إعداد وتحرير: صباح جلّول
يصمد لبنان، كما صمدت غزّة من قبله ولا تزال، صموداً لا يغادره الألمُ والحزنُ والقلقُ بالطبع، غير أنه صمود، واضحٌ، صعبٌ، نازفٌ، لكنه معانِد، فلا تسمع منه ولا من ناسه نبرة استسلام أو استعداداً للتخلي على شبر من الجنوب أو عن موقف مساند لغزة...
فماذا جرى في لبنان والمنطقة خلال الأيام القليلة الماضية؟
***
984 هو عدد غارات الجيش الإبادي الإسرائيلي على لبنان خلال اليومين الأخيرين فقط. حسب رئاسة مجلس الوزراء اللبنانية، ارتفع العدد الإجمالي للشهداء منذ بداية العدوان الإسرائيلي إلى 1745 شهيداً حتى يوم الأربعاء في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2024، بينهم أكثر من 104 أطفال و194 امرأة، وفاق عدد المصابين 8767 جريحاً، في حصيلةٍ مرشحة للازياد باستمرار...
كانت إحدى هذه المجازر الرهيبة نتيجة قصف إسرائيلي يوم 29 أيلول/ سبتمبر 2024، لمبنى سكني في منطقة "عين الدلب" قرب "صيدا" يحوي أكثر من 100 شخص جلّهم عائلات نازحة من مختلف القرى والمناطق. شيعت المدينة 71 شهيداً وشهيدة في هذه المجزرة يوم الثلاثاء في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر، دفنوا في مقابر جماعية للمرة الأولى منذ بداية هذه الحرب.
الوحش الكاسر... الوحوش!
26-09-2024
من غزة إلى لبنان.. قافلة شهداء
26-09-2024
بين 28 و29 أيلول/ سبتمبر فقط، استشهد 14 مسعفاً في استهدافات مباشرة، وأصدر المكتب الاعلامي في وزارة الصحة اللبنانية بياناً تستصرخ فيه المجتمع الدولي، إذ تُراكِم قوات الإحتلال الإسرائيلي في الأيام الأخيرة اعتداءاتها على المسعفين والمراكز الصحية، بدءاً من استشهاد مسعفين خلال استهداف مركز ومستوصف الدفاع المدني في كل من بلدتي "الطيبة" و"ديرسريان" في الجنوب، وصولاً إلى إحداث أضرار كبيرة في "مستشفى المرتضى" في "بعلبك" ما أدى إلى خروجه عن الخدمة موقتاً، بالإضافة إلى استهداف مسعفين في بلداتمختلفة من الجنوب. سمّت وزارة الصحة ما يجري "إبادةً متفاقِمة"، وسألت ما يسأله المذهولون منذ بدء إبادة غزة، وربما ما لم يعد مِن نفعٍ لسؤاله: "أين المجتمع الدولي مما يحدث؟".
النزوح الأكبر في تاريخ لبنان
أكثر من مليون شخص، حسب رئاسة الوزراء اللبنانية، نزحوا من بيوتهم في مختلف المناطق المستهدفة، لا سيما من الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع، وهو ما سماه رئيس الوزراء "النزوح الأكبر في البلاد"، بل ربما في المنطقة، خاصة نسبة لحجم لبنان وعدد سكانه الذي يقدر بنحو 6 ملايين نسمة.
تمّ فتح 851 مركزاً للإيواء للنازحين، وهي رغم عددها الكبير غير كافية. ليس أدلّ من الأجساد الملتحِفة السماء، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء، في ساحات العاصمة وعلى رصيفها البحري وفي حدائقها العامة، ليفهم المرء فداحة الكارثة والحاجة الطارئة لإيجاد حلول وأسقف فوق رؤوسهم. وهذا أقل أقل الواجب تجاه من وجدوا أنفسهم بلا مأوى في يوم وليلة، للحفاظ على كرامتهم وحقهم في الملاذ من جهة، ولمنحهم أسباب الصمود –الأساسي جداً في أية معركة ضدّ دولة الاحتلال الإسرائيلي- ثانياً!
من بين هؤلاء المتروكين لمصيرهم المشرَّع، لبنانيون وسوريون وفلسطينيون وعاملات أجنبيات في البيوت تخلى عنهم بعض اللبنانيين الكفلاء فتكتّلنَ في الطرقات مواسيات لبعضهن البعض! بعض مراكز الإيواء رفضت، في تصرف معيب، استقبال سوريين أو عاملات أجنبيات فيها. كما بقيت كثير من مباني العاصمة فارغة المساحات والشقق بينما نام الناس وأطفالهم على الأرصفة وفي السيارات وفي العراء الكامل! هذا فيما استمر القصف وتكثَّف في الجنوب والبقاع، وفي أحياء الضاحية الجنوبية لبيروت بشكل جنوني في الأيام الأخيرة.
صواريخ ليست "علينا"
على وقعِ استمرار المجازر في كلّ من غزة ولبنان، خرج شابان فلسطينيان ليل الأول من تشرين الأول/ أكتوبر في شوارع يافا ونفذا عملية إطلاق نار أودت بسبعة مستوطنين إسرائيليين وجرحت نحو 17 آخرين. تبنت العملية "كتائب القسام"، وعاش المستوطنون أحد أكثر ليالي هذه الحرب رعباً في أعقابها. ولم يكادوا يبدأون استيعاب ما جرى حتى أُعلِن عن بدء "الردّ الإيراني" على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" "إسماعيل هنية" وأمين عام "حزب الله" السيد "حسن نصرالله" (وهو الحدث المزلزِل الذي شكّل صدمة عظيمة مساء الجمعة 27 أيلول/ سبتمبر 2024، والذي لم يحققه الإسرائيليون سوى بمجزرة مهولة بأكثر من 10 صواريخ خارقة للأنفاق والتحصينات، رموها على مربع سكني كامل في "حارة حريك" بالضاحية الجنوبية لبيروت).
أكثر من مئتي صاروخ أنارت سماء المدن الفلسطينية، بما فيها غزّة التي وجدت أخيراً سبباً للابتهاج بعد طولِ ألم، في مشهد لم يشهده الكيان من قبل. وبعض النظر عن كل المترتبات السياسية للصواريخ التي طالت "تل أبيب" و"القدس" و"حيفا"، ومعانيها، كان الحدثُ فرحَ غزة، ضحكاتها وزغاريدها وأملها برؤية الكيان الإبادي الغاصب مهزوزاً، وربما مهزوماً.
"هدول مش نازلات علينا، هدول نازلات عليهم!"، صرخ الشاب أحمد جمعة الذي لطالما نقل لنا عبر انستغرام يوميات الإبادة، محاولاً التمسك دائماً بحس فكاهة سوداوية يداوي نفسه بها.
"لم أتمالك نفسي من إظهار شعور الفرح وأنا أعدّ تقريراً عن مساء اليوم. نرصدُ احتفاء الأهالي وسعادتهم وهم يشاهدون الردّ على المجازر والدّمار، ونستمعُ لكلمات الفخر التي يعبّر عنها الأطفال بملء قلوبهم"، قال الصحافي حسام شبات، الذي ما ألفناه إلا بوجه كئيب، يوثِّق أبشع مشاهد المجازر وأقسى الوقائع، وقد بدا للمرة الأولى مبتسماً منشرح الوجه.
المراسل الشاب عبود بطاح الذي عوّد الناس على رفع معنوياتهم، ولم يغادر شمال غزة منذ بداية الإبادة، خرج محتفلاً بما سمّاه "زفّة تل أبيب" مع الأهالي الهاتفين "الله أكبر" في الشوارع.
قبل الضربة وبعدها، استمر الاحتلال بارتكاب الفظاعات، ثمّ توعّد بالمزيد. إنها أيام المتغيرات السريعة والخطيرة والصعبة، لكن يبدو أنه في كل هذا، ليس سوى ثابتٍ وحيد: صمود شعوبنا المقهورة.