الأنثروبولوجيا، وشُؤْم "الرَّبُوع" في اليمن

من أجل اتّقاء بعض اليمنيين ما يمكن اتقاؤه من شؤم يوم الأربعاء، فإنهم يحرصون على عدم الإقدام فيه على إنجاز أي عمل، ولا اتخاذ أيّ قرارٍ مهمّ في حياتهم، ولا التوقيع على الاتفاقيات والصفقات، ولا السفر إلى مناطق بعيدة. فما الأصل في ذلك؟
2024-07-11

عبده منصور المحمودي

استاذ جامعي وشاعر وناقد، اليمن


شارك
عبد الكريم وزاني - المغرب

لا يزال اليمنيون يتشاءمون من يوم الأربعاء ("الرّبُوع" في المحكية)، في مناطق من محافظات "أبين"، و"البيضاء"، و"شبوة"، ومناطق "الصيْعر" من محافظة "حضرموت"، و"يافع" من محافظة "لحج".

ومن أجل اتّقائهم ما يمكن اتقاؤه من شؤم هذا اليوم، فإنهم يحرصون على عدم الإقدام فيه على إنجاز أي عمل، ولا اتخاذ أيّ قرارٍ مهمّ في حياتهم، ولا التوقيع على الاتفاقيات والصفقات، ولا السفر إلى مناطق بعيدة، بل منهم مَن يلزم فيه منزله، فلا يبرحه إلّا يوم الخميس.

كما يُمثِّل التلَفُّظُ باسمه استفزازاً لهم، فلو قُلْتَ لواحدٍ منهم "يوم الرَّبوع"، ستجده منتفضاً في وجهك بالقول: "يوم الرّبوعْ على قَرْنَك!"، أو "يوم الربوع على قرنك وقرن أبوكْ!" بمعنى، الدعاء عليك بمصائب هذا اليوم ونوائبه. لذلك، فهم لا يشيرون إليه باسمه، وإنما باسم آخر، هو "البَرك" الذي يعني الموصوف بـ (المُبارك/ المبروك)، تحاشياً منهم لشؤمه، وما يمكن أن يتداعى عليهم التلفُّظ به من كوارث ونكبات.

ويستمر هذا المعتقد بشؤم الاربعاء على الرغم من تصدي الرسول الكريم له – مما يشير الى اتساع دائرته في زمانه –وذلك في الحديث المعروف : "لا طِيرة ولا هامة ولا صَفَر"، حيث كان التشاؤم من الاربعاء يتكثف في شهر صفر! وهذا الحديث كان إبطالاً منه للتشاؤم والتطير... لكن المعتقد لا يزال راسخاً!

يقول عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر في مداخلة شيقة له في مدينة ستراتسبورغ، أن "مفاهيم الحظ العاثر أو الجيد تلعب دوراً كبيراً في الحياة اليومية، وهي تأويلات ذاتية عمياء عن الضرورة والصدفة"[1].

حداثة وقائع الشُّؤْم

من تفسيرات هذا المنحى الممتد زمنياً في الثقافة الشعبية، ما يعيده إلى فترات مختلفة من العصر الحديث، حدثت فيها مآسٍ في يوم أربعاء. منها الإشارة إلى ما حدث من صراعٍ دمويٍّ في "شبوة"، في النصف الأخير من القرن العشرين، إذ تفاقمت خلافاتٌ قبليّة، فبدأت مشاجرة باستخدام الحجارة في يوم أربعاء، ثم تطوّرت إلى حربٍ استمرت سبع سنوات[2]. كما تحتفظ الذاكرة الشعبية والمحكي الشعبي بتفسيرات، تشير إلى ارتباطه بحروب قبلية طاحنة، اندلعت في "البيضاء" مطالع القرن العشرين، انتهت في يوم أربعاء بكارثةٍ خلّفت عدداً كبيراً من القتلى والجرحى.

يستمر هذا المعتقد بشؤم الاربعاء على الرغم من تصدي الرسول الكريم له – مما يشير الى اتساع دائرته في زمانه – وذلك في الحديث المعروف : "لا طِيرة ولا هامة ولا صَفَر"، حيث كان التشاؤم من الأربعاء يتكثف في شهر صَفر! وهذا الحديث كان إبطالاً منه للتشاؤم والتطير... لكن المعتقد لا يزال راسخاً!

يقول عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر أن "مفاهيم الحظ العاثر أو الجيد تلعب دوراً كبيراً في الحياة اليومية، وهي تأويلات ذاتية عمياء عن الضرورة والصدفة".

لكن "الصدفة" المتكررة هنا (بحسب لوفيفر) والتي تخص يوم الأربعاء، ويُعتد بها، تُوازيها أحداث لا علاقة بهذا اليوم بها، يجري تجاهلها لتعزيز الاعتقاد الراسخ والممتد الى تاريخ سحيق ، لم تجرِ بعد دراسات تنبش أصله وفصله، لصعوبة التقاطها، سواء في مجتمعاتنا أو في سائر المجتمعات البشرية التي لا تخلو من الأساطير والخرافات، أو ما يطلق عليه "الميث" (Mythes).

امتدادٌ تاريخي

تشير المدونات التاريخية إلى أن التشاؤم من يوم الأربعاء نسق ممتدٌ شائع في الهند، ولدى المغول، ومثلهما في الموروث الفارسي، الذي يتردد هذا اليوم فيه بصفته "يوم البلاء". كما تضمّنت بعض أدبيات التاريخ والفكر العربي إشاراتٍ الى اعتياد العرب القدماء على التشاؤم منه، وأطلقوا عليه اسم "دُبار"، بمعنى أنه يوم "الدّبور، والشؤم، والنحس". وتطيّروا منه، فامتنعوا عن القيام فيه ببعض الأعمال، إذ كانوا لا يتزوجون فيه، ولا يسافرون، ولا يدخلون من سفر، ولا يبايعون في شيء مهما كان مغرياً[3].

ويحضر كذلك في السودان، والعراق، و"الشام"، إذ يحيل في ذاكرة التراث السوري على معنى المشاكسة والمعاكسة والإخفاق في العمل، والهم والحزن، ورداءة حياة مَنْ يُولد فيه[4].

سياقات أنثروبولوجية

يشير الباحث اليمني أحمد صالح الجبلي، إلى أن هذا الاعتقاد يمتد إلى فترة زمنية بعيدة، مرتبطة بتحريمٍ ديني وثني قديم، ضمن طائفة من العبادات والمعتقدات، التي لم يبقَ منها إلّا هذا التشاؤم من يوم الأربعاء[5].

ويظهر في هذه المقاربة ــ على ما فيها من احتراس ترجيحي ــ نوعٌ من التضافر لمعطياتٍ حيوية، يتجسّد فيها الأصل الأنثروبولوجي لهذا المعطى التشاؤمي في تجربة الحياة الإنسانية، لا سيما إذا ما حاولنا تفكيكه من زاوية إحالاته وأبعاده الدينية والاجتماعية والتاريخية.

تشير المدونات التاريخية إلى أن التشاؤم من يوم الأربعاء نسق ممتدٌ شائع في الهند، ولدى المغول، ومثلهما في الموروث الفارسي، الذي يتردد هذا اليوم فيه بصفته "يوم البلاء". كما تضمّنت بعض أدبيات التاريخ والفكر العربي إشاراتٍ الى اعتياد العرب القدماء على التشاؤم منه، وأطلقوا عليه اسم "دُبار"، بمعنى أنه يوم "الدُبور، والشؤم، والنحس". وتطيّروا منه، فامتنعوا عن القيام فيه ببعض الأعمال.

تتجلّى المكانة العليا لهذا اليوم اجتماعيّاً ودينيّاً، وتأسيساً على ذلك، يمكننا توليف صياغة تأصيل أنثروبولوجي، ينطلق من استثنائية هذا اليوم، وما تفضي إليه هذه الاستثنائية من احتفاء اجتماعي به، كتخصيصه لأنشطةٍ روحية دينية وعقيدية، متّسقة مع استثنائيته، وما يترتب على ذلك، من إقرار الامتناع فيه عن القيام بأعمالٍ لا تنتمي إلى ماهيته. وهو ما يفسر إسقاط هذا الامتناع على أعمالٍ غير روحية.

لقد عُرف يوم الأربعاء في تاريخ الفكر الإنساني باسم الرمز التوتوني الأكبر "وودن"، رمز الحكمة والشعر والحرب[6]، بما تنطوي عليه هذه الرمزية من الإحالة على معاني القوة والسلطة والفن، التي تتضمّنها الرمزية الدينية في اسم الإله الروماني "مركوريوس"، الذي يتضمّن اسمه معنى كوكبه "عطارد"، ومعنى "الزئبق"، بعد أن منحه الإله اسمه، وخصّص له يوم الأربعاء. لذلك، فإن اللغة الفرنسية تحيل على هذا اليوم باللفظ "Mercredi"، فهو فيها (يوم مركور Mercur Day ). كذلك، يشير تاريخ الديانات وتاريخ الفكر الإنساني والفلسفة والميثولوجيا إلى أن، "مركور" عند الرومان، يقابله "هرمس" عند اليونان، وكلاهما يقابلان "تحوت" عند المصريين القدماء.

وعلى هذا التعدد في صيغ اسم هذا الإله، إلّا أنها تتّحد في جوهرها الذي يحيل على صفاته، باعتباره إله العلوم والفنون، وإله التجارة والسياحة، ومرشد الناس إلى أسرار الفكر الإلهي، ورسول الحب، والوسيط بين الآلهة في القضايا المتعلقة بهذه العاطفة الإنسانية[7]. وبذلك، يتماهى الإله (مركور)، والزمن (الأربعاء) في هذه الصفات، التي ترتقي بهما معاً إلى مكانةٍ سامية.

وفي السياق نفسه، تأتي رفعة الشأن الاجتماعي ليوم الأربعاء فيما تتضمّنه "الليتورجيا" من إشارةٍ إلى أن أهل "حمص" كانوا يُحضِّرون فيه لأعياد الربيع القديمة[8]. كذلك، تتجلى المكانة الاجتماعية لهذا اليوم في ثقافة العرب القدماء، إذ كانوا يصفونه بـأنه يوم "ندىً ومكارم"، قبل أن يتحول إلى يوم شؤمٍ ونحس، وكلتا الصفتين تضمّنهما قول شاعرهم[9]:

أقول ليوم الأربعاء وقد غدا *** عليّ بوجهٍ أغبر اللون قاتمِ

بعثْتَ عليّ الأيامَ نحساً مؤبداً *** بشؤمك يا يوم الندى والمكارم

رؤيَةٌ تأصيلية

تتجلّى إذاً المكانة العليا لهذا اليوم اجتماعيّاً ودينيّاً. وتأسيساً على ذلك، يمكننا توليف هذه التشابكات في صياغة تأصيل أنثروبولوجي، ينطلق من استثنائية هذا اليوم، وما تفضي إليه هذه الاستثنائية من احتفاء اجتماعي به، كتخصيصه لأنشطةٍ روحية دينية وعقيدية، متّسقة مع استثنائيته، وما يترتب على ذلك، من إقرار الامتناع فيه عن القيام بأعمالٍ لا تنتمي إلى ماهيته. وهو ما يفسر إسقاط هذا الامتناع على أعمالٍ غير روحية. وبناءً على ذلك، فإن مزاولة أيّ عملٍ من الأعمال الواردة في صيغة التحريم تلك، سيفضي إلى تجريم فاعله، ومن ثم تأطير ما يقوم به من عملٍ وممارسات وسلوكيات ضمن دائرة المشمولين بعدم الرضى الديني والاجتماعي، ومن يشملهم التشاؤم من مصيرهم القادم[10].

عُرف يوم الأربعاء في تاريخ الفكر الإنساني باسم الرمز التوتوني الأكبر "وودن"، رمز الحكمة والشعر والحرب، بما تنطوي عليه هذه الرمزية من الإحالة على معاني القوة والسلطة والفن، التي تتضمّنها الرمزية الدينية في اسم الإله الروماني "مركوريوس"، الذي يتضمّن اسمه معنى كوكبه "عطارد"، ومعنى "الزئبق".

كما أن الرؤية الدينية الاجتماعية الساخطة على مَن يزاول في يوم الأربعاء أعمالًا تُحرّمها نواميسُها ــ في سياق برهنتها الضمنية على واقعية تشاؤمها من مصيره ــ تلتقط ما يتعرض له من مصائب في هذا اليوم، بوصفها عقاباً له. ولعل ذلك يحاول ايجاد الجذر في هذه الصورة الذهنية وحيثياتها المحسوسة في تلك المصائب العقابية، التي عملت على تعزيز ثقافة التشاؤم من يوم الأربعاء بتوالٍ توارثَتْه الأجيال.

______________________

  1. وهي بعنوان « les mythes dans la vie quotidienne » ومتوفرة كصورة PDF على الانترنت.
  2. أحمد الحامد، "مرواح الكوازم: قطاف من مجاني الشعر العامي في أحور والمحفد: زوامل، مساجلات، قصائد". ط1، إصدارات الهيئة العامة للكتاب، 2009، ص61.
  3. ابن قتيبة الدينوري، "الإمامة والسياسة". تحقيق: علي شيري. ط1، دار الأضواء، بيروت، 1990، جـ2، ص53،52.
  4. جورج كدر، "جذور النكتة الحمصية". دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، 2019، ص87.
  5. أحمد صالح الجبلي، "يوم الرّبوع! ما هي قصة هذا اليوم في مرويات المؤرخين". منصة خيوط، 3 يونيو 2020. مُتاح على الرابط:https://www.khuyut.com/blog/06-02-2020-07-51-pm
  6. جورج كدر، "جذور النكتة الحمصية". المرجع السابق، ص88.
  7. عبد الكريم اليافي، "دراسات فنية في الأدب العربي". مطبعة جامعة دمشق، 1963، ص413.
  8. جورج كدر، "جذور النكتة الحمصية". المرجع السابق، ص90.
  9. نفسه، ص88.
  10. سهاد سمير قنيطة، "التفاؤل والتشاؤم والرضا عن الحياة لدى المطلقات من قطاع غزة". رسالة ماجستير، الجامعة الإسلامية، غزة، 2016، ص15.

مقالات من اليمن

أغنية العيد في اليمن: مهادنةُ الواقع واجتراحُ السعادة

تنوّعت مضامين أغاني العيد في اليمن، بِتَنَوُّعِ واقعها الاجتماعي ومحيطها الإنساني المتزامِن مع حلول العيد، إذ تعمل من خلال ارتباطها بتفاصيل الواقع على تجاوز إشكالاته، والتعاطي معه بنوعٍ من احتفاء...

للكاتب نفسه

أغنية العيد في اليمن: مهادنةُ الواقع واجتراحُ السعادة

تنوّعت مضامين أغاني العيد في اليمن، بِتَنَوُّعِ واقعها الاجتماعي ومحيطها الإنساني المتزامِن مع حلول العيد، إذ تعمل من خلال ارتباطها بتفاصيل الواقع على تجاوز إشكالاته، والتعاطي معه بنوعٍ من احتفاء...

"تنصير" العيد في اليمن

يُعْجَنُ الرماد الناتج عن اشعال الحطب للطهي، بمادة "الكيروسين" أو "الديزل" المساعِدَتين على الاشتعال. ثم تقطّع العجينة وتُوْضَع داخل علب صغيرة معدنية، بينما يُكْتفى في مناطق أخرى بتشكيل هذه العجينة...