سلام "ترامب" الاقتصادي الجديد: من إدارة الصراع إلى تصفية القضية الفلسطينية

ليس الأمريكان الوحيدين الذين لديهم خطط استثمارية وعقارية لقطاع غزة، بعد إعادة احتلاله وتطهيره من حماس، والاستيلاء عليه، حيث بادرت مجموعة عقارية استثمارية إماراتية إلى طرح رؤية أكثر تفصيلية للفكرة نفسها. تدعو الخطة الإماراتية إلى استملاك غزة من قبل شركة استثمارية عملاقة، برأسمال عربي/ دولي بقيمة 50 مليار دولار، تتولى إدارة الإغاثة، والإعمار، والأمن، والشؤون المدنية المحلية، إلى حين تمكُّن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من إدارة نفسه، في نسق جديد من الاستعمار العربي المالي (وغير الاستيطاني!).
2025-03-27

رجا الخالدي

باحث في التنمية الاقتصادية الفلسطينية والمدير العام لمعهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (MAS)


شارك
الدمار والاستباحة في مخيمات الضفة الغربية

"لا تحتاج إلى راصد جوي لتتأكد من اتجاه هبوب الرياح"
(بوب ديلان)

ما أكثرها المقالات العلمية والإعلامية، التي نُشرت خلال العقدين الأخيرين، حول مفهوم وتطبيقات "السلام الاقتصادي" الإسرائيلي والأمريكي، كوسيلة من وسائل إدارة العلاقة السياسية والأمنية الإسرائيلية مع محيطها الفلسطيني. امتاز الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة منذ 1967، كما عُرف عالمياً، بشن موجات متتالية من العدوان والتدمير والتصفية والاعتقال والعقوبات الجماعية بجميع أشكالها، والحروب المحدودة أو الشاملة، لمكافحة المقاومة المسلحة والشعبية والسياسية الفلسطينية.

ذلك النهج العنيف لم يكن الوحيد الذي وظفته إسرائيل لفرض سيطرتها على الأرض والشعب الفلسطيني، حيث سعت منذ الإيام الأولى للاحتلال إلى الاحتواء السياسي لقيادات محلية (اقتصادية وعشائرية وإدارية). كذلك، فأن لكل عصا استعمارية غليظة جزرة اقتصادية يحاول المستعمر تسويقها للشعب المحتل، المقاوم لوجوده، ملوحاً ببديل من الحياة والازدهار، ومستهدفاً مصالح النخب الاقتصادية والسياسية في ذلك المسعى.

وداعاً للسلام الاقتصادي نهجاً لإدارة الصراع

خلال السنوات الـ25 الأولى من الاحتلال، كانت "الإدارة المدنية للجيش الإسرائيلي" هي الجهة المنسِّقة للعلاقة الاقتصادية مع الأرض المحتلة، بالتعاون مع جهات حكومية، وأحياناً بالتنسيق مع سياسات أمريكية عليا مسانِدة لفكرة "تحسين جودة حياة". سجلت إسرائيل عدداً من المبادرات لتحفيز النشاط التجاري، وتوفير الوظائف، مقابل "الهدوء" والابتعاد عن العمل المسلح. إلى أن جاءت الانتفاضة الأولى، التي انفجرت على الرغم من التحسن الذي ساد عشيتّها في جميع المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية. كذلك سعت إسرائيل منذ 1968 إلى تشجيع هجرة الأيدي العاملة الفلسطينية إلى دول عربية مجاورة كوسيلة للتنفيس الاقتصادي (والديموغرافي طبعاً). لكن عودة مئات الآلاف من الفلسطينيين من دول الخليج بعد حرب العراق الأولى، افشلت أية طموحات صهيونية بتفريغ البلاد من أهلها الأصليين، على الأقل حتى عام 2023.

منذ موافقة دولة إسرائيل عام 1993 على إنشاء "السلطة الوطنية الفلسطينية"، في ولاية محدودة في 40 في المئة من أراضي الضفة المحتلة، ضمن "اتفاقيات أوسلو" - وتحت السقف السياسي لـ"منظمة التحرير الفلسطينية" - لم تتغير المناهج الاحتلالية كثيراً عن فترة ما قبل الحكم الذاتي الفلسطيني. تفاوتت السياسات الإسرائيلية ما بين القمع والعنف وفرض عقوبات مالية وعسكرية فردية وجماعية، من جهة، والتظاهر بالانسجام مع "عملية السلام"، وتشجيع التعاون الاقتصادي، ومنح التسهيلات للعمال الفقراء، ولرجال الأعمال، وكبار شخصيات السلطة، من جهة أخرى. ما شكل منظومة واسعة ومعقدة من التبعية الاقتصادية الفلسطينية المتشابكة مع الخضوع الأمني والسياسي لواقع الاحتلال المطوّل.

يعرف هذا النهج الإسرائيلي في إدارة الصراع مع الشعب الفلسطيني منذ 1994 "بالاحتواء غير المتكافئ"، وهي السياسة التي بموجبها أدار الاحتلال علاقاته مع كل من السلطة في رام الله وسلطة حماس في غزة، بين دورات متلاحقة من الهبات والحروب والتعافي وإعادة الاعمار، إلخ. هكذا استطاعت إسرائيل خداع العالم بأنها بقيت متمسكة بـ"اتفاقيات أوسلو" المرحلية، وبعملية سلمية تفضي إلى اتفاقات "الوضع الدائم"، وبقيت حتى فترة أخيرة تدّعي استعدادها للوصول الى ما يسمى بـ"حل الدولتين"، ما وفر لمنظمة التحرير مبرراً لتمسكها الثابت بالحل ذاك. منذ "أوسلو" كثّفت إسرائيل استيطانها الاستعماري في الضفة الغربية، بما فيها القدس، وتعاملت مع حماس في غزة تارة بالعصى الحربية وتارة بالجزرة الاقتصادية. مع مرور الزمن، صارت سياسات إسرائيل المتغيرة في إدارة الصراع بين سنة وأخرى الشغل الشاغل للفلسطينيين، مع تراجع متواصل في المشهد "للمشروع الوطني" في تحقيق الاستقلال، الى أن صار ذلك الهدف الأسمى، عشية حرب تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بمثابة سراب لن نصل إليه أبداً.

مع إتمام الشهر الـ18 لحرب الإبادة والتهجير الإسرائيلية، من دون آفاق لردع أو إيقاف زحفها في قطاع غزة أو في الضفة الغربية، وسط صمت مدوٍّ للضمير العالمي والقانون الدولي، فإن لا مكان أو حاجة إلى توظيف سياسات السلام الاقتصادي. مثل هذه الأساليب اللطيفة في التعامل مع فلسطين وشعبها انتهت صلاحيتها مع صعود الصهيونية "المشيانية" الجديدة، في إسرائيل إلى سدة الحكم، كما يسلط الضوء على ذلك "تقرير حول الاقتصاد السياسي للحرب"، صدر مؤخراً، وشاركتُ في إعداده.

تفاوتت السياسات الإسرائيلية ما بين القمع والعنف وفرض عقوبات مالية وعسكرية فردية وجماعية، من جهة، والتظاهر بالانسجام مع "عملية السلام"، وتشجيع التعاون الاقتصادي، ومنح التسهيلات للعمال الفقراء، ولرجال الأعمال، وكبار شخصيات السلطة، من جهة أخرى. ما شكل منظومة واسعة ومعقدة من التبعية الاقتصادية الفلسطينية المتشابكة مع الخضوع الأمني والسياسي لواقع الاحتلال المطوّل.

عُرف هذا النهج الإسرائيلي في إدارة الصراع مع الشعب الفلسطيني، منذ 1994، "بالاحتواء غير المتكافئ"، وهي السياسة التي بموجبها أدار الاحتلال علاقاته مع كل من السلطة في رام الله وسلطة حماس في غزة. هكذا استطاعت إسرائيل ادعاء تمسكها بـ"اتفاقيات أوسلو" المرحلية، وبعملية سلمية تفضي إلى اتفاقات "الوضع الدائم" وحل الدولتين، ما وفّر لمنظمة التحرير مبرراً لتمسكها الثابت بالحل ذاك. 

مع زوال عصر الاحتواء غير المتكافئ، وصل المشروع الصهيوني الإقصائي إلى ذروته في حملة لإبادة الشعب الفلسطيني، وإنهاء قضيته، وإنكار طموحه الوطني. إذا كانت قيادات إسرائيلية سابقة مستعدة لقبول مبدأ "حل الدولتين"، بشكل أو بآخر، فلا يمكن لإسرائيل 2025، ولا يريد قسم كبير من مواطنيها اليهود، العودة إلى أية صيغة تعاقدية، تمنح الحقوق للشعب الفلسطيني، حيث في رؤية الصهيونية "المشيانية" المتحكمة بالدولة الإسرائيلية، لا مكان ولا سيادة بين النهر والبحر سوى "للشعب اليهودي" ودولته.

التناغم الخطير

ما يدعو للقلق في هذه المرحلة الجديدة للصراع بين إسرائيل وفلسطين، ليس فقط السعي الإسرائيلي إلى نزع شرعية الحق الفلسطيني، القومي والسيادي، ومواصلتها لحرب تدميرية تمحو الإنسان والمكان. المشكلة الأكبر ربما تكمن في التناغم المتزايد بين الخطاب الاستعماري الإبادي الإسرائيلي وأعماله البشعة، مع السياسات الإمبريالية الرأسمالية للإدارة الأمريكية الجديدة، وكل أركانها، من "ترامب" و"ماسك"، ونزولاً في هرمها. ما هو واضح من التصعيد الإسرائيلي خلال الأسابيع الأخيرة، في تهديداته ضد المقاومة في غزة، وقرصنته لمالية السلطة، وتقويض نفوذها الإداري، بجانب خطط تفريغ قطاع غزة من سكانه "طوعاً" أو قسراً، وفي أعمال الجرف لمخيمات الضفة الغربية، وطرد 50 ألف نازح من سكانها منها، كل ذلك يدل على شهية إسرائيلية متجددة، وأكثر صراحة، لاستعراض قوتها العسكرية الصادمة ولقتل الفلسطينيين، حيث يمكن للسلاح الإسرائيلي-الأمريكي قتل 180 طفلاً في ليلة واحدة، من دون عقاب أو ذكر في الإعلام الليبرالي الغربي، أو حتى عقد جلسة لمجلس الأمن، وبمباركة غير خجولة من "ترامب" وأعوانه.

يخلق هذا التطابق بين السياسات الأمريكية والإسرائيلية - وسط عجز دولي أمام أسلوب "ترامب" غير المألوف في إدارة العلاقات الدولية، ومع تقاعس/ تواطؤ عربي رسمي موازٍ - ما يشبه "عاصفة مثالية"، تهدد هذه المرة بقاء الشعب الفلسطيني في بلاده، في اسوأ الأحوال، أو خضوعه لسيادة دولة الاحتلال، وتفكيك مؤسساته وبرامجه "الوطنية" في أفضل نتيجة. هذا ما رسمه "سموتريش" في رؤيته المعروفة بـ"خطة الحسم"، وهذا ما يتم تنفيذه على الأرض منذ سنتين، وبوتيرة متسارعة خلال الأشهر والأسابيع الأخيرة. ممكن أن نفهم هذه السياسة الإسرائيلية المعلَنة من خلال قراءة نصوصها، والاستماع إلى الخطابات العنصرية، التي تبوح بها أبواق الصهيونية الجديدة يومياً. لكن السياسة الأمريكية تحت إدارة "ترامب" تبدو أكثر ارتجالية وفضفاضة، لها جذور مغايرة، وأهداف قد تلتقي أو لا تلتقي مع الأهداف الإسرائيلية.

مع زوال عصر الاحتواء غير المتكافئ، وصل المشروع الصهيوني الإقصائي إلى ذروته في حملة لإبادة الشعب الفلسطيني، وإنهاء قضيته، وانكار طموحه الوطني. لا يمكن لإسرائيل 2025، ولا يريد قسم كبير من مواطنيها اليهود، العودة إلى أية صيغة تعاقدية، تمنح الحقوق للشعب الفلسطيني، حيث في رؤية الصهيونية "المشيانية" المتحكمة بالدولة الإسرائيلية، لا مكان ولا سيادة بين النهر والبحر سوى "للشعب اليهودي" ودولته.

ما يدعو للقلق في هذه المرحلة الجديدة للصراع بين إسرائيل وفلسطين، ليس فقط السعي الإسرائيلي إلى نزع شرعية الحق الفلسطيني، القومي والسيادي، ومواصلتها لحرب تدميرية تمحو الإنسان والمكان. المشكلة الأكبر ربما تكمن في التناغم المتزايد بين الخطاب الاستعماري الإبادي الإسرائيلي وأعماله البشعة، مع السياسات الإمبريالية الرأسمالية للإدارة الأمريكية الجديدة. 

اذاً، ما هو السر الذي يفسِّر التفاهم، الضمني والصريح، بين الرؤيتين الأمريكية والإسرائيلية في هذه المرحلة؟ وكيف تختلف عما شهدناه في العقود الأخيرة، حيث كان هناك أحياناً - قبل ومنذ "أوسلو"- اشتباك بينهما في مسائل مثل العملية السلمية حول "حل الدولتين" ("الأرض مقابل السلام")، والاعتراف بالطرف الفلسطيني والتوسع الاستيطاني؟

ربما سُجِّل بعض التخبط في التدخلات الأمريكية حول فلسطين خلال الأشهر الأولى من إدارة "ترامب"، بين الضغط على إسرائيل للتوصل إلى صفقة تبادل أسرى، وانسحابات إسرائيلية في المرحلة الأولى، ثم بنبذ المرحلة الثانية للاتفاق نفسه، وإباحة عودة إسرائيل إلى الأعمال الحربية الوحشية. كذلك هناك عدم ثبات بين طرح "ترامب" المفاجئ لتطهير قطاع غزة من الفلسطينيين، ليحل مكانهم أصحاب رؤوس الأموال (بحجة مقتضيات عملية إعادة الاعمار)، ومن ثم التراجع الأمريكي المعلن عن فكرة التطهير العرقي الشامل أو القسري. كذلك شهدنا تضارباً بين التفاوض مباشرة مع حماس، ومن ثم تهديداتها بإنزال الجحيم على غزة إذا لم تنزع سلاحها وتترك قطاع غزة. وحتى فيما يتعلق بالحل المتوافق عليه دولياً، يقول المفاوض الأمريكي الرئيسي، "ستيف ويتكوف"، بأنه من الممكن أن يكون ذلك بحل الدولتين أو أن يكون بحل آخر! وعلى الرغم مما يبدو كنوع من متلازمة "ثنائية القطب" (bipolar syndrome) في السياسة الأمريكية، فإننا في جوهرها نجد عقيدة استراتيجية ثابتة للتحالف الأمريكي والغربي مع دولة إسرائيل، واعتماد مصالح وخطاب وممارسات المشروع الصهيوني، مهما انتهك من قوانين دولية، ومعاهدات إنسانية، وشكل تهديداً للأمن الإقليمي.

تضيف إدارة "ترامب" إلى هذه الشبكة من المصالح والرؤى الاستعمارية الجديدة (neo-colonialism)، أمرين يشكلان خطراً وجودياً على قضية فلسطين. أولاً، ما يمثله "ترامب" من رأسمال أمريكي متعطش لسلب مزيد من الموارد الطبيعية والمعدنية، خاصة من شعوب الجنوب، ومزيد من السيطرة على أسواق العالم، من قبل الشركات متعددة القارات. وهذا يمثل إضافة نوعية إلى أجندة المصالح الأمريكية في المنطقة، لها تداعيات تحوّلية ليس فقط على مستقبل فلسطين، بل على العلاقة بين الشعوب العربية والغرب، وبين حكامها ودولة إسرائيل. ثانياً فإن رؤية "ترامب" الشاملة لإنهاء "النزاع العربي-الإسرائيلي"، من خلال "صفقة القرن" (وخطتها الاقتصادية "من السلام للازدهار")، معروفة منذ سنوات، وليس هناك سبب للتوقع بأنه سيتراجع عن تلك السياسة المعادية للحق الفلسطيني. إذاً، نحن أمام تحدٍّ لم يسبق له مثيل في تاريخ نضال الشعب الفلسطيني لتقرير مصيره، في اللحظة التي تبدو حال الشعب ومؤسساته وقياداته السياسية بأضعف ما تكون.

السلام الاقتصادي كحل للوضع الدائم

اليوم، يذهب "ترامب" أبعد من ذلك بكثير، وهنا يكمن الخطر الأكبر. لا يتجاهل الرئيس الأمريكي قوانين اللعبة الديبلوماسية، والبروتوكول، وأعراف العلاقات الدولية فحسب، بل يحاول فرض لعبة جديدة تماماً، بعيداً عن "حل الدولتين"، متجاهلاً الحق الفلسطيني، وطمعاً بالأرض الفلسطينية، وفرص الاستثمار الإقليمية، وجائزة نوبل للسلام، بعد تدبير الإزعاج الذي يشكله هؤلاء "الفلسطينيون المشاكسون" والمعيقون لطموحاته المذهَّبة، بإصرارهم على نيل حقوقهم.

على الرغم مما يبدو كنوع من متلازمة "ثنائية القطب" (bipolar syndrome) في السياسة الأمريكية، فإننا في جوهرها نجد عقيدة استراتيجية ثابتة للتحالف الأمريكي والغربي مع دولة إسرائيل، واعتماد مصالح وخطاب وممارسات المشروع الصهيوني، مهما انتهك من قوانين دولية، ومعاهدات إنسانية، وشكل تهديداً للأمن الإقليمي.

على حد سواء، يناسب هذا التحول المفصلي في الموقف الأمريكي، رؤيته الرأسمالية التي يمثل "ترامب" مصالحها قبل المصالح القومية التاريخية للولايات المتحدة، وأجندة الإبادة الإسرائيلية. كما يفسِّر تخلي الطرفين عن دعمهما التاريخي لـ"السلطة الفلسطينية"، كرادع للمقاومة، وكأداة تنفيذية ضمن منظومة سيطرة، كانت تعترف بحد أدنى من الصلاحيات الحاكمة الفلسطينية. ليس نجاح "ترامب"، في هذا الرهان الجديد/ القديم مضموناً بالضرورة. 

يمكن استخلاص هذه الرؤية من تصريحات لـ"ترامب"، ومؤخراً لـ"ويتكوف"، تنظِّر إلى غزة كفرصة استثمارية عقارية، وإلى سكانها الفلسطينيين كأيدٍ عاملة رخيصة للرأسمال الاستثماري، الذي، بحسب رأيهم، سيحل مشاكل الجميع من دون الحاجة إلى التفاوض حول الحقوق أو الأرض أو الحدود. أي، أنه بدلاً من الوصول إلى حل للوضع الدائم يُقر بالحقوق الفلسطينية في فلسطين (وليس في مصر أو الأردن أو الصومال!)، أو بدلاً من العودة إلى سياسات ما قبل 2023 للاحتواء غير المتكافئ، على افتراض وجود "طريق نحو حل الدولتين" (بحسب وصفة إدارة "بايدن" السابقة)، فإن الإدارة الأمريكية حسمت الجدل اللامنتهي، من دون المزيد من اللف والدوران الذي تجده مضيعة للوقت ("الزمن هو المال"). فقرار "ترامب" هو توظيف السلام الاقتصادي، والازدهار المادي، ليس كحافز لتحقيق السلام العادل، أو حتى كوسيلة لتأجيل إنهاء الصراع مثلما تعوَّدنا، بل صار السلام الاقتصادي هو الحل الوحيد المطروح شكلاً ومضموناً.

بحسب وصف "ويتكوف" مؤخراً لهذا التصور، فإن لا قيمة للهم الوطني أو المطالب الحقوقية الفلسطينية أمام فرص "تحسين جودة حياة" الفلسطينيين، والاستثمار والعمل في الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والصناعات المعلوماتية إلخ. ثم نرى هذا النهج الرأسمالي في الخطة التي أعلن عنها "ترامب" لإعادة إعمار غزة، واستناده إلى مفهوم استثماري معروف (BOT – "ابنيها، شغِّلها وسلِّمها")، وتقديرات خيالية لفاتورة الإعمار تصل إلى تريليون دولار، وضعها خبير إسرائيلي من جامعة أمريكية في منتصف عام 2024. ويبدو أنه أضاف إلى هذا المقترح الاستثماري، وطرَّزه لـ"ترامب"، صهره المستثمر "جاريد كوشنر"، الذي كان أول واحد من الدائرة المقربة الذين تحدثوا بصراحة (قبل الإسرائيليين أنفسهم) حول فكرة تفريغ غزة من سكانها، لجعلها "ريفيرا" الشرق.

لن يوقِّع أي فلسطيني على صك استسلام. إذا كان العيش في ظل نظام من الفصل العنصري، بدل المضي نحو التحرر الوطني، هو الخيار الوحيد وثمن البقاء على أرض فلسطين، فليكن.  

ليس الأمريكان الوحيدين الذين لديهم خطط استثمارية وعقارية لقطاع غزة بعد إعادة احتلاله وتطهيره من حماس، والاستيلاء عليه، حيث بادرت مجموعة عقارية استثمارية إماراتية إلى طرح رؤية أكثر تفصيلية للفكرة نفسها. تدعو الخطة الإماراتية إلى استملاك غزة من قبل شركة استثمارية عملاقة، برأسمال عربي/ دولي بقيمة 50 مليار دولار، تتولى إدارة الإغاثة، والإعمار، والأمن، والشؤون المدنية المحلية، إلى حين تمكُّن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من إدارة نفسه، في نسق جديد من الاستعمار العربي المالي (وغير الاستيطاني!). كذلك هناك خطط للنهوض الاقتصادي تروج لها مجموعة استثمارية عالمية تقودها جمعية خيرية بريطانية، يهودية ليبرالية، تصوِّر مستقبلاً اقتصادياً زاهراً لغزة بعد الحرب، بغض النظر عمن سيحكم القطاع، وحتى في غياب أي حل سياسي. وهذه قمة جبل الجليد الذي يخفي ما يزيد عن عشر خطط للإعمار والاستثمار، وطيف من الحلول السياسية البديلة عن حل الدولتين.

هذا التحول المفصلي في الموقف الأمريكي يناسب، على حد سواء، رؤيته الرأسمالية التي يمثل "ترامب" مصالحها قبل المصالح القومية التاريخية للولايات المتحدة، وأجندة الإبادة الإسرائيلية. كما يفسِّر تخلي الطرفين عن دعمهما التاريخي لـ"السلطة الفلسطينية"، كرادع للمقاومة، وكأداة تنفيذية ضمن منظومة سيطرة، كانت تعترف بحد أدنى من الصلاحيات الحاكمة الفلسطينية. ليس نجاح "ترامب" في هذا الرهان الجديد/ القديم مضموناً بالضرورة، وهو يقول إنه في مقابل كل حق إنساني هناك ثمن مادي يمكن تعويضه، أو بأن الشعب الفلسطينيـ أو أي من ممثليه يمكن ان يقبل طوعاً، وبإرادته الحرة، بسلام "ترامب" الاقتصادي. وحتى ولو اضطرت كل من السلطة وحماس إلى التعامل مع ظاهرة "ترامب" وطروحاته غير المعقولة، بجدية وحذر شديدين، خوفاً من تهييج الثور الذي لا يمكن لأحد التكهن بموقفه غداً، فلن يوقِّع أي فلسطيني على صك استسلام. إذا كان العيش في ظل نظام من الفصل العنصري، بدل المضي نحو التحرر الوطني، هو الخيار الوحيد وثمن البقاء على أرض فلسطين، فليكن.

إذا نجحت القوة الإسرائيلية المفرِطة في تركيع المقاومة، واستطاعت العقوبات إنهاء وظائف السلطة الفلسطينية وتمرير خطط "سموترش" بإنشاء كيانات إقليمية/ محلية لتحكم مكانها، فإن مثل تلك التطورات ستفتح الباب واسعاً أمام التدخل الأمني والسياسي والاقتصادي الإسرائيلي- الأمريكي-العربي المباشِر في تقرير مصير الشعب الفلسطيني، وإدارة شؤون حياة 5 مليون من أبنائه، بل وفي إنهاء قضيته العادلة. ربما، ربما لا يزال ممكناً تفادي مثل هذا المسار والنتائج الأسوأ، ليس فقط من خلال كشف ورفض تلك الرؤى الاستعمارية الجديدة، بل في وضع الخطة الفلسطينية الواحدة الموحدة لإنقاذ مشروع التحرر الوطني من الإبادة، ولإعمار فلسطين حرة عربية، بسواعد أبنائها وبدعمٍ مما تبقى من أحرار العالم.

مقالات من فلسطين

التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية: استراتيجيات عسكرية موسعة وتهديدات بالضم

في إطار المتابعة الحثيثة التي يقوم بها "معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني- (ماس)" لمتابعة التطورات، ورصد تأثيراتها، أعد المعهد ورقة خلفية لأولى جلسات "سلسلة الطاولة المستديرة" لهذا العام، صدرتْ في...

غرنيكا غزة

2025-03-27

كثّفت لوحة بيكاسو، في مشهد بانورامي واحد، الأهوال والفظائع التي خبرتها المدينة: صرخة الأم، الطفل المدمَّى، الجسد المشظّى، حطام البيت، حتى الحصان والثور والحيوانات التي عاشت بين البشر تعلن رعبها.

للكاتب نفسه