كانت خارطة تحليق الطائرة تشير إلى بديهية المرور فوق قطاع غزة، خلال المسار من القاهرة إلى الدوحة. كانت الألوان الزرقاء والحمراء فوق الشاشة السوداء تلسع قلبي، وتوسِّع شرايينه في آن: سنمر الآن؟!
لم يحدث. نأتْ الطائرة بنفسها عن القطاع، أخذت مساراً بعيداً فوق البحر، وصلت إلى قبرص، ثم عادت منها الى قرب بيروت، وأكملت طريقها لتقطع الصحراء العربية، وصولاً إلى قلب الخليج.
لم يتعذر المرور لأن الحرب قائمة، ولكنها أمة العرب التي في غيها غائمة، فلم تملك "غزة" ذات الحصار إلا الاعتزال، والسعي ــ وحيدةً ــ نحو الانتصار. لم تجد "غزة" ذات التاريخ، المترفعة عن التوبيخ، إلا أن تنتبذ لنفسها وأهلها مكاناً شرقياً، علًها في عليائها ووحدة شقائها، تعيد يوماً تصحيح المسار.
حكمة الجغرافيا
طالما كان الذهاب شرقاً عند "غزة" يعني السعي إلى البقاء والاستمرار، على الرغم من الاضطرار إلى البعد عن جنوبها الغربي، المشبّه دائماً في حكاياتها بالخاصرة، وليس بكونه مجرد شريط حدودي. هناك حيث التجاور أو الانقسام بين مَدِيْنَتَيْ "رفح" المصرية، و"رفح" الفلسطينية: مدينتان تحملان الاسم نفسه، و تشيران إلى الدلالات نفسها، العميقة بعمق الأنفاق، والتي لا يمكن من دونها فهم حدود ما نعيشه الآن مع صواريخ "القسام".
دلالات تحكي عن مكانة المدينة، ولو بقت وحدها، داخل حدودها التي لا تزيد عن كونها 1.3 في المئة من مجمل أرض فلسطين، طولها 41 كيلو متراً، وعرضها يتراوح ما بين 6 و12 كيلو متراً، ومساحتها الإجمالية لا تزيد على 365 كيلو متراً مربعاً.
دلالات تقول إنه إذا كان المكان لا يملك إلا الامتثال لأبعاد ما تمليه الجغرافيا، فإن الإنسان ـ على قدر ضعفه ـ يملك وحده كتابة التاريخ، وفق إرادة تسمح له بتحديد وجهته، ولو تركته الحدود وحيداً من دون دعم أو إمداد.
عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!
29-03-2024
فحجم ما أنجزته تلك المنطقة عبر التاريخ، حين استوت المقادير وقدمت مصر لوادي غزة ما يتوازى مع ما تمليه عليها الجغرافيا، لم يمنع الفلسطيني في أوقات الانحسار، من أن يكثف حجم ما تبقى لديه من مدد، ليذهب به إلى خلق هوية، كثيراً ما ارتبطت بحدود قضية وطنية.
أثر الحكاية
للحكاية بالتأكيد جميل الأثر، خاصةً حين تذهب إلى قديم الزمان. وفي هذا الفيديو الذي نتمنى بقاء كل من ظهروا فيه وأحبائهم سالمين، تحكي "بيسان عودة" القصة ببساطة وعزّة، تحكي عن غزة، وكيف تشكلت تلك المدينة ذات الخصوصية والجمال.
عادت بنا إلى حوالي 3500 قبل الميلاد، إلى مدينة كنعانية ساحلية كان اسمها "تلّ العجول"، وهي إلى الشمال الآن من مدينة "غزة"، وكانت من أقدم التجمعات الحضريّة المعروفة للبشر، ومساحة الوصل بين أرض فلسطين والشام والعراق. كانت خط التجارة البحرية الذي استخدمه المصريون القدماء، وتوالت من بعده المدن، قياماً واندثاراً، ضمت قبائل كنعانية وفلسطينية وباليستية يونانية، وحضرت دوماً الإدارة المصرية العسكرية، حتى بزغت مدينة "غزة" الساحلية في حوالي العام 1600 ق. م. فتحولت إلى قلعة صناعة بحرية وقتال، واستقر فيها هذا الشعب، واكتسب خبراته الخاصة في الحياة والنضال.
طالما كان الذهاب شرقاً عند "غزة" يعني السعي إلى البقاء والاستمرار، على الرغم من الاضطرار إلى البعد عن جنوبها الغربي، المشبَّه دائماً في حكاياتها بالخاصرة، وليس بكونه مجرد شريط حدودي. هناك حيث التجاور أو الانقسام بين مَدِيْنَتَيْ "رفح" المصرية، و"رفح" الفلسطينية: مدينتان تحملان الاسم نفسه، و تشيران إلى الدلالات نفسها، العميقة بعمق الأنفاق، والتي لا يمكن من دونها فهم حدود ما نعيشه الآن مع صواريخ "القسام".
يحكي التاريخ عن الامتداد الثقافي الاجتماعي الغزي ـ المصري، فينقل لنا الباحث "عماد الدين رائف" روايات المستشرقين عن عادات الملبس والطعام والأذواق وأسماء الأسواق المتكررة في المكانين.
يحكي التاريخ كثيراً عن اعتصام أهل "غزة" فيها، وخوضهم الدفاع وحدهم أو في ضوء امتداداتهم الطبيعية، وبشكل خاص تلك التي تأتي من الجنوب الغربي. يحكي عن معارك بعضها شديد الشهرة كـ"جالوت" و"حطّين"، وبعضها غير معروف، وبعضها ذو ملمح ديني كمعركة "أفيق" التي ذكرها التوارة وحده، وكيف وقعت على أرض تلك القرية، في قضاء "غزة" أول معركة ضد القبائل العبرانية، التي وصلت حوالي العام 1100 قبل الميلاد، وحاولت السيطرة على طريق التجارة المصرية الكنعانية الفينيقة، وانتصر فيها أهل غزة، وقتلوا ـ كما تقول الرواية التوراتية ـ أربعة آلاف من بني إسرائيل، واستولوا على تابوت العهد. ووفق هذا، أنشأ الصهاينة أولى مستعمراتهم في العام 1948، فوق هذه الأرض على حدود غزة، باتجاه مدينة الرملة والخليل، وغيروا اسمها من قرية "ملبس" الفلسطينية إلى "بيتاح تكفا" أي فتحة الأمل.
يحكي التاريخ عن محاولة الإسكندر الأكبر ـ بعد فتحه لمصر ـ أن يدلف إلى مدن وادي غزة، وفشله في كسر حصونها التي انتشرت بدءاً من مدينة "خان يونس"، فذكرت المخطوطات اضطراره إلى توسعة "أنفاق" كانت موجودة بالفعل، تصل بين سيناء ووادي غزة، وعبرها فقط، وعلى الرغم مما دار فيها من قتال، استطاع الوصول إلى ساحل المدينة فى الشمال. وهي إحدى القصص التي رسّخت هذا المعنى شديد العمق والدلالة حول "أنفاق" غزة، كيف ومتى ولما دائماً لا تغيب.
أما في المعارك العربية الإسلامية الكبرى، مثل "حطين" بقيادة "صلاح الدين" عام 1239 ميلادية ، و"عين جالوت" بقيادة "سيف الدين قطز" في العام 1260، فحضرت غزة كمفتتح للجيش القادم من العاصمة المصرية، الذي قرر بدء الهجوم وعدم انتظار وصول الصليبيين أو التتار إلى القاهرة، فكانت المواجهة في غزة، ودور أهلها في الانضمام إلى هذا الجيش، وتهيئة المكان وخلق مساحات التمويه ونصب الكمائن لتكون الهزيمة الأولى، التي تسمح بمرور الجيش ووصوله إلى شمال فلسطين.
غزة 1847: رحلة من خان يونس إلى أسدود
22-10-2023
تحكي الوثائق عن خطة السلطان "سيف الدين قطز"، في إدارة معركة "عين جالوت"، إذ قسم جيشه على قسمين، الأول ـ وهو الأقل عدداً ـ في المقدمة تحت قيادة "الظاهر بيبرس"، للاشتباك الأول وإيهام التتار أن هذا هو إجمالي الجيش، قبل الانقضاض عليهم. غير أن هذا الانقضاض كان يستدعي انتصاراً أول على يد "بيبرس" وجيشه، وهو ما تمّ له داخل مدينة غزة، نتيجة انضمام شبابها إليه، وصمودهم حتى وصول القسم الأعظم من الجيش.
شاشة العرض الآن
وفي التاريخ المعاصر، تأتي الدلالات واضحة وصبوحة، فحين وقعت النكبة، وخطّت الأمم المتحدة على الأرض خط الهدنة، تأسست في غزة حركة فدائية من شباب مقاتلين، ممن وصلوا مع أفواج التهجير، وبدأوا في تنفيذ عمليات تسلل خلف خطوط العدو، وهو ما سمحت به وسهلته السلطات المصرية.
وهكذا بدأ وادي غزة في إصدار نسخة هوية حديثة له، تستوعب المعطيات ولا تتغير وفقاً لها، فضم إلى تعداد سكانه ـ الذي كان لا يزيد عن 80 ألفاً ـ ما يقارب 200 ألف لاجىء، واقترح قائد حرس الحدود، الضابط المصري "مصطفى حافظ"، إنشاء قوة مهمات خاصة مدرَّبة ومسلَّحة، للقيام بعمليات فدائية داخل فلسطين المحتلة. وهكذا تطورت حركة الفدائيين. وبعد قيام ثورة يوليو 1952، وعلى الرغم من عدم وضوح حقيقة توجهاتها في الأعوام الأولى، قويت الحركة الفدائية، وفي العام 1954 تحولت المجموعة الفدائية إلى كتيبة خاصة في سلاح الحدود المصري، تحمل رقم 141 وقوامها يصل إلى 1000 فدائي فلسطيني .
يحكي التاريخ كثيراً عن اعتصام أهل "غزة" فيها، وخوضهم الدفاع وحدهم أو في ضوء امتداداتهم الطبيعية، وبشكل خاص تلك التي تأتي من الجنوب الغربي. يحكي عن معارك بعضها شديد الشهرة كـ"جالوت" و"حطّين"،
وخلال العامين التاليين، تشكل معطيان مهمان في تلك العلاقة المصرية-الغزية. فعلى المستوى العسكري، قويت حركة الفدائيين، وشبت عن دورها من الاستطلاع خلف خطوط العدو إلى شن هجمات موسّعة ونصب كمائن وزرع ألغام، لتبلغ في عام واحد وفق حصر إسرائيلي 180 عملية.
على المستوى السياسي، ومع تزايد الشكوى الإسرائيلية من تلك العمليات من ناحية، والسعي الأميركي للاستمالة الأولى للحركة الانقلابية الشابة في مصر ضد الملكية من ناحية أخرى، أشيعت أخبار عن اتفاق مصري-أميركي، يدعم توطين 50 ألف فلسطيني في شمال سيناء، ويدعم مشروعاً تنمويّاً، يسمح بوصول مياه النيل وإحداث تنمية. فخرجت المظاهرات ضد الإدارة المصرية داخل القطاع منتصف عام 1955.
مشهدٌ ينذر بالخطر. لكن سرعان ما أبدت الإدارة السياسية الجديدة في مصر رفضها للخطة بل وهاجمتها. ومن ناحيةٍ أخرى أقدمت إسرائيل ـ للمرة الأولى بعد النكبة ـ على قصف القطاع.
تعرّض وسط مدينة غزة إلى وابل من القذائف المدفعية في نيسان/ أبريل 1956، تسبّب في قتل 59 شخصاً وجرح 93 آخرين معظمهم مدنيين. وردّت القيادة العسكرية المصرية على القصف بعشرات الهجمات، التي نفّذتها كتيبة الفدائيين في الأسبوع التالي، أسفرت عن مقتل 12 إسرائيليّاً، ولم يَعُد الهدوء إلا بعد تدخُّل الأمم المتحدة.
في التاريخ المعاصر، تأتي الدلالات واضحة وصبوحة، فحين وقعت النكبة، وخطّت الأمم المتحدة على الأرض خط الهدنة، تأسست في غزة حركة فدائية من شباب مقاتلين، ممن وصلوا مع أفواج التهجير، وبدأوا في تنفيذ عمليات تسلل خلف خطوط العدو، وهو ما سمحت به وسهلته السلطات المصرية. وهكذا بدأ وادي غزة في إصدار نسخة هوية حديثة له، تستوعب المعطيات.
بعد قيام ثورة يوليو 1952، وعلى الرغم من عدم وضوح حقيقة توجهاتها في الأعوام الأولى، قويت الحركة الفدائية، وفي العام 1954 تحولت المجموعة الفدائية إلى كتيبة خاصة في سلاح الحدود المصري، تحمل رقم 141 وقوامها يصل إلى 1000 فدائي فلسطيني .
نقلت المخابرات المصرية عمل الكتيبة إلى داخل "الضفة الغربية"، لتخفيف الضغط السياسي عليها. كان ردّ "إسرائيل" ـ على عمليات الفدائيين في الضفة الغربية ـ اغتيال الضابط المصري "مصطفى حافظ"، وتنفيذ عدد من الغارات الأخرى على القطاع، التي أوقعت 161 إصابة في صفوف المدنيين، حتى حانت فرصة الاجتياح الإسرائيلي الأول في تشرين الأول/ أكتوبر 1956 تحت مظلة العدوان الثلاثي على مصر.
يقول أستاذ علم الاجتماع في جامعة "بيرزيت"، "مجدي المالكي"، إن "حرب السويس" كانت اللحظة المؤسِّسة للتوحد الغزي بشكلٍ خاص مع المشروع القومي المصري، وحلول "جمال عبد الناصر" محل كل الزعامات الفلسطينية السابقة، وإدراك المقاومة لحجمها ودرجة أثرها.
من جانبها حاولت إسرائيل ـ خلال هذا الاجتياح الأول ـ كسر هذا الارتباط، فسعى جيشها إلى اعتقال الفدائيين ومعاقبتهم، بعدما أشاعت أنها عرفت هوياتهم. وخوفاً من العمليات الانتقامية، فرَّ حوالي 1500 عنصر من الفدائيين من القطاع. وفي غزة اعتقل جيش الاحتلال حوالي 4 آلاف من الفدائيين وحرس الحدود والجيش المصري، وأعدم العشرات من الفدائيين، وقتل 275 مدنيّاً فلسطينيّاً في "خان يونس" خلال البحث عن الفدائيين. وعند انسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع، في آذار/ مارس 1957، قُدّر عدد القتلى بحثاً عن الفدائيين بـ 1200 فلسطيني.
وأخذت تكتمل ملامح المد القومي المتشح بالزعامة الناصرية، إذ انسحبت القوات الإسرائيلية وحلت محلها "قوات حفظ السلام"، لكن خرج أهل غزة يهتفون باسم "جمال عبدالناصر"، ويطالبون بعودة الإدارة المصرية، توطدت العلاقات الاقتصادية غير الرسمية بشكٍل واسع على مدار ما يقارب العشر سنوات. والأهم من ذلك، هو ما تكَوَّنَ من مجموعات سياسية شابة، كان من أبرز أسمائها "جورج حبش"، الذي أسس حينها "حركة القوميين العرب"، واعتبر "غزة" بشكل خاص معقلاً لشبابها، في ضوء وجودها تحت الإدارة المصرية.
وعلى الرغم من الميل المصري إلى تقليل حجم العمليات الفدائية بعد "حرب السويس"، بل وعلى الرغم من صدور قرار عسكري قضى بحل الكتيبة 141 وتحويلها إلى مجموعات شرطية لحفظ الأمن داخل القطاع، إلا أن أعداد الشباب المتحمس لحمل السلاح تزايدت، وتكررت عملياته خلف خطوط العدو، على الرغم من بعض الانتقادات للنظام المصري، كتراجعه عن الوحدة مع سوريا وانخراطه في حرب باليمن... ثم انقسم ظهر كل هذا الجمع الغفير على أسنة الهزيمة المرة في حزيران/يونيو 1967، وأصبح القطاع مثل "سيناء"، و"الضفة الغربية"، و"الجولان" قيد الاحتلال.
يقول القيادي الفلسطيني "جورج حبش"، في كتابه "الثوريون لا يموتون": "كانت الدروس المستفادة من الهزيمة عام 1967 بالنسبة لنا أن الشعوب وحدها يمكنها أن تتحكم في التاريخ، فعلى الرغم من الاحترام البالغ لعبد الناصر كقائد، إلا أن الشعوب يجب أن تكون هي القائد وتشكّل المحرك الأساسي للنضال ضد إسرائيل".
توالت السنوات، تحمل تبدلات مرعبة في السياسة المصرية، حيث غاب البعد القومي الاشتراكي مع وفاة "ناصر"، ولم يتبقَ منه إلا دولته البوليسية، التي غيّرت توجهها السياسي على يد "السادات" المتبني للرؤية الأميركية للمنطقة، والذي وقّع معاهدة السلام المصرية مع إسرائيل.
تركة السادات: ذكريات مراهقين مصريين
30-07-2020
بعد 75 عاماً على النكبة: مقاومة الشعب المصري للتطبيع
11-05-2023
أما داخل القطاع الفلسطيني، فكما قال "حبش"، أصبحت الكلمة شعبية أكثر منها رسمية، وازدهر مكونها الفلسطيني القديم، من دون أن يفارق بعده القومي بل والتحرري العالمي، فازدهرت أجيال جديدة من المقاومة تحت الاحتلال، وولدت بشكل خاص "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" بقيادة "حبش" في طابع يساري ماركسي، وتأسست حركتا "فتح"، و"حماس"، وغيرهما. أما "منظمة التحرير الفلسطينية"، التي صبغها الطابع الرسمي في ظل الحال الناصرية، وتماهت مع توجهاته من دون القدرة على انتقاده، فتعرضت هي نفسها لانتقادات داخلية واسعة.
وعلى مستوى المقاومة، فدائماً ما يذهب السلاح إلى من يستطع حمله من دون تفكير في الأيدلوجيات. ومن وحي نضال الفلاحين الفلسطينيين في ثورتهم في الجبال ضد الانتداب البريطاني عام 1936، استكمل أبناؤهم وأحفادهم الدور، وكان من أبرز الأسماء ـ على سبيل المثال ـ "محمد الأسمر" القائد الميداني للجبهة الشعبية في غزة. وكما يتداول الغرب اسم "السنوار" الآن رغبةً في الانتقام، فعلوا ذلك مع "الأسمر" حتى اغتياله.
ومن رحم الأرض والتضييق، تزايدت الكثافة السكانية والفقر معاً داخل القطاع، لكنه تحوّل في الوقت نفسه إلى بوتقة لخلق الحركات السياسية، وقيادة الانتفاضات المتتالية، سواء بسلاح المقاوم أو بحجر الطفل أمام الدبابة الإسرائيلية.
على المستوى السياسي، ومع تزايد الشكوى الإسرائيلية من تلك العمليات من ناحية، والسعي الأميركي للاستمالة الأولى للحركة الانقلابية الشابة في مصر ضد الملكية من ناحية أخرى، أشيعت أخبار عن اتفاق مصري-أميركي، يدعم توطين 50 ألف فلسطيني في شمال سيناء، ويدعم مشروعاً تنمويّاً، يسمح بوصول مياه النيل وإحداث تنمية. فخرجت المظاهرات ضد الإدارة المصرية داخل القطاع منتصف عام 1955.
على الرغم من الميل المصري إلى تقليل حجم العمليات الفدائية بعد "حرب السويس"، بل وعلى الرغم من صدور قرار عسكري قضى بحل الكتيبة 141 وتحويلها إلى مجموعات شرطية لحفظ الأمن داخل القطاع، إلا أن أعداد الشباب المتحمس لحمل السلاح تزايدت، وتكررت عملياته خلف خطوط العدو
غاب الأثر المصري ولم تغب غزة. استمرت العلاقات الاقتصادية الرسمية وغير الرسمية وازدهرت، واستمر الارتباط الاجتماعي والثقافي البعيد، وأصبحت النوادي المصرية هي محط التشجيع الكروي لآلاف الغزيين. ثم وبعد ما يزيد عن ثلاثين عاماً، جاء "ميدان التحرير"، الذي لم يحضر فيه إلى جانب العلم المصري إلا العلم الفلسطيني، وطالب رواده بإلغاء الاتفاقية، وأغلقوا باعتصامٍ لهم السفارة الإسرائيلية.
انبلج الأمل، وفي أقل من عامين، انكسر، وتواترت عشرية صعبة، إلى أن فاجأتنا غزة.
فاجأتنا في أشد لحظات التداعي والالتباس العربي، وبروز عناوين أخرى داعمة للمقاومة على اختلاف أسبابها، فتقول إيران في بيان لها في منتصف الحرب، إن "طوفان الأقصى" جاء للرد على اغتيال قادة لها، فيخرج البيان الحمساوي سريعاً، لينفي ويهاجم ويغلّظ الرفض، لكن في الوقت نفسه، يخرج الشاب الحمساوي صاحب الشعبية الجارفة " أبو عبيدة"، ليقول في كل مرة: يا "عرب" لم ننتظر منكم - "لا سمح الله" - إلا إدخال الطعام، بينما بيانات القيادة السياسية للفصائل الفلسطينية تهتم بالحفاظ على اللغة الدبلوماسية، والتأكيد على التواصل مع كل الأطراف العربية، وبشكل خاص، ووفق مقتضيات الجغرافيا والتاريخ مع الجانب المصري.
إلا أن هذا الجانب مؤرق، وفي عيون أهله تسكن الأسئلة: من "نحن" في تلك اللحظة؟ أنحن من أسهم على مدار السنوات في تمرير هذا السلاح؟ أنحن من رفض عن وعي سيناريو التوطين؟ أنحن من يقود مفاوضات من أجل سلامة غزة وعدم هزيمة مقاومتها؟ أم نحن من نشارك في التجويع ونسمي المقاومة إرهاباً، وتنهال علينا القروض والتمويلات، التي كانت معلقة من أجل القبول بما ستمليه أميركا وتفرضه إسرائيل من اجتياح بري لمدينة "رفح"، وإعادة احتلال محور "فلادلفيا"،والسيطرة على معبر "رفح" المصري، بشكل كامل، و"بوابة صلاح الدين"...
سريان الحكاية
لا تزال الحكاية تجري على الأرض، تقول: نعم، صحيح، لا رواج تجاري وازدهار حضاري غزي فلسطيني من دون اتصال بامتدادها المصري، وهو في المقابل يستفيد منها وتنتعش موارده، غير أن هذا المنطق الذي يسري على التجارة ليس بالضرورة أن يسري على الجَسارة، فمن يملكها ويدرك طبيعة قضيته لن ينتظر شفاعة من جاره.
فاجأتنا غزة. فاجأتنا في أشد لحظات التداعي والالتباس العربي، وبروز عناوين أخرى داعمة للمقاومة على اختلاف أسبابها، فتقول إيران في بيان لها في منتصف الحرب، إن "طوفان الأقصى" جاء للرد على اغتيال قادة لها، فيخرج البيان الحمساوي سريعاً، لينفي ويهاجم ويغلّظ الرفض
وهكذا نعيش المشهد المأساوي، إذ يتردى في الدولة المصرية الوضع السياسي، ويفقد منطق الأمن القومي والمعنى الضميري معاً، فيذهب الشعب الفلسطيني ـ في غياب مصر وكل الأمصار ـ إلى الدفاع عن نفسه والنضال ولو لم يجد من يُغطّي ظهره، فهو لا يملك الانتظار، ويدرك أن اكتمال الانتصار يوماً لا يكون بانضمام كل من تخلّف.
كيف جرى تكبيل مصر واستعبادها؟
21-03-2024
وهكذا مرت بنا الأيام حتى نتابع غزة، وقد انزوت بنفسها مكاناً قصياً، فجاءها المخاض يعتصر أوصالها، قصفاً وإعداماً وتشريداً وتجويعاً وقطع أطراف، بينما تشْخص أعين الأحياء والأموات من أهلها، على حدود المقابر والخيام، وتقاسيم وجوههم وحنايا أوجاعهم تقول: كل وجع كان محتملاً لولا هذا القدر المهلك من الخذلان.
..
فلا تحزني أيتها المريمية، وهزي إليكِ ـ يا غزة الأبية ـ بجذع النخلة، يُسقط عليكِ، وعلى أهلك الكرام وعلى كل من بوصلته القضية الفلسطينية، رطباً جنياً.
أما مصر "المحروسة"، فلم يعد لها إلا الجغرافيا لتحمي مقامها الذي بعثرته الأيام على يد من تجرأوا وهبطوا بها حتى يرتفعوا، فغاصت الغمة بالأمة لأنهم دون أوزان.
لم يعد لها إلا الجغرافيا، فهي وحدها القادرة الآن على أن تصون حق "غزة" لديها على الرغم من هزيمة المعبر وما سبقها وما سيليها من ابتذال ووضاعة وهوان.
لم يعد لها إلا الجغرافيا تعيد تلقين الجميع درس التاريخ الذي غاب، وأعادت المقاومة الفلسطينية إحياءه، فأصبح معها كل موت ووجع وحسرة ليس إلا دفقة حياة تعيد ضخ الدم في الشريان.