"منشية البرج": ذكريات حيّة تحت ركام المباني

اليوم، يمضي شهر على بدء استهداف "برج البراجنة" بشكل شبه يومي بأطنان من المتفجرات الأميركية، التي يرمي بها الصهاينة المباني السكنية والشوارع. يتعذر وصول الصور من الأماكن المقصوفة، وتكتفي المحطات الفضائية بعرض مشهد شامل للضاحية الجنوبية. لا يمكن التكهن بما دمره العدو وما لم يستهدفه.
2024-10-31

عماد الدين رائف

كاتب وصحافي من لبنان


شارك
دمار في "برج البراجنة"، لبنان.

يدور شاب بهاتفه، عكس اتجاه عقارب الساعة، مسجلاً مقطع فيديو. حوله ركام أبنية أحد شوارع حي المنشية في برج البراجنة من ضاحية بيروت الجنوبية. أدور معه، أتأمل المكان المغطى بالدخان وموجات من الغبار الكثيف، أحاول عبثاً أن أستفز الذاكرة كي تستحضر صور المباني، كيف كانت قبل قصفها من قبل العدو الإسرائيلي ليلاً. أتمكن من تحديد مكان مكتب المختار عبد العزيز الحركة. أشاهد الفيديو مرة أخرى، على وقع لهاث الشاب المصوِّر وترداده بصوت أجش عبارة "أول مرّة. يا الله. أول مرّة".

خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، كرر العدو الصهيوني استهداف برج البراجنة، بشكل شبه يومي، مستبيحاً بتفوقه الجوي والبحري معظم أحياء هذه البلدة التابعة إدارياً لقضاء بعبدا. بالفعل، ما قاله مصوِّر الفيديو القصير صحيح، فهي المرة الأولى التي يستهدف فيها العدو المباني السكنية في "منشية البرج"، بل في البلدة كلها- إذا ما استثنينا تدمير مجمَّعين للمقاومة في عدوان 2006 على تخومها.

تخونني الذاكرة في إعادة رسم المنطقة كما كانت قبل تدميرها، لكنها تعيدني إحدى عشرة سنة إلى الوراء، وأنا أقف أمام شباك مستطيل صباح يوم ربيعي، أنظر إلى المنشية من جهة الشرق. كنت أودّع شقتي المستأجَرة التي تركتها قسراً، وأحدّق في البقعة الخضراء الوحيدة التي لم تلتهمها مكعبات الإسمنت. حديقة منزلية نموذجية، لكنها مهملة، تضم بضع نخلات وأشجار مثمرة أخرى، بينها توتة ضخمة معمِّرة من زمن دود القز والحرير، وجَلٌّ غزته الأعشاب وبركة ماء، وبقربها أطلال منزل من طبقة واحدة ذي قناطر وشرفة واسعة. بدت المساحة الخضراء تنازع، مطلقة نقيق ضفادع بركتها، وهي محاصَرة من جميع الجهات بأبنية ضخمة، ظهرت أثناء الطفرة العمرانية في سنوات الحرب الأهلية، وفي العقود الثلاثة الأخيرة. أبنية ضخمة تفتقر إلى الذائقة المعمارية حلت محل الدور التقليدية الجميلة وحدائقها المسيجة بالصبّار (التين الشوكي).

زحف الإسمنت

في سنوات الحرب الأهلية، إثر اجتياحي 1978 و1982، تدفقت إلى المنطقة جموع النازحين من الجنوب اللبناني طلباً للأمن، وتضاعفت الكثافة السكّانية مرات ومرات. لكن لا يُخفى أن سبب النزوح الدائم، قبل تلك الحرب وأثناءها، كان اقتصادياً - معيشياً من الجنوب والبقاع المحرومين من التنمية، حين كان ينزح أهالي المحافظتين إلى أقرباء لهم سبقوهم إلى المنطقة، وكان هدفهم تأمين أدنى مقومات العيش بعدما حرمتهم دولتهم منها في قراهم البعيدة.

وقد استقبلت برج البراجنة النازحين "القبالوة" (جمع قبلاوي أي من أهل الجنوب، نسبة إلى جهة القِبلة) و"البعلبكية" (أهل البقاع، نسبة إلى مدينة بعلبك، كبرى مدنه). ولأسباب اقتصادية أيضاً، تتعلق بفقر أهل برج البراجنة بشكل عام، وتحت ضغط حاجتهم إلى المال من جهة، وبجشع التجار وعدم مبالاتهم بالعمارة كثقافة، من جهة أخرى، اختفى معظم تلك الدور التقليدية وحدائقها إلى الأبد، وطُمس وجه البلدة الصغيرة لتتحول إلى جزء غير محدد المعالم من كتلة إسمنتية ضخمة هي "ضاحية بيروت الجنوبية"، التي ابتلعت أخوات برج البراجنة (حيث "المنشية" و"تحويطة الغدير" و"الرويس" و"الرمل العالي" و"الأوزاعي")، أي "حارة حريك"، و"المريجة"، و"الليلكي"، و"سقي الحدث"، و"الغبيري"، انتهاء ب"الشياح".

أحاول عبثاً أن أستفز الذاكرة كي تستحضر صور المباني، كيف كانت قبل قصفها من قبل العدو الإسرائيلي ليلاً. أتمكن من تحديد مكان مكتب المختار. أشاهد الفيديو مرة أخرى، على وقع لهاث الشاب المصوِّر وترداده بصوت أجش عبارة "أول مرّة. يا الله. أول مرّة". 

على عتبة الاجتياح الصهيوني لبيروت صيف 1982، كانت للمنشية ساحة مسيَّجة بسياج حديدي قصير، يمر طريقان من جانبيها. كيف اختفت هذه الساحة ومتى؟ كنتُ طفلاً أقف أمام والدي وهو يقود دراجته النارية من نوع "فيسبا"، أتمسك بالمقود وتسير تلك الساحة أمام عيني إلى الخلف. وكانت الوالدة تقودني وأخوتي إلى المنشية لزيارة أقرباء لها، وكنا نظنّ أن لفظة "منشية" مشتقة من "المشي"، لأن أهل المنطقة كانوا يتمشون على جانبي ساحتها حيث تنتصب محال تجارية من طبقة واحدة ذات أقواس وعقد.

لا تختلف المحال بعضها عن بعض من حيث الشكل، إلا أن أجملها محل حوّله مستثمره الدمشقي (ربما)، إلى محترف لصناعة طاولات الزهر (النرد). هناك يمكن للدهشة أن تصل إلى أعلى مستوياتها حين اكتشفت طفلاً كيف تُصنع زخرفات "الأرابيسك" الهندسية المنمنمة من عيدان خشبية ملونة يضمّها حرفي بعضها إلى بعض بشكل متقَن، ثم يقص بمنشار صغير طبقة رقيقة منها ليجمعها معاً، مكوناً منها فسيفساء رائعة.

المنشية المقاوِمة

"المنشية" ليست من المشي طبعاً، بل من اللفظة العربية "منشأة"، وربما وردت اللفظة إلى بلاد الشام بتخفيف الهمزة وتحويلها إلى ياء من الاسكندرية المشهورة بمنشيتها، مع حملة إبراهيم باشا مطلع ثلاثينيات القرن التاسع عشر، فباتت الأحياء المستحْدَثة الملحَقة بالمدن والبلدات تسمى منشيات كما في يافا وعكا وطرابلس الشام.

مقالات ذات صلة

وقد كمنت أهمية ساحة منشية البرج، لبضعة عقود، مطلع القرن العشرين، في أن الطريق المعبّد كان ينتهي عندها. وبعدها كان الطريق لجهة الجنوب يستمر ترابياً، ثم ينعطف (حيث مركز "الأمن العام" والقصر البلدي اليوم)، ثم يحط في ساحة أخرى هي ساحة "عين السكة"، التي نالها نصيباً من القصف الصهيوني أيضاً.

بعد الاحتلال الفرنسي، أواخر العقد الثاني من القرن الماضي، لا بد أن هذه الساحة كانت مُغرية لتنظيم احتفال سياسي، فعلى الرغم من رفض الأهالي للاحتلال ومبايعتهم الحكومة العربية الفيصلية في دمشق، نظّم أحد الوجهاء المحليين احتفالاً للترحيب بالجنرال "غورو"، كما ذكر المربي "محمد قاسم كزما" الذي كان في السادسة من عمره يومها.

زيّن الوجيه الطريق من محلة "الرويس" إلى الساحة بالأعلام الفرنسية وسعف النخل والزهور "متحدياً مشاعر الأهالي". يقول كزما: "قبل مجيء الجنرال الفرنسي اقتحم الشاب "سليمان فرحات" مكان الاحتفال، حاملاً بارودة (بندقية) "المعدّل" ومتمنطقاً بكمر (حزام) مشكوك بالرصاص، وفي نيته تخريب الزينة وتمزيق الأعلام الفرنسية، إلا أن منظِّم الاحتفال واثنين من أخوته استطاعوا إبعاده عن المدخل. وهنا أفلت الشاب المسلح مع زميل له من آل "حاطوم" واختفيا عن الأنظار. وما هي إلا دقائق معدودة حتى رأيناهما يطلان علينا من أعلى مئذنة الجامع، وينتظران مجيء الجنرال "غورو" ليقضيا عليه رمياً بالرصاص. في هذه اللحظة وصلت إلى الساحة سيارة من "فورد أبو دعسة" ونزل منها، ونزل منها شاب أنيق بلباس مدني يرافقه عسكريان، عرفنا فيما بعد أنه أمين سر المفوضية الفرنسية العليا وأنه جاء مستطلعاً الحالة. فلما رأى أن "الحديدة حامية" وسمع رصاصة واحدة أطلقت في الهواء ترهيباً، عاد أدراجه بسرعة ليخبر سيده الجنرال بالخطر الذي ينتظره في برج البراجنة".

حكاية الطريق

استشاط منظم الاحتفال المذكور غيظاً، ونفهم من بعض العبارات التي أوردها كزما عن لسانه أن الجنرال "غورو" كان قد تكفّل أن "يشق طريقاً جديداً معبداً من ساحة "حارة حريك" إلى ساحة "عين السكة" بعد أن يسوّي نهر القسيس" (لم يعد له وجود اليوم)، وأنه بسبب إفشال الاحتفال لن يُشق الطريق. أي أن طريق المنشية كان الطريق الوحيد المعبد في "برج البراجنة" يومذاك. وكان حديث العهد، إذ لم يمض على شقه وتعبيده أكثر من ثلاث سنوات، وفق لوحة تذكارية كانت منصوبة في ساحة المنشية، "في عهد المتصرف "إسماعيل حقي بك"، سنة 1916، بمساعي وهمة المحامي "مصطفى أفندي رضا".

مقالات ذات صلة

من الجدير ذكره أن انتماء "برج البراجنة"، ضمن بلدات ساحل المتن الجنوبي، إلى متصرفية جبل لبنان بعد أحداث 1860، لم يعد عليها بأي نوع من أنواع التنمية التي نعمت بها قرى وبلدات الجبل لنحو ستة عقود من الزمن، أي أن المثل السائر "نيال اللي عندو مرقد عنزة بلبنان" لا يعنيها من قريب أو بعيد، فمعظم أهلها كانوا بين الفقر والفقر المدقع. وكان على أهالي البلدة أن ينتظروا زمن الحرب الكونية، حين تجاهلت الدولة العثمانية نظام المتصرفية الذي أقره القناصل، وعينت بشكل مباشر متصرفاً من موظفيها الإداريين، أي "إسماعيل حقي مفتي زاده" (1870-1922)، الذي شق هذا الطريق وعبّده.

اليوم، يمضي شهر على بدء استهداف "برج البراجنة" بشكل شبه يومي بأطنان من المتفجرات الأميركية التي يرمي بها الصهاينة المباني السكنية والشوارع. يتعذر وصول الصور من الأماكن المقصوفة، وتكتفي المحطات الفضائية بعرض مشهد شامل للضاحية الجنوبية. لا يمكن التكهن بما دمره العدو وما لم يستهدفه، فالعدو لا يؤمَن جانبه، و"برج البراجنة" اختارت، كما في كل مرة، أن تحتضن المقاومة.

مقالات من لبنان

مراثي المدن

أترى ما زالت ورود شرفتنا خضراء؟ هل نجت مكتبتنا وصورنا ومقتنياتنا الخاصة العزيزة وذكرياتنا، من حقد الغارات التي استهدفت الحي من كل الجهات؟ يخصني "رائف" بعناق طويل. حمل "رائف" غيتاره...

وكلّ الجِهاتِ جَنوب

2024-10-10

الآن وهنا، نذكِّر أنفسنا أن هذه معركة الجمال في وجه القباحة، من غزة إلى لبنان، وأن الاحتلال إنما يحيل جمال بلادنا دماراً لأنه يكره قبح ذاته ويعتقد أنه بذلك يسلب...

للكاتب نفسه