خُطط توسّع العراق في إنتاج مزيد من الوقود الأحفوري، يعني أن هياكله الحكومية مُترددة في تنفيذ تدابير فعالة، استجابة لمخاوف ارتباط خفض الإنتاج بتناقص نمو "المدخول الوطني" (GDP). لكن وبالمقابل، فلا تزال انشطة توليد الكهرباء والوقود الأحفوري والنقل مسؤولة عن 75 في المئة من الانبعاثات القُطْرية، 40 في المئة منها تأتي من استخراج الهيدروكربون وحده. الاقتصاد الريعي النفطي، وفقاً لسرْدية النظام السياسي، يُعَد أيضاً الأداة الحيوية لمنع مزيد من الاضطرابات الداخلية التي يُحفزها سياقٌ مُزدهرٌ من الفساد والمحسوبية السياسية والفقر والبطالة. 29.6 في المئة (12.27 مليون نسمة) من العراقيين يرزحون تحت خط الفقر، فيما البطالة بين الشباب ارتفعت إلى 35 في المئة. بمراجعة هذه المصفوفات التي تؤشر على تراجع التنمية، ليس المُستغرب أن يكون العراق أحد أشد المعارضين خطة "للخفض أو التخلص التدريجي" من الوقود الأحفوري التي اقترحتها الاتفاقية النهائية ل"مؤتمر الأطراف المعني بتغير المناخ (COP28)" في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.
النظرية الحكومية في تبرير التلوث
تتبع الحكومة العراقية مبدأ أساسياً في تغذية طموحاتها النفطية: زيادة في المعروض من السلع والإنتاج، عبر توسعة الإعفاءات الضريبية، وتخفيف الالتزامات، وذلك لأنها قد تؤدي إلى النمو الاقتصادي. وبالتالي، ترى الحكومة أن زيادة إنتاج النفط، على الرغم من أنه قد يؤدي إلى مزيد من التلوث، لكنه ايضاً سيؤدي إلى تعزيز فرص التنمية.
بموازاة ذلك، ومن أجل منع المستثمرين الأجانب من المغادرة، تقدّم الحكومة لشركات النفط العالمية (IOCs) ، مزيدا من الإعفاءات، كجزء من عقود جولات التراخيص النفطية، مثل الإعفاءات الضريبية، شطب الغرامات، تقليل القيود التنظيمية - والبيئية منها خاصة - في ضوء المخاطر المحتملة العالية لتخارج الشريك الأجنبي من الصناعة النفطية. مثالاً، من المُخطط أن تتخارج شركة "بريتيش بتروليوم" (BP) بعد انتهاء عقد حقل "الرميلة" في 2032. ومع ذلك، تسري تقارير غير مؤكدة (من مصادر خاصة)، بأن BP باعت حصتها إلى "كونسورتيوم بترولي جديد"، ما يعني تخارجاً مُبكِراً غير مُخطط له من الحقل الضخم.
منذ 2010، سعى العراق إلى إعادة بناء صناعته النفطية التي مزقتها الحرب، عبر جولات ومزادات بترولية واسعة النطاق، على أمل أن تقود IOCs عملية تجديد الصناعة. لكن، ومنذ 2018، ظلت IOCs تغادر البلاد على التوالي وسط نقص حاد في المياه، واستمرار الاضطرابات السياسية، والديون غير المُسددة، مع اكتساب الشركات الشرقية، الروسية والصينية، احتياطيات أكبر، على حساب تخارج الشركات الغربية، ما ترك الصناعة محفوفة بالمخاطر. بالنتيجة، وعلى الرغم من مضاعفة العراق لإنتاجه خلال العقد الماضي، وتصنيفه من كبار المنتجين البتروليين العالميين، إلا أن مؤشرات التنمية الوطنية ظلّت مُشابهة لمؤشرات البلدان ذات الدخل المنخفض، مع تمتعه بأعلى معدل لكثافة انبعاثات كربون مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي خلافاً لنظرائه الإقليميين من حيث الدخل، وفقاً لتقرير البنك الدولي عن تغير المناخ والتنمية (CCDR) لعام 2022.
نفط أكثر.. مؤشرات تنمية أقل
على الرغم من مؤشرات التنمية المُتراجعة، واصلت الحكومة سعيها إلى زيادة الإنتاج كثيف الكربون لتمويل الموازنة العامة، مستهدفة زيادة مُخطَّطة لإنتاج 8 ملايين برميل يومياً بحلول 2027، وهو ما يتعارض مع الجهود الحكومية البيئية الموازية، ويقوضها، ويقود إلى تفاقم أزمة الانبعاثات الكربونية، وسط تراجع الغطاء الأخضر اللازم لـ"حبس الكاربون" طبيعياً، نتيجة لتقلص مساحات الأراضي المزروعة أو الصالحة للزراعة من 80 مليون إلى 14 مليون دونم، كاستجابة كارثية للنقص الحاد في المياه.
تعمل الشركات الأمنية المحلية كميليشيات قبَلية قمعية، لدى شركات النفط العالمية. وهي تابعة لعائلات وعشائر مُؤثِّرة، وأحزاب سياسية مرتبطة بالميليشيات الإيرانية، أو الجماعات الشيعية الاخرى. علاوة على ذلك، فإن الشركات الامنية الدولية في حقول البصرة النفطية ضالعة على نحو كبير في إسكات صوت السكان واضطهادهم، في حين يستخدم جهاز الأمن الوطني العراقي (INSS) التكتيكات نفسها بقسوة أكبر.
وكمحاولة لتطوير قطاع النفط العراقي، اقترح البنك الدولي، استناداً إلى التطلعات الأمريكية والغربية لتوسيع مساهمة العراق في سوق الطاقة، "استراتيجية الطاقة الوطنية المتكاملة (2013-2030)"، التي تهدف إلى تحويل العراق إلى "لاعب أساسي" في قطاع الطاقة العالمي والصناعات البتروكيماوية، عبر رفع الإنتاجية إلى 14 مليون برميل يومياً بحلول 2030. استمدت الاستراتيجية التي تشجع الاقتصاد الهيدروكربوني على حساب البيئة، تفاؤلها المُفرط من فرضية توليد ستة مليارات دولار سنوياً تضاف إلى الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، ورفع قدرة الاقتصاد على استيعاب عشرة ملايين فرصة عمل جديدة. لكن البلاد ظلت عالقة في نطاق إنتاج يتراوح ما بين 4 إلى 5 ملايين برميل يومياً، فيما التحول الى "لاعب أساسي" ظلَّ طموحاً مُعلّقاً بتذبذب سقوف الإنتاج.
خصخصة الكهرباء في العراق: الطريق سالكة للنهب
22-02-2017
ولتبرير فشلها في أداء التزاماتها المتعلقة بالمناخ، وتمويل المبادرات البيئية، أشارت الحكومة العراقية إلى فجوة التمويل البالغة 290 مليار دولار وفقاً للسيناريوهات الأقل تكلفة، إلى جانب استنزاف الموارد المالية خلال الحملة العسكرية ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، والإغلاق بسبب (كوفيد-19)، فضلاً عن تقلبات أسعار النفط غير المتوقعة. لذا تفترض الحكومة أن حزمة الظروف المفاجئة قد أعاقت أهداف العراق للتنمية المستدامة وتحفيز مستقبل أكثر مسؤوليةً بيئية.
التكلفة البشرية لملوثات الوقود الأحفوري
تشكل الانبعاثات الغازية الجوالة، تهديداً مضافاً على بيئة العراق، خاصةً في البصرة وعموم جنوب البلاد. ثمة تدهور واضح في الصحة العامة للرأس المال البشري هناك، بيّنما المؤشرات الحكومية المُعدة للتداول المحلي أو لصنّاع القرار الدوليين، غالباً ما تخلو من أي اعتراف بملوِثات الاستخراج النفطي ومحروقات الغاز المهدورة.
مُنذُ نحو عقد تقريباً، في 2015، اقترحت "مفوضية الطاقة الأوروبية" خفض مستويات حرق الغاز، واستخدام الوقود الثقيل لتوليد الكهرباء، لتقليل انبعاثات الكربون بنسبة 25 في المئة في العراق. على الرُغم من ذلك، زادت الانبعاثات بمستويات تخطت المعايير القياسية العالمية، لاسيما في مناطق الإنتاج - جنوب البلاد - التي شهدت تصاعداً في الإصابات الناتجة عن "التلوث المُستدام" بسبب الحرق الكثيف للغاز المصاحب.
بسبب الزيادة المفرطة في نشاط التلوث البيئي المرتبط بالنفط وحرق الغاز المُصاحب، يؤكد "المجلس العراقي للسرطان"، أن انتشار الأورام قد زاد على نحو متسارع وكبير ما بين 2003 و2020. إذ تشهد البصرة، مركز إنتاج الوقود الأحفوري، ارتفاعاً سنوياً مُفرِطاً، بنسبة 7.38 في المئة لكل 100 ألف شخص. بيّنما سجلت المدينة أعلى معدل إصابة قُطْرية بين الأطفال دون سن 15 عاماً، بمعدل 14.93 في المئة لكل 100 ألف شخص. مفوضية حقوق الإنسان في البصرة، كشفت في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، عن أن 9000 شخص يصابون بالسرطان سنوياً، 60 في المئة منهم يقيمون بالقرب من حقول النفط.
انشطة توليد الكهرباء والوقود الأحفوري والنقل مسؤولة عن 75 في المئة من الانبعاثات القُطْرية، 40 في المئة منها تأتي من استخراج الهيدروكربون وحده. الاقتصاد الريعي النفطي، وفقاً لسرْدية النظام السياسي، يُعَد أيضاً الأداة الحيوية لمنع مزيد من الاضطرابات الداخلية التي يُحفِّزها سياقٌ مُزدهرٌ من الفساد والمحسوبية السياسية والفقر والبطالة.
سعى العراق منذ 2010 إلى إعادة بناء صناعته النفطية التي مزقتها الحرب، عبر جولات ومزادات بترولية واسعة النطاق، على أمل أن تقود IOCs عملية تجديد الصناعة. لكن، ومنذ 2018، ظلت شركات النفط العالمية تغادر البلاد، وسط نقص حاد في المياه، واستمرار الاضطرابات السياسية، والديون غير المُسددة، مع اكتساب الشركات الشرقية، الروسية والصينية، احتياطيات أكبر.
غالباً ما تَتَجول سحائب من غاز "الميثان" في أجواء البصرة نتيجة الاستخراج غير النظيف للبترول. في 2018، تم إحراق غاز في دائرة نصف قطرها 70 كيلو متراً ضمن البصرة، وهو ما يتجاوز إجمالي حجم إحراق الغاز للفترة نفسها في المملكة العربية السعودية والصين وكندا والهند مجتمعة. في تموز/ يوليو 2021، كشفت (Kayrros)، وهي شركة مقرها "باريس"، وتُحلِّل بيانات الأقمار الصناعية لوكالة الفضاء الأوروبية لتعقب الانبعاثات، عن أن حقلاً غرب البصرة أطلق "ميثاناً" بمعدل 73 طناً مترياً في الساعة، عقب إطلاقات "ميثانات" مماثلة في حزيران/ يونيو 2021، في منتصف المسافة بين البصرة وبغداد، بمعدل 181 و197 طناً في الساعة. كفكرة تقريبية، يتسبب متوسط الانبعاثات السنوية في المملكة المتحدة لأكثر من 200 ألف سيارة في احتباس حراري يعادل 180 طناً مترياً من "الميثان".
وعلى الرغم من عدم قانونية حرق الغاز ضمن حدود 10 كيلو مترات من المباني السكنية بموجب القانون العراقي، إلا أن السكان في حقل الرميلة صاروا غير قادرين على التحرك بحرية أو جلب مواد بناء لعزل منازلهم عن الدخان المُسرطِن المنتشر في الهواء، بسبب الطوق الامني المُشدد المفروض على الحقل الضخم. تسببت ادخنة النفط الملوثة في حدوث وفيات بمعدل ينذر بالخطر. تقوم IOCs التي تُشغِّل حقول النفط المختلفة في البصرة - سواء في "الرميلة" ( الحقول الشمالية أو الجنوبية)، أو في حقل "مجنون"، أو حقلي غرب القرنة 1 و2، أو حقل "نهر بن عمر" - بالتعاقد مع شركات أمنية محلية لضمان السلامة. ومع ذلك، يتم تكليف الشركات الأمنية المحلية بقمع أو تهجير أو ترويع السكان المحليين، إذا ما حاولوا اتخاذ إجراءات ضد IOCs بسبب التلوث البيئي.
تعمل الشركات المحلية كميليشيات قبَلية قمعية لدى IOCs، تابعة لعائلات وعشائر مُؤثِّرة وأحزاب سياسية مرتبطة بالميليشيات الإيرانية أو الجماعات الشيعية الاخرى. بيَنما استحوذت شركة روسية تعمل في حقل غرب "القرنة"، على 49 في المئة من أسهم شركة أمنية عراقية متورطة بارتكاب مخالفات أمنية وقانونية واسعة النطاق. علاوة على ذلك، فإن الشركات الامنية الدولية في حقول البصرة النفطية ضالعة على نحو كبير في إسكات صوت السكان واضطهادهم، في حين يستخدم جهاز الأمن الوطني العراقي (INSS) التكتيكات نفسها بقسوة أكبر.
تدابير بيئية مشحونة سياسياً
على الرغم من الأذى البيئي للنشاط الهيدروكربوني المُتزايد، وبموازاة الأطنان المتراكمة من الملوثات التي تسوح في سماء العراق، مسببةً امراضاً مستعصية لسكانه وارتفاعاً حرارياً مُفرطاً، فإن العراق يفتقر الى جرد وطني مُحدَّث لانبعاثاته الدفيئة، إذ لا يزال يعتمد "جرد الانبعاثات الوطنية للعام 1997". وفي الوقت نفسه، لا يمتلك العراق، سواء في هياكله المؤسسية البيروقراطية، أو في دوائر صُنّاع القرار من السياسيين والمجموعات النيابية، النيّة او التخطيط لصياغة وتشريع قوانين لتنظيم انبعاثات الكربون المتولدة من حقول النفط والغاز، أو "أكاسيد النيتروجين" والكبريت المنبعثة من محطات توليد الطاقة الكبيرة والمُتقادمة، التي تحرق النفط الخام عالي الكبريت وزيت الوقود الثقيل.
يُصنَف العراق كثاني أكبر دولة في العالم من حيث حرق الغاز بعد روسيا، بما يعادل 1.7 مليار قدم مكعب يومياً، مُقترناً بأعلى مستوى من انبعاثات أحفورية ومشاكل جودة هواء خطيرة. يعد حرق ما يقرب من 570 مليار قدم مكعب سنوياً من الغاز الحر مساهماً كبيراً في التلوث السريع والمدمر في البلاد. في 2020، مَثَّل حرق الغاز المهدور في العراق حوالي 2.5 مليار دولار من القيمة السنوية المفقودة، ما كان كافياً لتوليد أكثر من 10 جيغاوات من الطاقة التي تشتد الحاجة إليها. وفي الوقت نفسه، يستورد العراق ما يصل إلى مليار قدم مكعب يومياً من إيران لتوليد الطاقة.
اقترح البنك الدولي، استناداً إلى التطلعات الأمريكية والغربية لتوسيع مساهمة العراق في سوق الطاقة، "استراتيجية الطاقة الوطنية المتكاملة (2013-2030)"، التي تهدف إلى تحويل العراق إلى "لاعب أساسي" في قطاع الطاقة العالمي والصناعات البتروكيماوية، عبر رفع الإنتاجية إلى 14 مليون برميل يومياً بحلول 2030.
تشكل الانبعاثات الغازية الجوالة، تهديداً مضافاً على بيئة العراق، خاصةً في البصرة وعموم جنوب البلاد. ثمة تدهور واضح في الصحة العامة للرأس المال البشري هناك، بيّنما المؤشرات الحكومية المُعدة للتداول المحلي أو لصنّاع القرار الدوليين، غالباً ما تخلو من أي اعتراف بملوِثات الاستخراج النفطي ومحروقات الغاز المهدورة.
وبالتالي، يرتبط السياق الجيوسياسي للصراع في المنطقة، ارتباطاً وثيقاً بالأزمة البيئية العراقية. إذ تَحوَلَ اعتماد العراق على واردات الغاز الإيرانية لتلبية توليد الكهرباء، الى جزء مُعقَّد من التوتر السياسي بين إيران والولايات المتحدة. وعلى الرغم من الإعفاءات الدورية المؤقتة التي تمنحها واشنطن لبغداد من أجل استمرار شراء الطاقة، إلا أن الولايات المتحدة طلبت من العراق تحقيق "استقلالية الطاقة"، والبحث عن مصادر بديلة متنوعة بعيداً عن طهران، وهو ما يُفسِّر تسارع خطوات العراق البيئية المُسيّسة لهيكلة مسار حرق الغاز المتواتر، من بينها خطة مقترحة أعدتها شركة "Gaffney و Associates & Cline" في 2018 لحكومة العراق، على مدى خمسة أعوام لتحويل الغاز الى طاقة بكلفة أكثر من 44 مليار دولار.
في 2021، وبسبب الضغط المباشر من الولايات المتحدة، بدأ العراق خطة سياسية خمْسية تهدف إلى الاستثمار في الغاز المصاحب حتى العام 2026، عبر إضافة 400 مليون قدم مكعب يومياً إلى إنتاج "شركة غاز البصرة" ما بين 2023-2024، ومن ثم زيادة المعدلات إلى 2.6 مليار قدم مكعب يومياً بحلول عام 2026، بهدف رئيس يتمثل في وقف استيراد الغاز الإيراني، وبالتالي قطع التمويل. بالنتيجة، لم تكن أهداف الخطة ذات دوافع بيئية. سُرعان ما أدرك المسؤولون العراقيون أن احتجاز الكربون "مكلف للغاية"، ولا يمكن اعتباره حلاً وطنياً، لذا تم جدولة تحييد حرق الغاز إلى العام 2028، وخفض "الميثان" بنسبة 30 في المئة بحلول العام 2030.
عوائق تشريع سياسات مناخية لتحييد الكربون
أولى العقبات الصلبة التي تعيق تطوير سياسات مناخية حكومية، تتمثل في عدم إحراز تقدم في سَنِ إطارٍ تنظيمي تأسيسي، حيث إن "قانون النفط والغاز الاتحادي" ظل مركوناً منذ 18 عاماً، بسبب الخلافات حول امتيازات الثروة والإيرادات والاستثمار وصلاحيات التصدير، بين الحكومة الفيدرالية العراقية وأكراد الشمال. تأخُر التشريع يعيق تطوير إطار تنظيمي شامل يهدف إلى التخفيف من الاعتماد المفرط على اقتصاد الوقود الأحفوري.
العائق الأساسي الثاني لتشريع "قانون الحماية البيئية" أو خفض البصمة الكربونية، هو أن هذا التشريع سيصطدم برغبة النظام السياسي المُلحة في زيادة الإنتاج النفطي، من أجل تدفق المزيد من الأموال لتمويل الموازنة العمومية، وتوسعة شبكة زبائنية الدولة والجماعات السياسية لتهدئة الاضطرابات عبر توفير مزيد من الوظائف الريعية، وفي الوقت نفسه، يفسح المجال واسعاً أمام الجماعات السياسية والمسلحة للانخراط في الفساد مع ضمان الإفلات من العقاب.
عندما تنتحر الأرض جزعاً ممن يحكمها
03-08-2023
العقبة الثالثة تتمثل في المقاومة الشرسة من جانب IOCs. إذ إنَّ مطالبة شركاء الإنتاج النفطي باتخاذ المزيد من التدابير البيئية الحمائية يعني زيادة تكاليف الإنتاج المرتفعة اصلاً، مما قد يؤدي إلى تخارجهم من الحقول العراقية، نظراً لانخفاض الربحية وارتفاع مستويات المخاطر، مع قانون بيئي قد يفرض غرامات وتعويضات كبيرة على المنتجين. التهديد بـ "هروب رؤوس الأموال" هو استراتيجية النظام السياسي في تعزيز سرّديته وخطابه المناهض للبيئة من أجل تبرير إنتاج مزيد من الوقود الأحفوري.
سياسة التناقض والإنكار
إذا كانت الاستراتيجية العالمية للحد من تغير المناخ تعتمد على "التخفيف" و"التكيف"، فقد يُنظَر إلى النموذج العراقي باعتباره النموذج القائم على "التناقض" و"الإنكار". حتّى صار الخطاب الرسمي يتعامل مع الأزمة البيئية على أنها "أزمة سياقية"، تندرج ضمن أزمات البلاد التي يتم القفز عليها عبر تخليق أزمات جديدة. ووفقاً لتوصيف UNESCO ("تقرير إدارة الجفاف" - 2014)، فإن العراق يتعامل مع مشاكله البيئية عبر "إدارة الكوارث" بدلاً من "إدارة المخاطر"، ما يؤشر على تشوه إدراكي وبنيوي عميق في أنماط تفكير الدولة وهياكل صنع القرار المتشعبة التي تفتقر إلى المساءلة والحوكمة.
أدت الأزمة البيئية المستمرة إلى اتباع نهج إشكالي، وأطلقت مقاربة تمييزية حادّة قائمة على المفاضلة: بين عدم قدرة العراق على ضبط حركة سكانه الهاربين من قسوة المُتغيّر البيئي، والسياسات المتخوِفة من تحوّل العراق الى منطقة طاردة مناخياً في المستقبل المنظور. لذا، سياسة "التناقض والإنكار" تهدف الى منح ضمانة للعملاء الدوليين، بأن العراق سوف يستمر كنقطة إنتاج أحفوري مُتصاعِدة بغض النظر عن المديات المُخيفة لتسارع الانهيار البيئي.
استجابة لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC)، تعد وثيقة "المساهمات المُحددة وطنياً بشأن تغير المناخ (NDCs)" الإطار المؤسسي الرسمي الأساس للتعامل مع الأزمة البيئية والتلوث الكربوني. مع ذلك، لا يزال العراق بحاجة إلى تحسين معاييره في التشريعات والقوانين المتعلقة بالمياه، والحفاظ على البيئة، وتقليل الملوِّثات والانبعاثات الناتجة عن النشاط النفطي أو إنتاج الطاقة. لكن بمساعدة مؤسسية من الحكومة العراقية، وجدت IOCs المُسيطِرة على حقول الاستخراج، ثغرات قانونية لتجنب الكشف عن مديات حرق الغاز، وتأثير ملوثاتها، والعواقب البيئية الضارة الناتجة عنها.
وفَّر الفساد المؤسسي المستشري في العراق غطاءً شاملاً لـ IOCs للتخلي عن الالتزام بالضوابط البيئية، عبر معادلة: المزيد من التلوث يقابله المزيد من الإنتاج.
الطبيعة الزبائنية للفساد في العراق وتوسع النشاط الاستخراجي إلى المناطق المأهولة، (جولتا التراخيص الخامسة والسادسة مثالاً)، خلقت اقتصاداً موازياً يعتمد على التشارك في استغلال التوسع النفطي والتلوث من قبل IOCs والسكان المحليين على حدٍ سواء. تدعم الحكومة IOCs عبر تحصين مناطق الإنتاج باعتبارها "أراضي نفطية مُحرَّمة" وفقًا لقانون الحفاظ على الثروة الهيدروكربونية رقم (84) لسنة 1985. وكحل متاح وسريع الاستجابة، يقوم السكان المحليون بمساومة IOCs للحصول على وظائف وعقود تجارية ولوجستية وأمنية مقابل استمرار تعرضهم لمزيد من التلوث.
تُمثل البصرة مثالاً صارخاً يوضح الأثر الضار لسياسات الدولة العراقية الطاقية الطائشة. لقد تحولت البصرة إلى بؤرة للتلوث الشديد، وحالياً تحتل "أراضي المُحرَّمات النفطية" جزءاً كبيراً من أراضيها، التي صارت تتعرض الى تجريف واسع للمناطق الزراعية واعتداءات على مصادر المياه السطحية. تهدف هذه الإجراءات إلى تجريف البساتين والمناطق المحيطة بحقول النفط، مما يتسبب في نزوح السكان وتعميق التغيرات البيئية، ليقود في النهاية إلى مزيد من الاستخراج غير النظيف.
مشاركة الحكومة العراقية في المبادرات البيئية والمناخية، وسياسات الطاقة النظيفة العالمية، قد توحي أو تعطي انطباعاً بأن البلاد ملتزمة بالانتقال إلى مصادر طاقة أنظف. لكن، الحديث عن التحوُّل الطاقي قبل إعداد السياسات المتعلقة بها، ووضع الإطار التنظيمي لضمان نجاحها، يُعدُّ بمنزلة السير الثابت بعكس المسار، مُلقياً بظلال الشك على جدية الالتزامات الحكومية. إذ لا تخضع صناعة النفط لعقوبات صارمة أو متطلبات بيئية، حيث تفتقر وزارة البيئة إلى الاعتراف المؤسسي المطلوب من وزارة النفط والمستثمرين الأجانب لإنفاذ معاييرها.
في 2015 انضم العراق إلى تحالف المناخ والهواء النظيف (CCAC)، ضمن صفقة مُسيّسة ومشروطة لخفض الانبعاثات بحلول 2030 - 2035 ما بيّن 1 الى 2 في المئة فقط، كمساهمة وطنية من طرف واحد تمثِّل حالة الإنكار الحكومي لحجم الغازات الأحفورية، وقد ترتفع الى 15 في المئة مشروطة بحصول العراق على 100 مليار دولار كتبرعات من المجتمع الدولي مقابل "خفض الانبعاثات وتكييف القطاعات وتحقيق الأمن".
وعلى الرغم من مشاركة العراق في "مؤتمر باريس للمناخ" 2015، بثلاثة وفود حكومية متنافرة، مَثّلت تصدع المؤسسية الوطنية، فهو لم يستطع التوقيع على "اتفاق باريس" حتى أوائل 2021، لعدم جدولة الأزمة المناخية ضمن أولويات الصراع السياسي الناشب في البلاد، والخشية من تأثر الوتيرة المتصاعدة للإنتاج البترولي وإطلاقاته الكثيفة من "الميثان"، والحرق اليومي للغاز المُصاحِب، ما يفسر معارضة العراق الشديدة في مؤتمرات الأطراف الثلاثة الأخيرة: COP27 وCOP28 وCOP29، للتخفيف والتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، فضلاً عن ادعاءات أن "ذلك يتعارض مع مبادئ اتفاق باريس". لذا أثنت الحكومة على "المفاوِضين الوطنيين" لجهودهم في حماية دور الوقود الأحفوري في التنمية، ومنع اعتماد "النصوص الضارة"، التي كانت تدفع بها بعض الدول، والتي من وجهة نظر الحكومة "ستضر بمصالح الشعب العراقي".
لا يزال العراق بحاجة إلى تمويل مُناخي قُطري مُستقل. على الرغم من إعلانات الحكومة عن اعتماد مسار استباقي خلال "مؤتمر المناخ في العراق"، الذي عُقد في المدينة الأكثر تأثراً بالإنتاج الكثيف للكربون، البصرة، في آذار/ مارس 2023. إلا إن التقرير الوطني الطوعي الثاني لتحقيق أهداف التنمية المستدامة لم يشمل تعزيز البيئة ومكافحة تغيّر المناخ. بالمقابل، خصصت الحكومة 255 مليون دولار فقط لدعم استراتيجية العراق الرابعة للأمم المتحدة، التي تركّز على تحسين الموارد الطبيعية، وإدارة مخاطر الكوارث، والتخفيف من آثار تغير المناخ. وفي الوقت نفسه، ف"رؤية البقاء" وتعزيز الاستثمارات النظيفة التي اقترحها البنك الدولي، تفترض أن العراق بحاجة إلى 233 مليار دولار بحلول 2040.
تضاؤل مشاركة المجال العام
يؤشر غياب مشاركة المجتمع المدني في قضايا المناخ إلى تآكل المجال العام باعتباره مساحة للنشاط الاجتماعي ضد عنف النظام وإفلات أدواته من العقاب. ومما يثير القلق، إحجام المجتمعات المحلية عن التعبئة ومقاومة التوسع في إنتاج الطاقة الملوثة، كحرق كميات كبيرة من الغاز في البصرة. يشير ذلك الإحجام إلى نهج انتقائي للتعبئة البيئية وانحياز إلى سردية الدولة، التي تُعطي الأولوية لزيادة الإنتاج من أجل خلق فرص العمل، مع تجنب المناقشات حول العواقب البيئية لإنتاج النفط والثروة الوطنية. نتيجة لذلك، تمَّ تحويل التركيز عن الكوارث البيئية التي تسببها حقول الإنتاج. لكن بشكل عام، تعمل المنظمات البيئية غير الحكومية في العراق غالباً ضمن الحدود التي تضعها الدولة، وتتوافق أحياناً مع نهجها، مما يؤدي إلى تسييس القضايا البيئية.
التلوث محمي بقوة القانون والسُلطة الغاشمة. إذ تُسجل البصرة ومناطق أخرى، مثل "ذي قار"، ارتفاعاً مخيفاً في أعداد المصابين بالسرطان أو المرشحين للإصابة به. بالمقابل، تَمنع السُلطات أي نشاط احتجاجي مرتبط بوقف عمليات الإنتاج المُدمِّرة أو خفضها.
سجلت البصرة أعلى معدل إصابة قُطْرية بالسرطان بين الأطفال دون سن 15 عاماً، بمعدل 14.93 في المئة لكل 100 ألف شخص. مفوضية حقوق الإنسان في البصرة، كشفت في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، عن أن 9000 شخص يصابون بالسرطان سنوياً، 60 في المئة منهم يقيمون بالقرب من حقول النفط.
غالباً ما تَتَجول سحائب من غاز "الميثان" في أجواء البصرة نتيجة الاستخراج غير النظيف للبترول. في 2018، تم إحراق غاز في دائرة نصف قطرها 70 كيلو متراً ضمن البصرة، وهو ما يتجاوز إجمالي حجم إحراق الغاز للفترة نفسها في السعودية والصين وكندا والهند مجتمعة.
إحدى الطُرق لإسكات المُدافَعة البيئية، هي استخدام أدوات مكافحة الفساد. في آيار/ مايو 2024، ألقي القبض على مدير "بيئة البصرة" "راضي محمد راضي"، بتهمة الفساد، بعد شهر واحد فقط من تعيينه. كان الدافع الرئيس، رفع "راضي" دعوى قضائية ضد IOCs في "حقل مجنون"، بسبب تزايد حالات الإصابة بالسرطان بين السكان المحليين والعاملين في الحقل. بالمقابل، فمافيات النفط المرتبطة بالجماعات القبلية مارست ضعوطاً كبيرة على "راضي"، الذي فشلت جميع محاولاته لتفتيش المواقع النفطية بموجب أوامر قضائية. منعت الشركات الأمنية والمجموعات القبلية المتحالفة مع IOCs دخول فرق التفتيش البيئي إلى النقاط التي تشهد ارتفاعاً مطردا في معدلات التلوث، ومخالفة المعايير البيئية. أعلنت السلطات بعد ذلك عن أنها اتهمت "راضي" بالفساد، وهو مؤشر مثير للقلق على أن السلطات تستخدم مكافحة الفساد لإسكات الأصوات والقضايا المتعلقة بالدفاع عن البيئة.
العراق: إشكاليات الحداثة والريع
14-04-2016
دولة الريع العراقية
05-02-2015
كمُحصلة نهائية، سيؤثر تحوُّل العراق إلى اقتصاد منخفض الكربون على الوظائف والأنشطة التي تعتمد على إنتاج النفط، مما قد يُفجِّر مواجهات يمكن أن تهدد الاستقرار السياسي للبلاد، وتؤدي إلى تغيّرات اقتصادية واجتماعية عميقة. نتيجة لذلك، تَتَردد الحكومة العراقية في الانخراط في عمليات تحول أخضر واسعة النطاق، لا تتماشى مع اعتماد المجتمع الريعي على الأموال الحكومية، وإيمانه بمركزية الدولة. لذا فإنتاج الوقود الأحفوري سيستمر في الهيمنة على المسار البيئي للبلاد، وتنامي تعقيداته.