لوبيات الاستيراد والتصدير تتحكم في موائد المغاربة

المستهلك واقع بين سيطرة لوبيات الفِلاحة على قرارات التصدير والاستيراد، وبين جشع "الوسطاء". إذ يتضرر الفلاحون الصغار والمستهلِكون معاً من الوسطاء. فالفرق بين السعر الذي يبيع به الفلاح، والذي يشتري به المستهلك كبير.
2024-06-18

عائشة بلحاج

صحافية وباحثة في حقوق الإنسان، من المغرب


شارك
أحد أسواق الاغنام البلدية في المغرب

"لن أشتري خرفان إسبانيا، حتى لو بقيتُ بلا أضحية". تسمع هذا الإعلان كثيراً في الشوارع المغربية، هذه الأيام. يتبعه تأكيد على أن الأضحية الحقيقية هي التي تتم بالخروف المحلي، لا بخرفان البلدان الأخرى. لعلّ أصحاب هذا الرأي قلة، لكن صوتهم يُسمع أكثر من غيره. هم الرافضون بقوة خطوة الحكومة في استيراد ماشية أوروبا، لتوفير حاجة البلاد في عيد الأضحى.

يضاف موقف هؤلاء إلى رفض استهلاك لحوم عجول البرازيل المستوردة سابقاً، لتزويد الأسواق بحاجتها من اللحم، بعد تراجع إنتاج البلاد في هذا القطاع. فيما يخضع الآخرون لحكم الواقع راجين انخفاض الأسعار، ولو بخرفان الكواكب الأخرى.

ولأن "خبز الدار ياكلو البراني" كما يقول المثل المغربي، فخُضار المغاربة يأكله الآخرون في مغارب الأرض ومشارقها. وفي سوق الخضار، لا تجد في ملامح المشترين أيّ راحة أو اطمئنان، بل خوفاً وقلقاً شديدين. فالأسعار ترتفع بشكل صادم وسريع، في بلد فِلاحي بامتياز. لم يكن المواطن البسيط فيه يجد صعوبة في إطعام أسرته بالبديهيات من الخضار، كالبصل والبطاطا والطماطم والفلفل، وهي مكوّنات تصلح لعدد من الأطباق البسيطة.

لكن هذه البديهيات صارت فوق التحمّل، لتضَاعُف أسعارها بثلاث أو أربع مرات. أما الفواكه، فحتى الموسمي منها، مما كان يباع بأسعار رخيصة، تُلبي حاجة الأسر ولو بشكل طفيف، صار عصياً على جيوب هؤلاء.

ماذا حدث في المغرب الأخضر؟ وكيف تتحكم لوبيات الاستيراد والتصدير، في موائد المغاربة واقتصادهم؟

الوسطاء وطعام المغاربة

بحسب تقرير "المجلس الاقتصادي والاجتماعي"، وهو مؤسسة عمومية تُصدِر تقارير عن تقييم قطاعات مهمّة في البلاد، هناك حجـم مفـرط من "الوسطاء" في سوق الخضار، مع تقصير رسمي في مراقبتهم. تخضع الأسواق لجشعهم، وقسوة المضاربـة. فتَجاوَز تأثيرُ ذلك أسعار الخضار، ومسّ بجـودتها، لتسـببه فـي إطالـة مسـار قنـوات التسـويق. مما أدى إلـى ارتفـاع سـعر البيـع للمسـتهلك النهائـي.

هذا المستهلك واقع بين سيطرة لوبيات الفِلاحة على قرارات التصدير والاستيراد، وبين جشع "الوسطاء". إذ يتضرر الفلاحون الصغار والمستهلِكون معاً من الوسطاء. فالفرق بين السعر الذي يبيع به الفلاح، والذي يشتري به المستهلك كبير.

الوسطاء أيضاً يسببون مشاكل للفلاحين الصغار في سوق الماشية. بسبب استيرادهم الماشية الأوروبية، لتلبية طلب السوق المحلي في عيد الأضحى، بدلاً من تحمّل الدولة لمسؤوليتها في دعم الفلاحين الصغار المعتمِدين على الرعي في تغذية مواشيهم.

تدعم الحكومة المستوردين الكبار، مثل سلسلة الأسواق الكبرى، "مرجان"، و"كارفور"... لاستيراد الأضاحي، على حساب الفلاحين الذين يعملون في تربية المواشي. بدلاً من دعم هؤلاء للعودة إلى الاكتفاء الذاتي للبلاد، ومن أجل تخفيض أسعار الأضاحي التي تبلغ كل سنة أرقاماً قياسية.

مع تواصل شح الأمطار، يقل الأمل في ماء السماء، ويتم استنفاد ماء الأرض. وفي فترة تعيش فيها البلاد على إيقاع موجة عطش شديد، وبدء تدابير اقتصاد الماء، بما في ذلك انقطاعه لفترات طويلة من اليوم، تعصر الضيعات الكبرى ما تبقى من المياه الجوفية.

آخر ما حدث، في السياق، هو دعم المستوردين الكبار، مثل سلسلة الأسواق الكبرى، "مرجان"، و"كارفور"... لاستيراد الأضاحي، على حساب الفلاحين الذين يعملون في تربية المواشي. بدلاً من دعم هؤلاء للعودة إلى الاكتفاء الذاتي للبلاد، ومن أجل تخفيض أسعار الأضاحي التي تبلغ كل سنة أرقاماً قياسية.

ويتشكل لوبي الوسطاء من التجار الذين يقومون بتجميع المنتجات من عند الفلاحين، بالإضافة إلى السماسرة، وتجار الجملة، وتجار نصف الجملة، وهيئات التخزين البارد، والمؤسسات التعاونية…

دابة لا شية فيها ودابة لا يعيبها إلا غلاؤها

رفضُ الماشية المستوردة من بعض الفئات، ومراودة الشكوك فيها، له سببان: أولهما التشكيك في أعلاف هذه الماشية. وثانيهما، أنها مسألة مبدئية، تأخذ شكل احتجاج على فشل مخطط "المغرب الأخضر"، بسبب جشع الضيعات الكبرى، وتخلي الدولة عن الفلاح المغربي البسيط، الذي كان الرّعي أحد آخر حلوله، بعد تعرض الزراعة لعوامل الجفاف المتعاقِب، وسيطرة الفلاحين الكبار على مصادر المياه الشحيحة في الأصل.

لكن بالطبع، هناك فئات لا تهتم بأصل اللحم، بل بسعره. فمنهم من يشتري أرخص ما فيه، من أعناق الدجاج وكرشة الماشية، بعد أن صار اللحم في المغرب الأغلى بين بلدان المنطقة، فهو يفوق أسعار اللحم في مصر مثلاً بما يقارب الربع، إذ يبلغ سعر الكيلو غرام الواحد من لحم الغنم، الذي لم يعد كثيرٌ من المغاربة قادرين على شرائه، 140 درهماً (ما يعادل 14 دولاراً)، والبقر 100 درهم.

تصدير خضار المغاربة إلى أسواق الشمال

استغل المصدِّرون تضخم أسعار الخضار في العالم، لتحقيق أرباح قياسية، وتفضيل التصدير على تلبية حاجة البلاد الماسة، مع موجة الجفاف القياسية، التي قللت من نسب الإنتاج.. ومع غض الحكومة الطرف عن هذا التوجه، الذي يضر بالمواطن، وعدم قيامها بتخفيف جحيم التضخم على جيبه الخفيف.

بفضل هذا التضخم العالمي، زاد رقم معاملات صادرات الخضار، بنسبة وصلت إلى 50 في المئة مقارنة مع السنوات الخمس الماضية. وبحسب تحليل موقع (East-Fruit)، المتخصص في أسواق الخضار والفواكه في غرب أوروبا ووسط آسيا، فإن الطماطم هيمنت على مداخيل صادرات البلاد خلال 2023، لتصل إلى قرابة 1.2 مليار دولار. ما يمثل ما يقارب 70 في المئة من إجمالي قيمة صادرات الخضار، فاحتل المغرب الرتبة الثالثة في تصدير الطماطم في العالم. ويأتي الفلفل في الدرجة الثانية، ثم الكوسا، ضمن الخضار المصدّرة.

بسبب هذه السياسة، وصلت الطماطم في السوق المحلية إلى 15 درهماً للكيلو غرام الواحد في بعض فترات السنة، فيما لم تتجاوز سابقاً خمسة دراهم. ولا تنزل الكوسا عن العشرة دراهم للكيلو غراماً.

مع العلم أن هذه الصادرات تعرضت إلى ضربات قوية، من الفلاحين الإسبان المحتجين على المنافسة غير العادلة. حيث أتلفوا عدداً من الشاحنات العابرة لتراب بلادهم نحو باقي دول الشمال. وفي فئة الفواكه، حققت صادرات المغرب من التوت الطازج ارتفاعاً جديداً، إذ وصلت صادرات هذه الفاكهة، خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري إلى 66 ألف طن، وهي زيادة بنسبة 20 في المئة تقريباً عن العام السابق.

تجفيف المغرب الجاف

مع تواصل شح الأمطار، يقل الأمل في ماء السماء، ويتم استنفاد ماء الأرض. وفي فترة تعيش فيها البلاد على إيقاع موجة عطش شديد، وبدء تدابير اقتصاد الماء، بما في ذلك انقطاعه لفترات طويلة من اليوم، تعصر الضيعات الكبرى ما تبقى من المياه الجوفية.

هكذا، تتضرر البلاد من السياسات الفِلاحية، التي تمنح الفلاحين الكبار حرية التصرف في إنتاج مزروعات تستهلك الماء بشدة، في ظل أزمة جفاف شديدة، مثل زراعة الأفوكادو (فاكهة الزِّبدِية). مع العلم أن القطاع الفلاحي يستهلك 90 في المئة من المياه. لجأت السلطات إلى إجراءات لترشيد استهلاك الماء، كتقليص أيام عمل الحمامات ومحلات غسل السيارات، علماً أن المدن لا تستهلك سوى أقل من 10 في المئة من المياه.

قبل الاستحواذ على الزراعة، التهمت لوبيات التصدير السمك، خاصة من الشواطئ ذات الجودة المرتفعة، مثل شواطئ المتوسط. مدينة شاطئية على المتوسط، هي "الحُسيمة"، لن تجد فيها سمكة واحدة من شاطئها، بل كل الموجود فيها قادم من مدن بعيدة، والأسعار هناك أغلى منها في مدن غير بحرية، مثل "مراكش" و"مكناس".

في هذا الوقت، يتضرر الفلاح الصغير، الذي يعتمد على التساقطات المطرية، أو المياه الجوفية المستنزفة في الأصل، والدعم الضئيل الذي تقدمه الدولة له، ولمربي الماشية، مما دفعه إلى ما يوصف بـ"النزوح المجالي" نحو المدن، في ظل غياب المراعي، وغلاء أسعار الأعلاف.

قبل ذلك كله نهبوا السمك من موائد البسطاء

قبل الاستحواذ على الزراعة، التهمت لوبيات التصدير السمك، خاصة من الشواطئ ذات الجودة المرتفعة، مثل شواطئ المتوسط. فسردين هذه المنطقة، لا تجده في الأسواق التي تغرق بسردين الأطلسي الأقل جودة.

تخيّل بلدة شاطئية كـ "المضيق"، كانت شهرتها وشعبيتها تعتمد على سردينها الذي تصطف عشرات المطاعم الصغيرة، على زاوية من شاطئها، وتقدم أطباقه المشوية بأسعار بسيطة. لا يمكن وصف لذة هذا السردين. لكن الآن لن تجد في هذه المطاعم سوى سردين العرائش ذي الطعم العادي. لأن ما يُصطاد من محيطها، يذهب مباشرة إلى معامل التصدير، التي تقدمه للأسواق في العالم كله، بأسعار كبيرة.

لا يكمن مصاب المواطن المغربي فقط في اللجوء إلى التصدير والاستيراد على حسابه، وإنما في ما يراه من ضياع نسب هائلة من الخضار والفواكه، بسبب المضاربة. فالوسطاء يفضّلون إتلاف الفائض لتفادي نزول الأسعار، على إمداد السوق به.

مدينة شاطئية أخرى على المتوسط، هي "الحُسيمة"، لن تجد فيها سمكة واحدة من شاطئها، بل كل الموجود فيها قادم من مدن بعيدة، والأسعار هناك أغلى منها في مدن غير بحرية، مثل "مراكش" و"مكناس". مع العلم أن لوبيات السمك هي التي كانت السبب غير المباشر في مقتل بائع السمك "محسن فكري" مما أدى إلى اندلاع احتجاجات حراك "الحُسيمة" قبل سنوات.

في مناسبات كثيرة، ترتفع الأصوات داعية إلى الوقوف إلى جانب الفئات المتضرِّرة، لكن اللوبيات أقوى أثراً على القرارات الرسمية. مصاب المواطن المغربي لا يكمن فقط في اللجوء إلى التصدير والاستيراد على حسابه، وإنما فيما يراه من ضياع نسب هائلة من الخضار والفواكه، بسبب المضاربة. فالوسطاء يفضّلون إتلاف الفائض لتفادي نزول الأسعار، على إمداد السوق به.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...