الجيش السوداني يطلق أول عملية برية..هل تتغير المعادلة؟

على الرغم من أن تحركات الجيش مؤخراً وتحقيقه لانجازات، لا تزال محدودة بالمقارنة مع حجم انتشار وتوغل "قوات الدعم السريع"، إلا أنها تعتبر تحوّلاً استراتيجياً في وضع الجيش، الذي استكان طويلاً في مواقع الدفاع، وتوالت عليه الهزائم وسقوط المدن. معركة "الفاشر"، غربي السودان، فاصلة في مجريات الحرب في جميع أنحاء البلاد، وسيترتب على ما ستنتهي إليه المشهد النهائي.
2024-10-09

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
حازم الحسين - السودان

بعد عام وخمسة أشهر من الحرب، يطلق الجيش السوداني عملية هجوم برية، على مواقع "قوات الدعم السريع" في عدة محاور، من أهمها العاصمة "الخرطوم"، مهّدت لها سلسلة غارات جوية نوعية، بدأت بشكل مكثف مطلع آب/ أغسطس، لتعديل ميزان السيطرة على الأرض، وسط تعثر مستمر للمفاوضات، التي ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية.

العملية التي بدأت في 26 أيلول/ سبتمبر الفائت هي الأولى من نوعها، باستثناء عملية استرداد السيطرة على مباني الإذاعة والتلفزيون في آذار/ مارس الماضي، أي بعد ما يقرب من عام من سيطرة "الدعم السريع" عليها.

وخلال ساعات معدودة، سارت عملية الهجوم بشكل ملفت، إذ تمكّن الجيش من عبور الجسور قادماً من مدينة "أم درمان" إلى مدينتَي "بحري" و"الخرطوم"، واستطاع السيطرة على أجزاء محدودة من مدينة "بحري" والدفاع عنها، كما استطاع البقاء في مواقعه وسط "الخرطوم" في منطقة "مقرن النيلين"، الرابطة بين مدينتي "أم درمان" و"الخرطوم"، على الرغم من المقاومة الشرسة من "قوات الدعم السريع" في هذه المنطقة المهمة.

وعلى الرغم من أن هذه التحركات للجيش لا تزال محدودة بالمقارنة مع حجم انتشار وتوغل "قوات الدعم السريع"، إلا أنها تعتبر تحوّلاً استراتيجياً في وضع الجيش، الذي استكان طويلاً في مواقع الدفاع، وتوالت عليه الهزائم وسقوط المدن. ويبقى المحك هو في استمرار العملية الهجومية، وتأمين المناطق من أيّة عمليات هجوم عكسية، والمحك الأكبر هو ردة فعل "الدعم السريع"، الذي لم ترصد له حتى الآن أية ردة فعل لاستعادة ما فقده من مواقع. 

لماذا تحرك الجيش الآن؟

شاع كثيراً أنّ قيادة الجيش تبطئ التحركات الميدانية وتعرقل تقدم القوات بحجج فنية وإدارية، وبرزت أصوات منددة بذلك داخل الجيش نفسه، وحاولت بعض المجموعات التحرك ضد قيادات الجيش في بعض الوحدات، وظهرت فعلياً على الأرض تحركات بلا أوامر، أي أن يقرر أحد الضباط الميدانيين التقدم نحو هدف عسكري من دون انتظار تعليمات القيادة، التي وبحكم التراتبية العسكرية، تمسك بقبضة حديدية كل أوامر الجيش وفقاً لتقديراتها، على عكس "قوات الدعم السريع"، التي لا تتقيد تركيبتها بهذه التراتبية التي تنتهجها عادة الجيوش النظامية.

ويظن كثيرون أن هذا التحرك الميداني هو استجابة طبيعية لامتصاص تذمر الجنود والضباط المحاصَرين داخل وحداتهم، ذلك تحاشياً لانفجار داخلي، حتى وإن كان يدفعه الحماس  أكثر من الخطط الحربية، إذ واجه الجيش معضلات حقيقية في حرب المدن، التي لا خبرة له فيها، وخسر في عدد من محاولات استرداد المواقع.

تفوّق "الدعم السريع" على الجيش منذ بداية الحرب بكثافة المشاة وأعمارهم الشابة، وتفوق أيضاً بسلاح المسيّرات الذي مكّنه من السيطرة على مناطق واسعة من البلاد، ومن بينها مواقع استراتيجية تتبع الجيش، وقد اضطر للانسحاب منها، تحت ضغط أسراب مسيّرات "قوات الدعم السريع".

الروح المعنوية للجيش ظلت منخفضة بسبب الحصار المضروب عليه والهزائم المتتالية، إذ أنه، ومنذ الساعات الأولى تمكنت "قوات الدعم السريع" من إحكام الحصار على جميع وحداته في "الخرطوم"، وبدأت هجومها بالتوالي على كل الوحدات والفرق التي تساقطت مثل عقد منفرط. وحوّل عناصر "قوات الدعم السريع" وسائل التواصل الاجتماعي إلى ميدان شاسع للحرب النفسية.

على صعيد آخر، يعتقد البعض أن هناك اتفاقاً ضمنياً بين الجيش و"قوات الدعم السريع" للسماح للجيش باستعادة مواقع، وذلك بغرض الذهاب للتفاوض بوضعية ميدانية معقولة.

بعيداً عن تفنيد أو مدى صدقية كل فرضية من هذه الفرضيات، إلا أن الحقيقة الصارخة هي أن الجيش بدأ الإعداد للحرب بعد انطلاقها فوق رؤوس المواطنين، وعلى الرغم من أن قادة الجيش الثلاثة (البرهان، كباشي، والعطا) تولوا إشعال الحرب الكلامية، التي سبقت انفجار 15 نيسان/ أبريل 2023، إلا أن الذي اتضح تماماً هو عدم الاستعداد وانعدام القابلية لذلك، بل الاستهانة بقدرات الطرف الآخر، وفوق هذا وذاك يتجلى الآن الخلل البنيوي للدولة التي اعتمدت سياسة "التمليش" (أي بناء الميليشيات) بدلاً من تعزيز بناء جيش مهني يحمي الدولة.

هناك عدة عوامل يمكن الإشارة إلى أهميّتها في تحرك الجيش بعد هذه الشهور الطويلة، ربما يكون في مقدمتها حصول الجيش على بعض الأسلحة النوعية، خاصة المقاتلات الحربية  الروسية والمسيّرات الإيرانية، علاوة على تدريب وحشد المشاة، ونقلهم من وحدات متفرقة إلى مراكز رئيسية طيلة هذه الشهور، حيث تفوّق "الدعم السريع" على الجيش منذ بداية الحرب بكثافة المشاة وأعمارهم الشابة، وتفوق أيضاً بسلاح المسيّرات الذي مكّنه من السيطرة على مناطق واسعة من البلاد، ومن بينها مواقع استراتيجية تتبع الجيش، وقد اضطر للانسحاب منها، تحت ضغط أسراب مسيّرات "قوات الدعم السريع".

وخلال شهور الحرب الماضية، تسابق الطرفان على امتلاك المسيرات وأنظمة التشويش، وأسلحة القنص، إذ لعبت هذه الأسلحة (المسيّرات والقناصة) دوراً حاسماً في العمليات الحربية. ويبدو أن الجيش أيضاً قد تمكّن مؤخراً من شراء مقاتلات متقدمة، لم تتمكن مضادات "قوات الدعم السريع" من اصطيادها، إذ خفتت أصوات مضادات الطيران التي صارت غير فعالة مع هذا السلاح الجديد. وتشير بعض المعلومات إلى مشكلات تواجه "قوات الدعم السريع"، في أنظمة مضادات الطيران وتشويش المسيّرات، وهذا ربما يفسر تقدم الجيش الدراماتيكي، الذي حدث على الأرض مؤخراً.

لم تخفت وتيرة معارك "الفاشر" منذ أيار/ مايو الماضي، وتكمن أهميتها في أنها ليست معركة بين الجيش و"قوات الدعم السريع"، كما هي الحال في بقية المعارك في مناطق البلاد المختلفة. في "الفاشر"، تمثل القوات المشتركة لحركات "دارفور" الطرف الرئيسي في مواجهة "قوات الدعم السريع"، والحرب هناك هي في الأساس بينهما، وهي امتداد لحرب إثنية طاحنة، انفجرت في العام 2003.

الذي اتضح تماماً خلال هذا العام ونيف من المعارك بين الجيش و"قوات الدعم السريع" هو فقدان استعداد الجيش بل وانعدام القابلية لذلك، والاستهانة بقدرات الطرف الآخر. وفوق هذا وذاك، يتجلى الآن الخلل البنيوي للدولة التي اعتمدت سياسة "التمليش" (أي بناء الميليشيات) بدلاً من تعزيز بناء جيش مهني يحمي الدولة.

هناك عامل شديد الأهمية ويلعب دوراً حاسماً، وهو أن الروح المعنوية للجيش ظلت منخفضة بسبب الحصار المضروب عليه والهزائم المتتالية، إذ أنه، ومنذ الساعات الأولى في هذه الحرب، تمكنت "قوات الدعم السريع" من إحكام الحصار على جميع وحداته في "الخرطوم"، وبدأت هجومها بالتوالي على كل الوحدات والفرق التي تساقطت مثل عقد منفرط. وحوّل عناصر "قوات الدعم السريع" وسائل التواصل الاجتماعي إلى ميدان شاسع للحرب النفسية، ببثهم المستمر لمقاطع إذلال ضباط وجنود الجيش، والسخرية المستمرة من عدم قدرتهم على الدفاع. بالمقابل، ظلت "قوات الدعم السريع" تتمتع بروح معنوية عالية، وفي تصاعد مستمر تحت نشوة التمدد العسكري.

الآن اتّضح أن الجيش قد تمكن أخيراً من إفراغ الشحنة السالبة وكسر الحاجز النفسي. وعليه ستواجه "قوات الدعم السريع" وضعاً معنوياً جديداً وغير مسبوق، وحتى لو خسرت مواقع محدودة، فالتكلفة المعنوية عند مَن اعتاد الانتصارات العسكرية ستكون باهظة ومضاعَفة، وهو الأمر الذي سوف يضع رصيداً معنوياً جديداً لقوات الجيش، إن لم تنقض "قوات الدعم السريع" على منطقة جديدة.

"الفاشر"…جبهة قتال فاصلة في حرب السودان

يبدو أن الانتشار الواسع لـ"قوات الدعم السريع" سوف يتحدى استمرار سيطرتها على المناطق، حيث فتح الجيش وحركات "دارفور" المتحالفة معه جبهات قتال متعددة. وتشكل جبهة قتال "الفاشر" في شمال "دارفور" ضغطاً هائلاً ومستمراً على" قوات الدعم السريع"، وتكاد أن تكون مجمل خسائره في هذه الحرب في معارك "الفاشر"، التي لم تخفت وتيرتها منذ أيار/ مايو الماضي.

تكمن أهمية معركة "الفاشر" في أنها ليست معركة بين الجيش و"قوات الدعم السريع"، كما هي الحال في بقية المعارك في مناطق البلاد المختلفة. في "الفاشر"، تمثل القوات المشتركة لحركات "دارفور" الطرف الرئيسي في مواجهة "قوات الدعم السريع"، والحرب هناك هي في الأساس بينهما، وهي امتداد إلى حرب إثنية طاحنة، انفجرت في العام 2003.

تجيد حركات "دارفور" استراتيجيات القتال مع "قوات الدعم السريع"، إذ يعتمد الطرفان الإدارة الحربية نفسها للمعارك. فحينما أنشأ نظام "عمر البشير" المعزول "قوات الدعم السريع" كان هدفه الأساسي القضاء على "حركات دارفور". وهكذا تمّ تأسيس "قوات الدعم السريع" على الطريقة نفسها، التي تأسست عليها تلك الحركات، وتشبعت بالمهارات القتالية والفنية نفسها في الميدان، وهو الأمر الذي جعل ميزان القوة في "الفاشر" شبه متساوٍ. كما أن الاستجابة للتحشيد الإثني لدى الطرفين لم تتراجع، فالجميع ينظر إليها كحرب بقاء.

لذلك فإن معركة "الفاشر" فاصلة في مجريات الحرب في جميع أنحاء البلاد، وسيترتب على ما ستنتهي إليه تلك المعركة المشهد النهائي للحرب.

مقالات من السودان

"بوصلة" القاهرة السودانية: جولة أفق

معتز ودنان 2024-09-21

بعد مرور 17 شهراً على اندلاع المواجهات المسلحة في السودان، كيف يمكن تقييم الدور المصري؟ وهل كان على الحياد المطلق؟ أم أن السودان ليس إلا ساحة مستباحة للقاهرة، لتصفية حساباتها...

للكاتب نفسه