الصحافة ومعها الحقيقة في مرمى النيران الإسرائيلية

يوثق صحافيو غزّة المقتلة لنا، ثمّ يُقتَلون فنوثق مقتلهم.. يا لها من دائرة حقيرة.
2024-08-15

شارك
في وداع الصحافي الشهيد إسماعيل الغول والمصور الشهيد رامي الريفي في 31 تموز /يوليو 2024 (Getty Images)
إعداد وتحرير: صباح جلّول

هذا هو المشهد الإعلامي اليوم: يطلع المتحدث باسم حكومة الاحتلال الإسرائيلي "ديفيد منسر" على برنامج "توداي" على الراديو 4 التابع لهيئة الإذاعة البريطانية "BBC"، ليقول "إن التقارير عن هذه الحرب هي من جانب واحد، ودون سياق، ما ينتهي به الأمر إلى هجمات على اليهود في شوارع بريطانيا"، على حد قوله. تسأله المذيعة مِشال حسين عن الضحايا من النساء والأطفال في قصف مدرسة في غزة، فيجيب أن المدرسة "مركز قيادة لحماس"، وأن "الطاقم الطبي مزيّف"، وأنّ الأرقام "تمّ تضخيمها" طوال الحرب في غزة، بل وأنه "لم يكن هناك نساء وأطفال".

تذكِّره المذيعة بأن الطرف الإسرائيلي هو من لا يسمح للصحافيين الدوليين بالدخول للتغطية، فيردّ "إن وجود الصحافيين الدوليين من شأنه أن يُعقِّد جهود إسرائيل لتحرير الرهائن". بكلمات أخرى، يقول أنه لا بأس بقتل الصحافيين الفلسطينيين الذين يغطون الإبادة، لكن لماذا يعرِّضون أنفسهم للمزيد من "البهدلة" الإعلامية بقتل صحافيين أجانب يكترث لهم العالم أكثر؟ بل يستشيظ المتحدّث غضباً من مجرد السؤال ويناقض نفسه فيقول، "لا يوجد أي نقص في الأخبار القادمة من غزة. بالله عليكِ، إنه الصراع الأكثر تغطية في تاريخنا المعاصر". هذا قبل أن يتهم المذيعة بكونها مجرد ببغاء "لما تطعمكِ إياه المنظمات الإرهابية"...

هذا منذ أيام قليلة فقط، في مقابلة بثت يوم 12 آب/ أغسطس 2024، وتعكس نمطاً إسرائيلياً متسقاً، وشديد الوقاحة، منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، في كيفية التعامل مع الصحافة. مرّ ما يزيد عن 10 شهور، يمنع فيها الإسرائيليون التغطية الإعلامية من الصحافة الدولية على الأرض من جِهة، ثمّ عندما يغطي صحافيو غزة الحدث بأنفسهم (وفي ظروفٍ مريعة لم يمر بها أي صحافي آخرعلى وجه الكوكب في أي حرب أو ظرف آخر!)، يتهمونهم بالتلفيق والمبالغة أو حتى بكونهم تابعين لحماس أو غيرها، فيقصفون بيوتهم، ويقتلون عائلاتهم، ويستهدفون سياراتهم بالصواريخ والقذائف، ويقنصونهم في الطرقات، ويحرّضون عليهم، ويقتلون كثيراً منهم، أكثر مما سُجّل في أية حرب أو صراع أو إبادة في الماضي والحاضر، وبفترة زمنية قياسية.

في هذا الجوّ الخطير، وبعد مجزرة مدرسة التابعين يوم العاشر من آب/ أغسطس 2024، جاء اتهام المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي لمراسل قناة الجزيرة في شمال غزة، "أنس الشريف"، "بالكذب". وكان ذلك بمثابة تهديدٍ مباشر له، بعد نقله تفاصيل تلك المجزرة المروّعة التي أودت بحياة نحو 100 من المدنيين النازحين أثناء تأديتهم لصلاة الفجر.

أنس الشريف مراسل قناة الجزيرة في شمال غزة أثناء تغطيته للإبادة المستمرة (الصورة عن منصة إكس).

في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2023، قصف الاحتلال منزل الصحافي أنس الشريف في مخيم جباليا واستشهد والده فيه. منذ الأسابيع الأولى للحرب، تلقى أنس اتصالات تهديد ورسائل "وتساب" عديدة من ضباط في الاحتلال للتوقف عن تغطيته ومغادرة الشمال "وإلا".. حمل جثمان صديقه المقرب وزميله المراسل الصحافي إسماعيل الغول، الذي اغتاله الاحتلال مع المصور الصحافي رامي الريفي باستهدافٍ مباشر منذ أسبوعين فقط. شهد تساقط أجساد زملاءه في المهنة، الواحد تلو الآخر، في غزة ومعاقبتهم بأهلهم وأحباءهم وأنفسهم – والأمثلة تتوالى، من وائل الدحدوح إلى إسماعيل الغول. كما شهد "أنس الشريف" أمامنا ولنا من أمام المشاهد الرهيبة في مجزرة التابعين بصوت مختنقٍ وعينين مذهولتين، "أنا مش قادر أحكي. الوضع فوق الوصف"... فأيّ نوعٍ من الصحافة يطلب العالَم من إعلاميي غزة؟ أي وضعٍ هذا الذي يكون ثمن تغطية الحقيقة فيه تدمير كل من يحاول جاهداً إظهارها، وتركه بدون حماية أمام رحمة آلة القتل الوحشية الإسرائيلية؟

الصحافيات والصحافيون في وداع زميلهم إسماعيل الغول الذي استشهد في 31 تموز/يوليو 2024. وقفة احتجاجية ضدّ الاستهداف المتعمَّد لهم من قبل جيش الاحتلال (الصورة عن منصة إكس).

بطبيعة الحال، عبّرت لجنة حماية الصحافيين عن "قلقها البالغ" على سلامة مراسل قناة الجزيرة في شمال غزة، وفيما ذكرت اللجنة أن ما لا يقل عن 113 صحافياً وعاملاً في وسائل الإعلام قُتلوا في غزة حتى الآن، قال المركز الفلسطيني للإعلام ومكتب الإعلام الحكومي في غزّة أن الرقم يصل إلى 160 صحافياً شهيداً منذ "السابع من أكتوبر"!

مجدداً، هذه سياسة متسقة لإلغاء كل أسباب الحياة، رافقها تدمير كلي لـ115 مدرسة وجامعة وجزئي ل328 مؤسسة تعليمية وإخراج 34 مستشفى من العمل وقتل 500 طبيب وعامل في القطاع الصحي، و، و...

بدورها، قدمت منظمة "مراسلون بلا حدود" ثلاث شكاوى إلى المحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل بسبب "جرائم حرب ارتكبت ضد الصحافيين"، آخرها في أيار/ مايو الماضي، وقد قُتل مذّاك عشرات الصحافيين في غزة بلا رادع، في حرب هي "الأكثر دموية على الصحافيين"، حسب "لجنة حماية الصحافيين الدولية"، منذ بدأت اللجنة توثيق جرائم قتل الصحافيين حول العالم عام 1992.

يوثق صحافيو غزّة المقتلة لنا، ثمّ يُقتَلون فنوثق مقتلهم.. يا لها من دائرة حقيرة.

تتكاثر الشكاوى بأشد اللهجات من المنظمات الدولية دون أن تتوقف المقتلة. يشهد عالمنا إحدى أسفل حقبات تاريخنا المعاصر تحت مظلة من شرّع حقوق الإنسان والحريات وحماية الصحافة والحق بالوصول إلى المعلومات وسائر المعجمات الدولية التي تبدو لنا الآن مفْرغة كلياً من معانيها أمام رغبة الكيان الاستعماري الصهيوني معاقبة الحقيقة...

***

فيديو للمراسل الصحافي إسماعيل الغول الذي اغتاله الاحتلال باستهداف مباشر لسيارته، شارحاً رؤيته لدور الصحافي في غزة:


______________________

يتضامن السفير العربي وصحافياته وصحافيوه مع مراسل الجزيرة أنس الشريف وجميع زملائه في كامل قطاع غزة الذين يخاطرون بحياتهم من أجل نقل الإبادة في غزة وواقع الناس فيها إلى العالم، ونضمّ صوتنا الى كلّ المنصات الإعلامية والحقوقية المطالِبة بحمايتهم الفورية ومعاقبة الاحتلال على جرائمه.

مقالات من فلسطين

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...