غزّة.. الأرض الخراب

قال كلمةً، سمعتها كثيراً: "رُدّت الروح والله". نظرَ إلى الشارع. الحارة عادت إلى حركتها، الأطفال يلعبون، أشخاص هنا وغيرهم هناك. محلات تَفتح، أناس يحاولون استعادة عملهم. حتى الناس، وإن كانت تقضي مهامها اليوميّة في إزالة الركام وتنظيف المنازل ونفض الغبار وغسل الجدران، إلا أنها توحي بشيءٍ واحد: الناس تُحاول. الناس تعود إلى الحياة.
2025-02-13

المقداد جميل مقداد

كاتب وباحث من غزة


شارك
أحمد السوداني - العراق

أحياناً نضع توقعاتنا الكبيرة حولَ أشياء، لكنَ الواقع يكون أكبر. هكذا وَجدَ الناس مدينة غزّة وشمالها، عند عودتهم إليها، بعد أكثر من عامٍ من الغياب، مرّت فيه بحربٍ طاحنة، كانت الأشرس. كُلّ شيء في المدينة تغيّر، كأنّما أمسكها أحدهُم داخل عُلبة من الزجاج وقلبها قلباً. لا هي المدينة نفسها، لا شوارعها كما نعرفها، ولا حتى أهلها كما نعرفهم.

في المرّة الأولى التي وصلتُ فيها إلى غزّة، لم أعرفها. مرّت السيارة من حي "الشيخ عجلين"، الذي يُفترض أنه من أجمل أحيائها، المُطل على شاطئ البحر من الناحية الجنوبيّة للمدينة. لم أعرف شيئاً. ستُلازمني هذه الكلمة كثيراً في الأيام اللاحقة وأنا أتجوّلُ في المدينة.

حتى بيتي الذي كنتُ أتشوقُ لرؤيته، لم أعرفه. أكلتهُ النار، فبتُّ أمامَ مهمةٍ صعبة لاستكشاف ذكرياتي داخله. اكتشفتُ ملابسي، ومنها غصتُ إلى عُمق الذكريات. في كلّ مرة، أفتحُ مكانًا فيه قطعة من الملابس، أكتشفُ شيئاً جديداً. كلّ يوم ألبس شيئاً جديداً، كأنني أُعيد شكلَ  الحياة. خنقتنا حياة الخيمة والنزوح. كنتُ لوقتٍ طويل ألبسُ الملابس نفسها عدّة أيام، حتى بعضها أنامُ فيها، أذهبُ إلى العمل، وأقضي احتياجات اليوم بالقطع نفسها من الملابس، لصعوبة مهمّة الغسل مع انقطاع المياه.

أمشي في الشوارع. أبدأ من مفترق "حميد"، المفترق الرئيس في منطقتنا، لم أعرفه. مُحي الشارع بكلّ ما فيه، من المفترق حتى يمينه وشماله، ومن غربه إلى داخل الشارع الشهير، الممتد إلى قلب "مُخيم الشاطئ" حيث أسكن. أمشي في شارع "اللبابيدي" ذاهباً إلى العمل... أمضي نحو حي "تل الهوى".. ولا أعرف شيئاً. مررتُ في "مدينة اللحوم" أو ما كانت كذلك سابقاً. للحظة لم أعرف المكان الذي أنا فيه، فقد قلبوا كُلّ ما فيه، كل المباني لا يظهر لها أثر.

هُنا كنتُ أصطفُ بالسيارة، أتسوّق بكل احتياجاتي. هُنا كان الليل جميلًا، الشوارع مضاءة، السيارات تتجوّل قرب "مفترق العائلات" الشهير ذاهبةً إلى وجهتها، غرب أو شرق المدينة، والناس في أبهى سعادتهم، إلى مطعم "الطابون" أو مطعم "الصاج" أو غيرها من المعالم في المفترق.

هل يتخيّل شخصٌ ما، أنني في مدينتي وفي بلدي، في المكان الذي عشتُ فيه، أسأل عن مكانٍ ما؟ أمشي في الشارع، فأسألُ شخصاً داخل منطقة مدمّرة: "هذا شارع الوحدة؟". من يُصدّق؟

تغيّرَ وجهُ المدينة، حتى صار كلّ ما فيها ركاماً ودماراً. وافترشت الخيام شوارعها. ففي أحد الشوارع الرئيسية، كانت أسرة تُحيط مساحةً من الرصيف بـ"الشوادر"، وتضع داخلها خيمتها واحتياجاتها اليوميّة، لتكون ما يُشبه "الحاكورة" الخاصة بها.

صارت الخيام في كُل مكان. مثلًا تحوّل مقر "وزارة العمل" المُدمّر بفعل القصف الإسرائيلي، والذي بقيت منه بعض المباني القليلة، إلى مركز للإيواء. يعيشُ الناس فيه على الركام وداخل غرفٍ اخترقتها القذائف وشظايا الرصاص. وإلى جانبهم تنتشر عددٌ من الخيام، التي أنشأها من لم يجد مكاناً داخل المبنى المُدمّر.

في "ساحة الكتيبة"، أشهر ساحات مدينة غزّة الواسعة، انتشرت خيامٌ أخرى لمؤسساتٍ تسعى إلى إيواء الناس. كذلك، وعلى مدار الشوارع والطرقات، صار هناك ترادفٌ بين اثنين: الخيمة والرُكام. الناس الذين لم يجدوا سوى بقايا بيوتهم، فضّلوا أن يبقوا قربها، لينشئوا خيمةً أمامها، أو يضعوا بعض "الشوادر" على ما بقي منها، إن كان هناك حائط قائم.

مناطق عديدة مُسحت بشكلٍ كامل من الوجود. "مخيم الشاطئ الشمالي" و"المخيم الغربي"، منطقة "تل الهوى"، مناطق: "المقوسي" و"المخابرات"، ومنطقة "مستشفى الشفاء"... مررتُ في اليوم الثالث من العودة فيها، وهي منطقة لي فيها كثير من الذكريات، إمّا من عملٍ قديم أو من كونها الطريق الذي أمرُّ فيه يومياً من البيت إلى العمل والزيارات وباقي لوازم الحياة.

اختفت بالكامل. الشارع لا شكلَ له. البيوت والمباني كُلها إمّا واقعةً على الأرض كما هي، بلا أثر، وإمّا كما يقول الناس هُنا: "زي البسكوت وقعت وتطبّقت"، أو احترقت، أو أخذت نصيبها من الدمار بوقوع الجدران أو السقف أو فتح عددٍ من الفجوات في جوانبها جراء القذائف.

كنتُ أمشي في شارع "ملعب فلسطين"، وهو شارع يبعد عن مكان سكني مسافة 10 دقائق صارت صعبة، مع تهالك الأبنية وتدمير الشوارع بفعل الجرافات والدبابات. أنظرُ من حولي، أبحث عن أثر الدمار في المنازل. أقول هذا البيت "أكلَ قذيفة"، هذا تعرض للقصف، هذا جاءه رصاص الرشاشات، وهذا تأثّر من بقايا قصفٍ بجواره. لكنني، فجأةً وأنا أمشي وأتأمل، اكتشفت أن طريقتي في العدّ والملاحظة اختلفت. صرتُ أعُد المنازل الواقفة أو تلك التي لا ضررَ فيها، وهنا لا يوجد منزل لا ضرر فيه، وإنما أقصد بالمنزل الذي يصلح لأن يعيشَ الناس فيه. مثلًا: المكان الذي لا يتعدّى ضرره سوى وقوع حائط من الأعلى، أو سقوط شظايا على الجدران أو رصاصات فيه، أو احتراق غرفة، يبدو منزلًا جيدًا مقارنةً بغيره. لا مشكلة، يُمكن أن يعيشَ الناس فيه.

كُل شبابيك المدينة سقطت. حتى أنني سخرت من نفسي، إلى الدرجة التي اقترحت عليها أن أؤلفَ كتابًا وأسمّيه "لا شبابيك في منازل هذه المدينة"، على خُطى رواية خالد خليفة "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة". ففي بيتي، سقطت كل الشبابيك، باستثناء جزءٍ واحدٍ من أحدها، لا أعلم إلى الآن كيفَ حافظ زجاجه على صموده. لذلك، وعندما تدور في شوارع البلد، ستلاحظ شيئًا ثابتًا. إمّا شبابيك مفتوحة ونوافذ بلا شبابيك، أو شبابيك سقط زجاجها وحوّلها أصحابها إلى "نايلون"، و"شادر" ليقي السُكان من البرد في فصل الشتاء. هذا ما فعلناه أيضًا.

لاحظت وأنا أمشي في الشارع نفسه، شخصين يمشيان بجانبي، لاحظا نفس المنزل الذي كان نظري يقع عليه. مبنىً صغير، لا يتعدى الطابقيْن مع حديقة خارجية، وقعَ بكلّ ما فيه، إلّا جزءًا بسيطًا بقي من طابقه الأوّل يبدو أنه يُمكن الدخول إليه. بالنظر للمنزل، لا يبدو أن فيه سليمًا سوى غرفة وما يُجاورها، حتى مدخل المنزل دُمّر بالكامل. قال الشخص الذي بجانبي، لصديقه: "والله هاد البيت منيح". ضحك صديقه. لكنهُ قال لا "بقول جدّ. بنفع يقعدوا فيه". نظرتُ إلى المنزل، اكتشفت أنني وافقتهُ الرأي. حتى لو كان المنزل مدمراً وهناك طريقة لدخوله، وفيه جزء لم يقع ركُاماً، يُمكن العيش فيه، فالشخص الذي يجلس على الكُرسي أمام بوابة البيت، يُنذر أن هناك من يسكنه واستصلحَ من بقايا رُكامه شيئاً للحياة.

شخصٌ آخر، في سوق "مخيم الشاطئ"، يبدو أنه اليوم الأوّل لعودته من الجنوب. خرجَ إلى بائع "خبز الصاج"، في المكان، الذي عادَ هو الآخر من الجنوب، وبدأ العمل لأوّل مرة منذ انتهاء الحرب، ليقول له إنّ الحياة أحسن. قال بكلمةٍ سمعتها كثيراً: "رُدّت الروح والله". نظرَ إلى الشارع. الحارة عادت إلى حركتها، الأطفال يلعبون، أشخاص هنا وغيرهم هناك. محلات تفتح، أناس يحاولون استعادة عملهم. حتى الناس وإن كانت تقضي مهامها اليوميّة في إزالة الركام وتنظيف المنازل ونفض الغبار وغسل الجدران، إلا أنها توحي بشيءٍ واحد. الناس تُحاول. الناس تعود إلى الحياة.

لا أزال حتى اليوم أمشي في شوارعها، أمر كلّ يوم بين الركام، أستكشفُ تفاصيلها، لا أتذكر سوى عنوان قصيدة ت.س. إليوت "الأرض الخراب". هذه صارت الأرض الخراب. أتحسّرُ كثيراً وأتألم، كيف صارت هذه المدينة رُكاماً؟ كيفَ سلبوا الحياة؟

مقالات ذات صلة

لكنني وبالمُقابل، لا أزال أسمعُ كلمات أصحابي، كلمات الناس. الكُل يُجمع على شيءٍ واحد. نحنُ نُحب الحياة، لذلك نحاول أن نعود. جولة واحدة في "سوق الصحابة"، الذي صار السوق الأشهر في المدينة الآن، نظراً لأن المنطقة التي فيه من أقلّ المناطق تضرراً خلال الحرب، تقول إنّ الناس تتعطّش للعيش واستغلال الحياة.

هؤلاء الذين يعيشون، يحاولون كلّ صباح من أجل أطفالهم وأهلهم ومستقبلهم. يحبون الحياة، لا يقبلون أن تكون بلدهم "الأرض الخراب"، يُريدونها "بلد الروح"، التي ردّت إلى أهلها بعد عودتهم.

مقالات من فلسطين

حرب الاحتلال على المكتبات

2025-02-13

لا يمكن لهذا التضييق المستمر على الفلسطينيين - إنْ كانوا في غزة أو الضفة أو القدس أو في أي بقعة من فلسطين - أن يمرّ مرور الكرام، ويتم التطبيع معه...

للكاتب نفسه

أفواجُ العودة

حانت لحظةُ العودة. طوفانٌ هائل من الناس مضى في طريقه، فور الإعلان عن انسحاب القوات الإسرائيلية. وبعد حوالي نصف ساعة، كان أوّلُ العائدين يدخل إلى مدينة غزّة. نام عشرات الآلاف...