أكثر إيلاماً: وهي أن الهامش، مع الوقت، يبدأ باستبطان صمته. حين تغيب الدولة الفاعلة، وتغيب اللغة التي تشرح الظلم، يُعيد المهمَّشون فهم أنفسهم خارج أي مشروع مشترك. المدرسة لا تعني لهم مستقبلاً، لأنهم لم يعودوا يؤمنون بوجود "دولة ترعى الجميع". وهكذا، لا تُنتِج السياسات العمومية الفقر فقط، بل تُنتِج أيضاً مشهداً رمزياً، يَفقد فيه الفقراء الحق في التخيّل والاحتجاج.
2025-07-17

فؤاد غربالي

باحث في علم الاجتماع، تونس


شارك
حمزة بونوة - المغرب

ظلّ النظام التعليمي التونسي، عقوداً، يُقدَّم كأحد أعمدة مشروع دولة الاستقلال: تعليم عمومي، مجاني، وموحد، يُفترض فيه أن يضمن الحد الأدنى من العدالة التربوية، ويشكّل أداة للترقي الاجتماعي الجماعي. غير أن هذا النموذج، الذي تأسّس على وعود المساواة والانصهار الوطني، بدأ يتهاوى تدريجياً، بفعل سلسلة من التحوّلات البنيوية، التي أضعفت قدرة المدرسة على لعب دورها كمصعد اجتماعي. وفيما تستمر المؤسسة التعليمية في تكرار خطابها الرسمي حول تكافؤ الفرص، تُبيّن المؤشرات الواقعية أن المدرسة لم تعد تنتج فرصاً متكافئة، بل صارت تعيد إنتاج التفاوتات القائمة، وتضفي عليها شرعية جديدة، تحت غطاء "الاستحقاق" الفردي.

امتحان البكالوريا، بوصفه الامتحان الوطني الموحّد الأبرز في تونس، يكشف بوضوح عن هذا التصدّع. فمن المفترض أن يوفّر هذا الامتحان شروط التقييم نفسها، لجميع التلاميذ على امتداد الجمهورية، لكن نتائج السنوات الأخيرة تُظهِر تفاوتاً مجالياً صارخاً ومتكرراً: نسب نجاح مرتفعة في بعض الولايات الساحلية والمعتمديات الحضرية، مقابل نسب متدنية في المناطق الداخلية والجهات المهمشة. هذا التفاوت لم يعد استثناءً إحصائياً، بل صار قاعدة منتظمة، ما يشير إلى أن النظام لم يعد يُوحِّد الشروط الفعلية للنجاح، بل فقط شكلها الرسمي.

الإشكال لا يكمن في الفارق بحد ذاته، بل في طبيعته المنتظمة والمركبة: البنية التحتية المتدهورة، النقص المزمن في الإطار التربوي، تراجع جودة التكوين، ضعف التغطية الاجتماعية، محدودية أفق التلاميذ… كلها عوامل تتقاطع لتصنع فارقاً موضوعياً في الحظوظ، فارقاً لا يعكس بالضرورة كفاءة فردية، بل خريطة التفاوتات العميقة في البلاد. بهذا المعنى، تحوّلت المدرسة إلى حلبة اختبار يُطلب فيها من الجميع أن "ينجح" باسم المساواة، لكن بشروط غير متكافئة منذ البداية. ما يفاقم الأزمة، أن هذا الواقع لا يلقى اعترافاً حقيقياً في النقاش العام، أو السياسات التربوية، حيث يتم التغاضي عن الفجوة المجالية بوصفها مسألة تقنية أو ظرْفية، أو يُلقي باللوم على التلاميذ والأسر، تحت تبريرات أخلاقية أو ثقافية. في المقابل، تغيب تماماً الرؤية النقدية، التي تربط الأداء المدرسي بالأوضاع المجالية والسياسية والاقتصادية، وتعتبر أن المدرسة لم تعد تضمن مشروعاً وطنياً جماعياً، بل صارت تنتج مصائر فردية متباينة، وفق الموقع الجغرافي والطبقي. تتّضح هنا مفارقة جوهرية: نظام تعليمي يرفع شعار الجمهورية، لكنه يُمارِس، على الأرض، منطقاً تمييزياً صامتاً. امتحان وطني واحد، لكن بشروطٍ غير متساوية لإنتاج النجاح.

حين تصرخ الجغرافيا وتصمت الدولة

تشير نتائج البكالوريا التونسية خلال السنوات الأخيرة إلى نمط تكراري يكاد يصير ثابتاً: تُصدَّر جهات الساحل وعلى رأسها صفاقس، وتذيّل مناطق الداخل كالقصرين وقفصة والكاف وجندوبة. في الظاهر، تُقرأ هذه الفوارق كأرقام جافة أو تفاوتات ظرفية، لكن الأمر لا يتعلّق بفروقات عرَضية في الأداء، بل هي تُبرز هشاشة المشروع الوطني على مستوى صيغته التعليمية، وبداية تآكل البرنامج المؤسسي الذي بني عليه هذا المشروع.

أضعفت سلسلة من التحوّلات البنيوية، قدرة المدرسة على لعب دورها كمصعد اجتماعي. وفيما تستمر المؤسسة التعليمية في تكرار خطابها الرسمي حول تكافؤ الفرص، تُبيِّن المؤشرات الواقعية أن المدرسة لم تعد تنتج فرصاً متكافئة، بل صارت تعيد إنتاج التفاوتات القائمة، وتضفي عليها شرعية جديدة، تحت غطاء "الاستحقاق" الفردي.

المفارقة الكبرى تكمن في المقارنة بين صفاقس وقفصة، وهما مدينتان غنيّتان من حيث الموارد، لكنهما تحتلان طرفي نقيض في ترتيب النتائج. صفاقس، الولاية ذات القاعدة الاقتصادية الصلبة، والبنية العائلية المحافِظة المستثمِرة في التعليم، تتصدر المشهد. أما قفصة، عاصمة الثروة الفوسفاتية، فتتراجع إلى ما قبل المراتب الأخيرة، رغم كونها "مدينة منجمية غنية". الأكثر دلالة أن القصرين، واحدة من أفقر ولايات البلاد من حيث الخدمات العامة والتجهيزات، تتذيّل الترتيب بشكل شبه دائم، من دون أن يُحدث ذلك صدمة سياسية أو تربوية، تُفضي إلى مراجعة عميقة للمنظومة. لفهم هذه الهوة، لا يكفي تحليل الإمكانيات التعليمية التقنية أو عدد المعلمين. بل لا بد من العودة إلى ترسّبات تاريخية تشكّلت منذ الاستقلال، بل وقبل ذلك، حين بُنيت الدولة المركزية، على أساس تفاوتي في توزيع الثروة والخدمات، بُنيت فيه المدرسة نفسها كجزء من هندسة السيطرة المجالية.

في صفاقس، تداخل النسيج الاقتصادي مع تقاليد الاستقرار الاجتماعي والنجاح الفردي، لتُصبح المدرسة امتداداً طبيعياً لمشروع عائلي وثقافي واستثماري طويل المدى. المؤسسات هناك، تعمل ضمن نسيج اجتماعي يشجّع التلميذ، ويضغط عليه في الآن نفسه، ليحقّق النجاح كجزء من هوية جماعية. أما في قفصة والقصرين، فالمدرسة تعمل في سياق مُرهَق. سياق تتقاطع فيه هشاشة البنية التحتية، واستنزاف الثروات، وتراجع أفق التشغيل، وتدهور صورة التعليم في الوعي الجمعي. التلميذ في قفصة أو القصرين لا يواجه فقط امتحاناً موحداً، بل يواجه انعدام أفق، إذ يعلم مسبقاً أن حتى النجاح لا يُخرِجه من منطق التهميش. المدرسة هناك لم تعد طريقاً إلى "الصعود"، بل مساحة مؤقتة، للهروب من واقع اقتصادي مغلق. وهكذا تتحوّل المدرسة إلى "فضاء للانتظار"، لا إلى مشروع جماعي.

من ناحية أخرى، في المناطق الداخلية المهمّشة كالقصرين وقفصة، لا يمكن فهم موقع المدرسة ومعناها الاجتماعي من دون التوقف عند بنية اقتصادية موازية ترسّخت بمرور الزمن، حتى صارت في كثير من الأحيان بديلاً واقعياً للتعليم، بل أكثر جاذبية منه من حيث "الجدوى". في القصرين تحديداً، حيث تآكلت مؤسسات التشغيل النظامي، يُشكّل التهريب، وخاصة عبر الحدود الجزائرية، فضاءً موازياً لإنتاج الدخل والمكانة، و"مسار حياة" تتخلّى فيه الدولة عن دورها التنموي، وتصير المدرسة، نتيجة لذلك، مؤسسة رمزية أكثر منها قناة فعلية للترقي.

امتحان البكالوريا، بوصفه الامتحان الوطني الموحَّد الأبرز في تونس، يكشف بوضوح عن هذا التصدّع. فمن المفترض أن يوفّر هذا الامتحان شروط التقييم نفسها لجميع التلاميذ على امتداد الجمهورية، لكن نتائج السنوات الأخيرة تُظهِر تفاوتاً مجالياً صارخاً ومتكرراً: نسب نجاح مرتفعة في بعض الولايات الساحلية والمعتمديات الحضرية، مقابل نسب متدنية في المناطق الداخلية والجهات المهمَّشة.

المفارقة الكبرى تكمن في المقارنة بين صفاقس وقفصة، وهما مدينتان غنيّتان من حيث الموارد، لكنهما تحتلان طرفي نقيض في ترتيب النتائج. صفاقس، الولاية ذات القاعدة الاقتصادية الصلبة، والبنية العائلية المحافِظة المستثمِرة في التعليم، تتصدر المشهد. أما قفصة، عاصمة الثروة الفوسفاتية، فتتراجع إلى ما قبل المراتب الأخيرة، رغم كونها "مدينة منجمية غنية". الأكثر دلالة أن القصرين، واحدة من أفقر ولايات البلاد من حيث الخدمات العامة والتجهيزات، تتذيّل الترتيب بشكل شبه دائم، من دون أن يُحْدِث ذلك صدمة سياسية أو تربوية، تُفضي إلى مراجعة عميقة للمنظومة. 

ما يعيشه التلميذ في هذه السياقات ليس فقط انسداداً في الأفق المدرسي، بل انفصالاً بين المدرسة والحياة، حيث يتحوّل التعليم إلى مجهود مؤجَّل، محفوف بعدم اليقين، مقابل أنشطة غير رسمية، تضمن دخلاً سريعاً ومكانة محدودة ولكن معترفاً بها محلياً. أما في قفصة، فالوضع أكثر تعقيداً من حيث رمزية التعليم: إذ تتوسّط شركة فوسفات قفصة العلاقة بين المدرسة والمستقبل. لعقود طويلة، احتكرت الشركة مواقع الشغل ذات القيمة الرمزية والاجتماعية، إلى درجة تحوّلت فيها إلى أفق الحلم الجماعي. لا يُستثمر في التعليم كمشروع ذاتي أو وعي معرفي، بل كوسيلة لولوج فضاء مغلق، يُدار بمنطق الزبونية والندرة. في هذا السياق، يُعاد تعريف النجاح الدراسي لا بوصفه تحقيقاً لكفاءة أكاديمية، بل كـ"ترخيص اجتماعي"، للولوج إلى مؤسسة توزِّع الحظوظ والمكانات، وتُعيد تشكيل الهرمية المحلية. وهكذا، يفقد التعليم معناه التحرّري والتشاركي، ويتحوّل إلى آلية رمزية، لتثبيت نظام اجتماعي هشّ، قائم على اقتصاد ريعي وشبكات الولاء.

من خلال هذا الواقع، يتبدّى كيف أن المدرسة في هذه المناطق لا تعمل فقط داخل اقتصاد متهاوٍ، بل ضمن نظام اجتماعي موازٍ، يعيد صياغة علاقتها مع الدولة، بالعمل، وبالخيال الجمعي. وبدلاً من أن تكون أداة للاندماج، تتحوّل المدرسة إلى موقع للمساومة، أو ببساطة، إلى مرحلة انتظار في حياة يُقرّر مسارها خارج أسوارها.

حين تُدار اللامساواة من دون أن تُقال

في تونس، كما في كثير من دول الجنوب، لا تكمن المفارقة فقط في وجود تفاوتات صارخة بين الجهات، بل في الطريقة التي يُدار بها هذا الواقع من دون أن يُسمّى، يُرصد من دون أن يُساءل، يُعرف من دون أن يُعترف به سياسياً. فاللامساواة هنا ليست فقط نتيجة خلل في التوزيع، بل هي منتج تراكمي لسياسات عمومية تصنع الفارق، ثم تُحوّله إلى شيء طبيعي أو غير مرئي. هذا الصمت المزدوج، من الدولة ومن المجتمع، لا يُفهم على أنه غياب، بل هو شكل من أشكال الحضور الإداري البارد، حيث تتحوّل الدولة إلى جهاز صامت لإدارة ما لا تريد الاعتراف به.

في القصرين تحديداً، حيث تآكلت مؤسسات التشغيل النظامي، يُشكّل التهريب، وخاصة عبر الحدود الجزائرية، فضاءً موازياً لإنتاج الدخل والمكانة، و"مسار حياة" تتخلّى فيه الدولة عن دورها التنموي، وتصير المدرسة، نتيجة لذلك، مؤسسة رمزية أكثر منها قناة فعلية للترقي.

الوضع أكثر تعقيداً في قفصة، إذ تتوسّط شركة فوسفات قفصة العلاقة بين المدرسة والمستقبل. لعقود طويلة، احتكرت الشركة مواقع الشغل ذات القيمة الرمزية والاجتماعية، إلى درجة تحوّلت فيها إلى أفق الحلم الجماعي. لا يُستثمر في التعليم كمشروع ذاتي أو وعي معرفي، بل كوسيلة لولوج فضاء مغلق، يُدار بمنطق الزبونية والندرة. 

تَظهر الفوارق المجالية في نتائج البكالوريا مثالاً واضحًا على هذا المنطق: الجهات الداخلية، التي تُسجّل عاماً بعد عام أضعف نسب النجاح، لا تُعامَل على أنها حالة طارئة أو مأزق سياسي، بل كحقيقة إحصائية تُدرَج ضمن البيانات، لا السياسات. الجهات الأضعف أداءً لا تُستهدف بخطط طوارئ أو دعم نوعي، بل تُخضَع للإجراءات نفسها، التي تُطبَّق على الجهات المتفوقة، في ضرب تام لمبدأ التمييز الإيجابي. إنها مساواة شكلية تُخفي لامساواة جوهرية.

هذا ما يجعل من الدولة بيروقراطية تُدير الأقاليم، لا بوصفها فضاءات سياسية حية، بل كـ "مناطق تقنية"، توزَّع فيها الموارد على أساس موازين قوى غير معلنة. تُدار الجهات كما تُدار ملفات، ويُنظر إلى الأرقام لا إلى الناس، فيما تختفي الأسئلة الجوهرية: من يربح؟ من يُقصى؟ ومن يملك سلطة تسمية الأشياء؟ هنا نلامس أحد أكثر أوجه البيروقراطية الحديثة إشكالًا: قدرتها على إنتاج الفقر، لا فقط على تجاهله. لا يعود الفقر مجرد "غياب للثروة"، بل نتيجة مسارات تنظيمية وقانونية تُعيد توزيع الموارد والفرص، وفق منطق عقلاني زائف. وهذا تماماً ما حلّله عدة باحثين في نقدهم لآليات التنمية، حيث لا تكون المشكلة في غياب الدولة بل في طريقة حضورها: حضور بيروقراطي من دون مشروع، إدارة من دون مساءَلة، مقاربة تقنية تفصل بين "المشكل" و"السياسة".

وفي هذا السياق، لا يظهر الصمت بوصفه فراغاً، بل كاستراتيجية سلطوية. فـالصمت عن الفجوة الجهوية هو في حد ذاته سياسة. لا يُناقَش تراجع نسب النجاح في القصرين وقفصة في البرلمان، ولا يُصنِّف الإعلام ذلك كأزمة وطنية، بل يُعاد تدويره داخل سرديات فردية عن الكسل، انعدام الطموح، أو "ضعف العقلية المحلية". هذا ما يسمّى بـ "خصخصة الفشل": أي إعادة نسب الإخفاق إلى الفرد أو الجماعة المهمَشة بدلاً من آليات اشتغال النظام. وبهذه الطريقة، يُحوَّل التمييز المجالي إلى مسؤولية شخصية.

في المقابل، يتم تصدير "نماذج التفوق" من مناطق مثل صفاقس كدليل على عدالة النظام: إذا نجح البعض في ظل القواعد نفسها، فالخلل إذن ليس في النظام بل في الأفراد. هكذا يصعد خطاب "الاستحقاق الفردي"، على أنقاض سؤال العدالة. إنه خطاب يغلق المجال أمام التفكير في الحلول الجماعية، ويحوّل المسألة التربوية إلى امتحان أخلاقي، لا سياسي.

وفي غياب مُساءَلة حقيقية، تُطبع اللامساواة داخل الخيال الجماعي. لا يعود الفارق في نسب النجاح أمراً صادماً، بل معطى "عادياً"، يُعاد إنتاجه كل عام من دون ضجيج. الإعلام، من جهته، لا يشتغل على هذه الأرقام بوصفها مؤشرات على إخفاق وطني، بل يعرضها كما تُعرض درجات الحرارة: خبر تقني، لا قضية سياسية. أما السياسات العمومية، فهي تواصل العمل بمنطق "الحياد"، أي تطبيق البرامج نفسها على الجميع، متجاهلة أن تكافؤ الفرص لا يمكن أن يتحقق من دون معالجة الفجوة في الشروط الأصلية. هذه الدينامية تُولِّد مفارقة أخيرة أكثر إيلاماً: وهي أن الهامش، مع الوقت، يبدأ باستبطان صمته. حين تغيب الدولة الفاعلة، وتغيب اللغة التي تشرح الظلم، يُعيد المهمَّشون فهم أنفسهم خارج أي مشروع مشترك. المدرسة لا تعني لهم مستقبلاً، لأنهم لم يعودوا يؤمنون بوجود "دولة ترعى الجميع". وهكذا، لا تُنتج السياسات العمومية الفقر فقط، بل تنتج أيضاً مشهداً رمزيًا، يَفقد فيه الفقراء الحق في التخيّل والاحتجاج.

في نهاية المطاف، فإن صمت الدولة عن اللامساواة لا يُقاس فقط بعدد القرارات الغائبة، بل بقدرتها على تطبيع اللامرئي، وتحييد الخطير، وإخراج الهامش من المعادلة الوطنية من دون الإعلان عن ذلك. وهو ما يجعل سؤال "من لا يُسمَع؟" سؤالاً سياسياً بامتياز. لا تُقاس أهمية نتائج البكالوريا فقط بما تُتيحه من دخول إلى الجامعة أو الالتحاق بسوق العمل، بل أيضاً بما تكشفه عن البنية العميقة للنظام التربوي والاجتماعي.

في تونس، تُقدَّم المدرسة، في خطاب الدولة، كمرآة للعدالة، وكمؤسسة قادرة على إعادة توزيع الحظوظ الاجتماعية، بصرف النظر عن الأصل الطبقي أو الجغرافي. غير أن استقراء نتائج الامتحانات الوطنية، سنة بعد أخرى، يكشف عن صورة معكوسة تماماً: تُظهِر الأرقام خريطة شبه ثابتة للفوارق، حيث تتصدّر جهات بعينها وتُقصى أخرى باستمرار، بشكل يُحوّل النتيجة المدرسية من تعبير عن مجهود فردي إلى انعكاس لقدَر جهوي أو طبقي.

من الفشل الفردي إلى الإقصاء البنيوي

هذه الدينامية لا تُفهَم إلا إذا تجاوزنا القراءة الفردانية للفشل والنجاح. فالتركيز على أداء التلاميذ كمسألة كفاءة شخصية أو جهد خاص، يخفي أن المدرسة ليست فضاءً محايداً، بل نظاماً مشبعاً بموازين قوى غير متكافئة، تبدأ من توزيع البنية التحتية والمعلمين، وتمرّ عبر المحتوى البيداغوجي، وتنتهي بآليات التقييم الموحدة، التي تُطبَّق على أوضاع غير موحدة.

فكيف يُمكن، مثلاً، مقارنة تلميذ في معتمدية حدودية مهمّشة، لا تتوافر فيها أدنى شروط التعلم، بزميله في معهد نموذجي في مدينة ساحلية؟ أي معنى "للجدارة" حين لا تتكافأ شروط البداية، وحين تصير المدرسة نفسها جزءاً من آلية إعادة إنتاج الإقصاء؟

الجهات الداخلية، التي تُسجّل عاماً بعد عام أضعف نسب النجاح، لا تُعامَل على أنها حالة طارئة أو مأزق سياسي، بل كحقيقة إحصائية تُدرَج ضمن البيانات، لا السياسات. الجهات الأضعف أداءً لا تُستهدف بخطط طوارئ أو دعم نوعي، بل تُخضَع للإجراءات نفسها، التي تُطبَّق على الجهات المتفوقة، في ضرب تام لمبدأ التمييز الإيجابي. إنها مساواة شكلية تُخفي لامساواة جوهرية.

الدولة بيروقراطية تُدير الأقاليم، لا بوصفها فضاءات سياسية حيّة، بل كـ"مناطق تقنية"، توزَّع فيها الموارد على أساس موازين قوى غير معلنة. تُدار الجهات كما تُدار ملفات، ويُنظَر إلى الأرقام لا إلى الناس، فيما تختفي الأسئلة الجوهرية: من يربح؟ من يُقصى؟ ومن يملك سلطة تسمية الأشياء؟ هنا نلامس أحد أكثر أوجه البيروقراطية الحديثة إشكالاً: قدرتها على إنتاج الفقر، لا فقط على تجاهله. 

ما يحصل هو نوع من "التواطؤ الرمزي"، بين الخطابات الرسمية وآليات الإقصاء الصامت. إنه "أدب اللامساواة" كما يمارَس من دون لغته الصريحة: لا أحد يُعلن عن نية التهميش، لكن الجميع يشتغل وفق آليات تُنتج التهميش وتُطبّعه.

هكذا، يتحول الفشل المدرسي من ظاهرة عابرة إلى أداة تصنيف اجتماعي، تُحدَّد على أساسه مكانة الأفراد، وطموحاتهم، ومساراتهم الممكنة. في كثير من الأحيان، يصير الفشل في البكالوريا لا مجرد "نقطة نهاية لمسار مدرسي"، بل بداية لمسار تهميش طويل الأمد، يعيد ربط الفرد بموقعه الاجتماعي الأصلي بدلاً من تحريره منه. في بعض الجهات، تُكَرّس قناعة أن البكالوريا ليست سوى امتحان للكشف عن "المقسوم"، أي لتأكيد ما هو مفروض سلفاً: أن من وُلد في الهامش، سيبقى فيه، حتى لو دخل المدرسة. والأخطر من ذلك، أن هذا الواقع لا يُولّد فقط الإقصاء، بل أيضاً يُعطّل القدرة على تخيّل المدرسة كأداة للتحرر. تفقد المدرسة معناها الجمهوري، أي كونها مساحة لتكافؤ الفرص والارتقاء الاجتماعي. وبدلاً من أن تُعيد إنتاج المواطن، تُعيد إنتاج اللامنتمي، أو في أحسن الأحوال المواطن الناقص، الذي لم يحظَ بالشروط الضرورية لـ "المنافسة العادلة".

هكذا، لا يعود العقد التربوي بين الدولة ومواطنيها مجرداً عن العقد الاجتماعي نفسه. المدرسة هنا لا تُخفق فحسب في أداء دورها، بل تكشف، كل سنة، عن اختلالٍ عميقٍ في الصيغة الجمهورية للدولة، التي تَعِد بالعدالة ولكن تُسلِّم بالتفاوت. تُرسّخ الأرقام المتكررة أن هناك مواطنين يمكنهم الحلم، وآخرين لا يحق لهم إلا الصمت أو النجاة.

مقالات من تونس

من النشأة زمن الاستعمار الفرنسي إلى عصر الاستحواذ الصيني: سيرة الإسمنت التونسي

تُعطِّل الأسعار المرتفعة، وتقييدات التصدير التي تصدرها الحكومة من وقت إلى آخر، انتشار الاسمنت التونسي في الأسواق العالمية. لكن هناك معطيات موضوعية أيضاً. فأكبر مستهلِكَين تقليديين للإسمنت المحلي، سواء عبر...

للكاتب نفسه

العنف المدرسي في تونس: الظلم والعدالة وتهاوي السلطات الرمزية

تشهد المؤسسات التقليدية للمجتمع التونسي، تهاوياً متسارعاً منذ ثمانينيات القرن الماضي، أي منذ تشابك الاقتصاد المحلي مع اقتصاد السوق المعولَم، الذي فرض مطالبات تتعلق بتغيير دور المدرسة، من مؤسسة توكَل...