لم يسمع أحد شهادته، ولم يهتم أحد بتوثيق ما رآه. ربما لأنه لا يزال يخجل من روايته حتى الآن، ويربط مأساته الشخصية بمأساة الوطن، الذي تكبد واحدة من أسوأ هزائم التاريخ المعاصر. وربما لأنه اعتبر أن ما حدث صفحة مطوية لا يجب العودة إليها بأية حال، لأنها تنكأ جرحاً يريده أن يندمل.. بلا جدوى. وفي واقع الأمر، فإن شهادات رجال الظل تظل عندنا غير مؤثرة في المشهد النهائي، طالما أن الكبار قد قالوا كلمتهم.
هو أحد أقارب والدي، لا أراه إلا نادراً. عرفتُ قصته بالصدفة في حوار عائلي عابر، ولكن الرجل – بعد تردد - أطلعني على بقية التفاصيل المؤلمة، التى لايعرفها إلا قلة من أفراد العائلة، ويتكتمون بدورهم على ما جرى، حفاظاً على مشاعر الرجل الذى يقترب من الثمانين، لكنه لا يزال يعيش بألم التجربة، تماماً كما يعيش بها الوطن حتى الآن.
لم يكن عمر عم "سيد" قد تجاوز الحادية والعشرين عندما تمّ تجنيده في سلاح المشاة جندياً عادياً، لايحمل مؤهلات علمية، ومن المفترض أن يقضي فترة تجنيد ثلاث سنوات، قبل أن يغادر الجيش. في "مركز التدريب" في القاهرة، تلقّى تدريباً نمطياً معتاداً على حمل السلاح وتخطي الحواجز الصعبة، قبل أن ينتقل إلى كتيبته في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1966.
... ذلك التاريخ الذي كانت فيه المنطقة على عتبات تلك الأزمة الغامضة، التى لا يزال كثيرٌ من فصولها مجهولاً. ولا تزال كل وثائقها مطوية تحت بند "سرّي للغاية"، تأبى الإفصاح عن حقيقة ما جرى وكيف جرى.
هزيمة 1967
02-06-2016
الهزيمة الفاصلة بين الحُلم والسياسة
09-06-2016
فعندما أصدر المشير "عبد الحكيم عامر" فى الساعة الحادية عشرة من يوم الأحد 14 أيار/ مايو 1967 أوامره، برفع درجة استعداد القوات المسلحة إلى "الاستعداد الكامل"، وبعدها بساعة واحدة أصدر تعليماته الجديدة بحشد القوات إلى "سيناء"، فى مدة لا تتجاوز 72 ساعة، لم يكن عم "سيد" يدرك لماذا أصدر المشير تلك التعليمات، ولكنه وجد نفسه يستقل واحدة من تلك المركبات العسكرية، التى أوصلته إلى موقعه الجديد في مركز "الحسنة" وسط "سيناء".
قرار المشير بحشد القوات جاء تحت ذريعة قيام إسرائيل بحشد قواتها على الحدود السورية، وهى معلومة قام الاتحاد السوفييتي بتسريبها إلى مصر، ليتضح لاحقاً، بتحقق من "محمد فوزي"، رئيس الأركان، ومعه بعض القادة الذين سافروا إلى سوريا لاستجلاء الأمر، أنها معلومة غير صحيحة، وأن السوريين أنفسهم غير عابئين بالأمر. على الرغم من ذلك، استكمل المشير "عامر" حشد تلك القوات إلى هناك، فى واحدة من أكثر نقاط الحرب غموضاً، والتي يبدو معها بعد مرور كل هذه السنوات، أنه ليس ثمة أمل فى إماطة اللثام عن أسبابها الحقيقية.
أخبرني عم "سيد" أن الجنود تعاملوا مع قرار الحشد وكأنه تحريك تقليدي للقوات من مكان إلى آخر، وأن شبح الحرب لم يكن وارداً على الإطلاق في ذلك التوقيت، فلم يساورهم أي قلق من ذلك الانتقال إلى "سيناء". ما يدعم ذلك، أن السلطات كانت قد وجهت الدعوة إلى الفيلد مارشال "مونتغمري" قبل يوم واحد من قرار حشد القوات، للحضور إلى مصر والاحتفال بمرور 25 عاماً، على معركة "العلمين" الحاسمة في تاريخ الحرب العالمية الثانية!
بدا ساعتها وكأن المشير يدفع بأكثر من 100 ألف جندي، لعمل "مظاهرة" عسكرية راهن على أنها سوف تخيف إسرائيل، ولن يسمح العالم بتطورها إلى حرب حقيقية إذا حانت لحظة المواجهة. لأن جميع القادة العسكريين فى مصر كانوا يعلمون أن البلاد غير مستعدة لدخول أية حرب مع إسرائيل في ذلك الوقت، خاصة في ظل وجود ثلثي القوات المقاتلة في اليمن!
قرار المشير "عامر" بحشد القوات جاء تحت ذريعة قيام إسرائيل بحشد قواتها على الحدود السورية، وهى معلومة سرّبها الاتحاد السوفييتي إلى مصر، ليتضح لاحقاً، بتحقق من "محمد فوزي"، رئيس الأركان، ومعه بعض القادة الذين سافروا إلى سوريا لاستجلاء الأمر، أنها معلومة غير صحيحة، وأن السوريين أنفسهم غير عابئين بالأمر. على الرغم من ذلك، استكمل المشير حشد تلك القوات إلى هناك.
بدا ساعتها وكأن المشير يدفع بأكثر من 100 ألف جندي، لعمل "مظاهرة" عسكرية راهن على أنها سوف تخيف إسرائيل، ولن يسمح العالم بتطورها إلى حرب حقيقية إذا حانت لحظة المواجهة. لأن جميع القادة العسكريين فى مصر كانوا يعلمون أن البلاد غير مستعدة لدخول أية حرب مع إسرائيل في ذلك الوقت.
شحبت ذاكرة عم "سيد" حتى صار لا يتذكر شيئاً عما جرى بالأمس، ولكن ذاكرة تلك الأيام البعيدة ظلت مشحوذة بقوة الألم وبريق الصدمة .. كما يقول. "أحببت جمال عبد الناصر، وكل من كنتُ أعرفهم كانوا يحبونه. وضعنا ثقتنا بالكامل في قدرته على القيادة. لم يتسلل إلينا الشك لحظة واحدة في قدرته على الحسم والتصدي لكل الأزمات... كنا نشعر بالفخر ونحن نخترق شوارع القاهرة الرئيسية في طريقنا إلى وحداتنا الجديدة، بعد صدور أمر التحرك، وإن كنا قد شعرنا بالدهشة أيضاً لمرورنا من قلب المدينة، وهو أمر غير معتاد. ولكن لم يساورنا أي شك في أن كل الأمور كانت مدروسة وتحت السيطرة".
عندما دقت طبول الحرب اعتباراً من أول حزيران/ يونيو، قال "عبد الناصر" إنهم ينتظرون المعركة على أحر من الجمر. وكان ذلك ينبئ بجلاء أن السلطة قد استعدت جيداً لتلك المعركة، التى أخبرني عم "سيد" أنهم لم يعلموا عنها شيئاً، ولم يتم تدريبهم على خطة محددة، سواء أكانت هجومية أم دفاعية. فقط جرى حشدهم.
فى تمام التاسعة إلا ربع، فى يوم الخامس من حزيران/ يونيو، قام الطيران الإسرائيلي بضرب مطارات: "العريش"، و"بير جفجافة"، و"جبل لبنى"، و"بير تمادة"، و"أبو صوير"، و"أنشاص"، و"فايد"، و"كبريت".. ثم مطاري: "المنصورة"، و"حلوان"، وبعدها قام بضرب مطار"المنيا"، و"مطار بلبيس". وفي الواحدة والنصف ظهراً، قام بقصف مطاري: "الأقصر"، و"الغردقة،. وقبل أن ينتهي النهار، قام بضرب مطار القاهرة!
وترتب على الضربات المتلاحقة والمتقاربة للغاية، تدمير أكثر من 85 في المئة من سلاح الجو المصري، ومن ثم تحييده بالكامل عن دخول المعركة، خاصة في ظل تدمير كل الممرات التي يمكن أن تستخدمها الطائرات، في خطة بدا أنها وضعت بعناية فائقة حينها. وصار أكثر من 100 ألف جندي، هؤلاء الذين شُحنوا على عجل إلى سيناء، بدون غطاء جوي يحميهم.
وكأنه يوم القيامة! ترتّب على الضربات المتلاحقة والمتقاربة للغاية، تدمير أكثر من 85 في المئة من سلاح الجو المصري، وتحييده بالكامل عن دخول المعركة، خاصة في ظل تدمير كل الممرات التي يمكن أن تستخدمها الطائرات، في خطة بدا أنها وُضعت بعناية فائقة حينها. وصار أكثر من 100 ألف جندي، هؤلاء الذين شُحنوا على عجل إلى سيناء، بدون غطاء جوي يحميهم.
بحلول يوم الثامن من حزيران/ يونيو، كان قد سقط أكثر من عشرة آلاف جندي و1500 ضابط. كما وقع في الأسر أكثر من 5000 جندي و500 ضابط، فيما ترك الجنود وراءهم أكثر من 85 في المئة من عتاد الجيش.. دبابات، ومدرعات، ومدافع.
وفي الوقت الذى كان الإعلام المصري يبث إلى مصر والوطن والعربى أخبار انتصار لم يحدث قط، كان الجنود في "سيناء" يواجهون الحقيقة عارية بغير خفاء، عندما صدرت إليهم أوامر الانسحاب في الخامسة من صباح اليوم التالي. وبالقدر نفسه الذي كان قرار الحشد عشوائياً ومرتجلاً، كان قرار الانسحاب فوضوياً ومتعجلاً، ثم صار كارثياً عندما صارت تلك القوات صيداً سهلاً للطائرات الإسرائيلية.
وبحلول يوم الثامن من حزيران/ يونيو كان قد سقط أكثر من عشرة آلاف جندي و1500 ضابط. كما وقع في الأسر أكثر من 5000 جندي و500 ضابط، فيما ترك الجنود وراءهم أكثر من 85 في المئة من عتاد الجيش.. دبابات، ومدرعات، ومدافع.
يقول عم "سيد": "كنت كأنني أشاهد يوم القيامة. تحولتْ كتيبتي إلى شراذم متفرقة، كل يريد أن ينفذ بجلده من هذا الهول. لم توجد خطة واضحة للانسحاب، ولم يخبرنا أحد عن طريقة ما يمكن أن نحافظ بها على أسلحتنا أو أن ننسحب بأقل قدر من الخسائر. كانت المسافة بيننا ومدينة "الإسماعيلية" تزيد على 170 كيلو متراً، لم نكن ندري كيف نقطعها في ظل قصف كثير من المركبات، التى أقلتنا في رحلة الذهاب، وفي ظل كثافة الطيران الإسرائيلي، الذي لم يتوقف عن اصطيادنا في هذا العراء الممتد. قُتل كثيرٌ من زملائي. لم تتوقف مشاهد القتل والجثث المحترقة على طول الطريق. رأيت الهزيمة بعيني ورأيت كيف كان الموت يتفاداني وكأنه يريد أن يريني أكبر قدر من المهانة والألم".
الحضور الكثيف للمأساة، على الرغم من مرور كل هذه السنوات التى تقترب من الستين على وقوع الهزيمة، جعلتْ عم "سيد" يحكي تجربته وكأنه يمر بها الآن، وكأنها واقع معاش لم يفارقه قط، مما دفعني لاستحضار مقدمة الباحث "خالد منصور" لكتابه "في تشريح الهزيمة": "هزيمة 1967 ليست فقط ماضياً نتعلم دروسه، ولكنها حاضر حي، حدث تأسيسي لحقبة ما زلنا نعيشها حتى اليوم. ومن ثَمّ، فإن تقييمنا للهزيمة وأسبابها وسياقها هو بحث في جذور حاضرنا ومعانيه الكبرى. وبمعنى آخر، فإن قيمة هذا الكتاب النقدي لا تأتي من سرده لوقائع تاريخية انتهى تأثيرها، بل تمتد لتشمل إلقاء ضوء على ما يحدث في الواقع الآن، من خلال تفنيد أسباب الهزيمة بمعزل عن الروايات والأساطير".
في رحلة الانسحاب، رأى عم "سيد" حجم الهزيمة، وعاين مرارة الخذلان. أخبرني أن أكثر ما كان يؤثر فيه أنه لم يتمكن ولو لمرة واحدة من الضغط على زناد بندقيته. قال : "إن الهزيمة المجردة ليست عاراً في حال أننا حاربنا بالفعل. ولكننا لم نحارب. لم نتمكن من إثبات أننا كنا هناك، حيث جرت الحرب، التي تمّ اقتيادنا إليها كي نُهزم فقط... في تلك اللحظات المؤلمة اتخذتُ قراري".
كان على كتيبة عم "سيد" المنسحبة، أو ما تبقى منها، أن تتجمع في مدينه "الإسماعيلية" تمهيداً لإعادة توزيعها طبقاً لمجريات الأمور. ولكن الرجل بمجرد وصوله إلى هناك، خلع بذلته العسكرية، واستطاع بطريقةٍ ما أن يحصل على "زيٍّ" مدني، ثم اختفى وسط زحام الناس. أخبرني أنه لم يفكر لثانية واحده في أن يعود إلى كتيبته. قال إن الأمر لم يكن جبناً أو فراراً من الموت الذى كان حاضراً ومهيمناً طوال رحلة الانسحاب، ولكنه شيء لم يستطع تحديد ماهيته حتى الآن. ربما كان مرارة الخديعة، أو صدمة الحقيقة التى لم يتصورها قبل ذلك قط. قال إنه لم يشعر ساعتها أنه جنديٌّ يخون وطنه، بقدر ما شعر بأن وطنه هو الذي خانه، عندما وضعه في ذلك المأزق العسير، لأسباب بدت له عبثية.
"كانت المسافة بيننا ومدينة "الإسماعيلية" تزيد على 170 كيلومتراً، لم نكن ندري كيف نقطعها في ظل قصف كثير من المركبات التى أقلتنا في رحلة الذهاب، وفي ظل كثافة الطيران الإسرائيلي، الذي لم يتوقف عن اصطيادنا في هذا العراء الممتد. قُتل كثيرٌ من زملائي.. رأيت الهزيمة بعيني، ورأيت كيف كان الموت يتفاداني وكأنه يريد أن يريني أكبر قدر من المهانة والألم".
في 25 تشرين الأول/ أكتوبر1973، وفي أجواء الانتصارات التى حققتها القوات المسلحة أخيراً، قام عم "سيد" بتسليم نفسه إلى أقرب نقطة للشرطة العسكرية. وجرت محاكمته بعد سجالات قانونية حول تصنيف جريمته على الوجه الصحيح. أخبرني أنه بكى عند تلاوة بيان الإدانة، والذي جاء فيه، أنه "عندما تخلّى عن واجبه العسكري في الميدان عمداً، فإنه قد صار شخصاً ناقص المروءة وضعيف الخلق.."
في مدينة "الإسكندرية" عاش عم "سيد" لأكثر من سبع سنوات بهوية مختلفة. لم يعرف أحد في ذلك الحي الشعبي الذي اختار أن يعيش فيه أي شيء عما جرى للرجل. لم يقم بعمل بطاقة شخصية، ولم يتعامل مع أية جهة حكومية خلال هذه السنوات. التحق للعمل في أحد المخابز، التي كان يقضي فيها جل وقته، حيث سمح له صاحب المخبز بالمبيت فيه أثناء الليل. يقول: "تابعتُ محاكمة القادة المسؤولين عن الهزيمة. تمنيتُ أن يكون لدينا الجرأة لمحاكمة عبد الحكيم عامر قبل انتحاره. ثم رأيتُ بعد ذلك كيف حاول الجيش لملمة شتاته المبعثر". ثم قال: "ربما تكون هذه هي الفترة التى فكرتُ فيها بالعودة إلى صفوف الجيش، ولكن كان الأوان قد فات، وكنت أعلم أنني لا بد أن أخضع لمحاكمة عسكرية قد تقضي بإعدامي، فاكتفيتُ بالمتابعة الصامتة".
حرب الاستنزاف كما رآها الجنود: شهادة
20-05-2024
الخلاف حول ثغرة الدفرسوار
28-12-2023
في الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وفي أجواء الانتصارات التى حققتها القوات المسلحة أخيراً، قام عم "سيد" بتسليم نفسه إلى أقرب نقطة للشرطة العسكرية، والتي قامت بدورها بتسليمه إلى "النيابة العسكرية"، حيث جرت محاكمته بعد سجالات قانونية حول تصنيف جريمته على الوجه الصحيح. أخبرني أنه بكى عند تلاوة بيان الإدانة، والذي جاء فيه، أنه "عندما تخلى عن واجبه العسكري في الميدان عمداً، فإنه قد صار شخصاً ناقص المروءة وضعيف الخلق، متهاوناً في مسؤولياته، ولا يُعتمد عليه فى أداء الواجبات والتكاليف العامة، بل يُخشى عليها منه، لما تنطوي عليه نفسه من عدم تقدير المسؤولية". ومع ذلك، بدا أن أجواء محاكمته كان يغلفها كثيرٌ من الشفقة بحال الرجل، الذي لم يكف عن البكاء، وتمّ الاكتفاء بسجنه ثلاث سنوات، ليخرج بعدها أخيراً إلى الدنيا، التي كانت قد جرت تحت جسورها مياه كثيرة.
حاله ظلّت تذكرني بذلك الجندي، الذى بكى بين يدي "زرقاء اليمامة"، وهو يخبرها عن اللاجدوى من كل ذلك:
ماذا تفيد الكلمات البائسة؟
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ..
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار!
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار..
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار!
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف: قايضوا بنا..
والتمسوا النجاةَ والفرار!
تم تدقيق التواريخ وتسلسل الأحداث من مجموعة مقالات المؤرخ الدكتور خالد فهمي عن هزيمة حزيران/ يونيو، المنشورة في "الموقف المصري": https://cl.gy/abrfv