إعداد وتحرير: صباح جلّول
صدر عن الأمم المتحدة تقرير عن المقرِّرة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، فرانشيسكا ألبانيزي، بعنوان "من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية".
يُفصّل التقرير الذي شاركته ألبانيزي في أول تموز/يوليو 2025، كيفية تحوّل اقتصاد الاحتلال الإسرائيلي إلى "اقتصاد إبادة" بعد السابع من أكتوبر 2023، بدعمٍ من شبكة عالمية من الشركات الكبرى المتواطِئة والمشارِكة بشكل مباشر ووثيق في الإبادة الجماعية المرتكبة في غزة. ويشير التقرير إلى أن هذا التحول مدفوعٌ بالتخطيط الاستراتيجي والمصالح الاقتصادية التي تستفيد من تدمير حياة الفلسطينيين وبنيتهم التحتية.
يُحدِّد التقرير ثلاثة من الأفعال الخمسة المنصوص عليها في اتفاقية الإبادة الجماعية لعام ، على أنها تنطبق على ما سماه "أفعال الدولة الإسرائيلية" في غزة، وهي قتل عمد لأعضاء جماعة بشرية محددة، التسبب بأذى جسدي أو نفسي جسيم، وإخضاع هذه الجماعة لظروف مُصمَّمة لتدميرها المادي.

نقدّم هنا إضاءة تُلخِّص أبرز ما جاء في التقرير.
إبادة برعاية شركات كبرى
بنى التقرير قاعدة بيانات تضم اسم 1000 مؤسسة وشركة. بعد دعوتها لتقديم بلاغات لغرض إعداد هذا التحقيق، تلقت المقررة ألبانيزي أكثر من 200 مساهمة، ساعدتها في رسم خريطة لكيفية تورّط مؤسسات في جميع أنحاء العالم في انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم الدولية في فلسطين المحتلة. بناء على النتائج، تم إبلاغ أكثر من 45 من هذه المؤسسات المذكورة صراحةً في التقرير بالحقائق التي تم التوصل إليها، والتي قادت إلى صياغة سلسلة من الادعاءات ضدّ هذه المؤسسات.
يقول التقرير: "إن الشبكة المعقدة للهياكل المؤسسية - والروابط التي غالباً ما تكون غامضة بين الشركات الأم والشركات التابعة، والامتيازات، والمشاريع المشتركة والمرخص لهم، وما إلى ذلك - تشير إلى أكثر من ذلك. يوضح التحقيق المدى الذي ستذهب إليه الشركات لإخفاء تواطؤها".
في كل المجالات والقطاعات، من الشركات السياحية (مثل إير-بي-إن-بي)، والعقارية (مثل كيلر ويليامز)، والتجارية الإلكترونية (مثل العملاق أمازون الذي يخفي مكان تصنيع بعض البضائع للترويج لمنتوجات المستوطنات)، إلى قطاع الأسلحة بالطبع، يتطرق التقرير إلى وسائل تَربّح الشركات من الإبادة في غزة.
في قطاع الأسلحة، زوّدت شركات مثل إلبيت ولوكهيد مارتن الاحتلال الإسرائيلي بأسلحة "مُختبرة ميدانياً" في غزة، بما في ذلك طائرات F-35 والذخائر العنقودية.
في قطاع التكنولوجيا والمراقبة، قدمت مايكروسوفت وغوغل وأمازون أنظمة ذكاء اصطناعي مثل "لافندر" لاستهداف الفلسطينيين، كما وفّرت خدمات سحابية (لتخزين المعلومات). استخدم الاحتلال آليات متطورة من كلّ من شركات كاتربيلر، فولفو، وهيونداي، لهدم المنازل والبنى التحتية في غزة والضفة الغربية.
في مجال الطاقة والموارد، زوّدت شيفرون الاحتلال بالفحم والنفط والغاز المُستخدَم في حصار غزة وتجويع سكانها. وفي مجال التمويل، استثمرت بلاك روك وفانجارد مليارات الدولارات في سندات الخزانة الإسرائيلية وشركات الأسلحة.

هذه مجرد أمثلة قليلة عن شبكات أوسع وأكثر تنوعاً لشركات ضخمة متواطئة، لعلّ معظمنا سمع باسمها مرتبطاً بفضائح أخلاقية ومالية كبرى في مناسبات وسياقات مختلفة.
إجرام برعاية المؤسسات الأكاديمية
تُشارك جامعات رائدة ومرموقة عالمياً مع مؤسسات إسرائيلية في إلحاق الضرر المباشر بالفلسطينيين. في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، تُجري المختبرات أبحاثًا في مجال الأسلحة والمراقبة بتمويل من وزارة الدفاع الإسرائيلية، وهي الجهة العسكرية الأجنبية الوحيدة التي تُمول أبحاث معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
بالإضافة إلى ذلك، يتعاون برنامج "هوريزون يوروب" (Horizon Europe) التابع للمفوضية الأوروبية "بنشاط" - كما يقول التقرير - مع المؤسسات الإسرائيلية المتواطئة في الفصل العنصري والإبادة الجماعية. ومنذ عام 2014، منحت المفوضية الأوروبية أكثر من 2.12 مليار يورو (2.4 مليار دولار) للمؤسسات الإسرائيلية.
تتعاون الجامعة التقنية في ميونيخ مع شركة أي بي أم بفرعها الإسرائيلي (IBM Israel) - التي تدير سجل السكان الإسرائيلي التمييزي - في أنظمة السحابة والذكاء الاصطناعي، بعشرات ملايين الدولارات.
مقاوَمات.. لإنهاء الحصار والإبادة
22-05-2025
يؤكد التقرير أن هذه الأمثلة "لا تُمثِّل إلا جزءاً يسيراً من المعلومات التي تلقتها المقرِّرة الخاصة"، والتي تلقي الضوء على "الدور الحيوي الذي يضطلع به الطلاب والعاملون في محاسبة الجامعات"، في حين يُقمع هؤلاء في الحرم الجامعي، "إذ يبدو أن حماية إسرائيل وحماية المصالح المالية للمؤسسات هو الدافع الحقيقي للقمع، عوضاً عن المكافحة المزعومة لمعاداة السامية"، كما تقول المقررة.
خلاصات التقرير
يخلُص التقرير الى نتيجة بسيطة ومرعبة في الآن نفسه، مفادها أن سبب استمرار الإبادة الجماعية الإسرائيلية لغزّة هو... أنها مربحة للكثيرين. والحقيقة التي تشكل خلفية كلّ هذا هي أن شبكات الاقتصاد العالمي منعدمة الأخلاق، توفر شبكة دعم دائمة لاستمرار قتل الأبرياء وتحويل الحياة في غزة إلى جحيم مقيم. فبعد استعراض المعلومات والأدلة والإشارة إلى براهينها، يستنتج التقرير أن الاقتصاد السياسي للاحتلال صار بالفعل اقتصاداً يتغذّى على الإبادة الجماعية.
الاحتلال الدائم للأرض الفلسطينية، حسب التقرير، يجعل منها ساحة الاختبار المثالية لمصنِّعي الأسلحة وشركات التكنولوجيا الكبرى، فيوفر بذلك "عرضاً وطلباً لا حدود لهما، ورقابة ضئيلة، ومساءلة معدومة" – حسب تعبير تحقيق المقررة ألبانيزي.
يشير التقرير إلى أن شركات الأسلحة بالذات حققت أرباحاً قياسية من خلال تزويد الاحتلال بأسلحة متطورة تقتل المدنيين العزّل، ويؤكد أن آليات شركات معدات البناء العالمية العملاقة لعبت دوراً محورياً في تدمير غزة، ومنع عودة الحياة الفلسطينية وإعادة بنائها، فيما تقوم شركات الطاقة الاستخراجية والتعدين بتغذية البنية التحتية العسكرية والطاقة الإسرائيلية، وتهندس بالتوازي ظروفاً "مصمَّمة لتدمير الشعب الفلسطيني" في غزة.
في التبعات القانونية (المفترَضة)
ينتهي التقرير إلى ضرورة المحاسبة للمتورطين المتواطئين في الجريمة: "يمكن، بل يجب، مساءلة الكيانات التجارية ومديريها التنفيذيين مدنياً أو جنائياً عن مثل هذا السلوك، بالإضافة إلى العديد من الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان الأخرى التي تُشكل جزءاً من اقتصاد الاحتلال".
هذه المسؤولية التي يريد التقرير والمقرِّرة الخاصة ألبانيزي تحميلها للمرتكِبين، جعلت من المقررة الإيطالية في مرمى النيران الاتهامية الإسرائيلية والأميركية – مجدداً. حسب موقع "واشنطن فري بيكون"، اتهمت الإدارة الأميركية ألبانيزي بالكذب حول مؤهلاتها القانونية، وقدّمت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب طلباً رسمياً للمرة الأولى إلى الأمم المتحدة لإقالة فرانشيسكا ألبانيزي من منصبها كمقررة خاصة معنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة، بسبب ما وصفته بـ"معاداة السامية العنيفة ودعم الإرهاب".