غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون. ولكن إذا ما أعطي هؤلاء القرويون في فلسطين اسماً ليس بسبب نمط عيشهم، بل بسبب الأصل، فينبغي بالطبع أن يطلق عليهم اسم الكنعانيين، وهو اسم تلك القبيلة القديمة.. أرضهم دمّرها الغزاة، ولكن لم يستطع أحد أن يدمّرهم في النهاية.
2024-04-11

عماد الدين رائف

كاتب وصحافي من لبنان


شارك
غزة طباعة حجرية، بطرسبورغ 1890

نادرة هي نصوص الرحالة الأوروبيين المتعلقة بمدينة غزة وأهلها في القرن التاسع عشر. فالمدينة لم تكن مدرجة ضمن كتيّبات السياحة الدينية، حين اعتُبر الحجّ الدافع الأول لحث الناس على زيارة فلسطين. والأكثر ندرة تلك الأعمال التي لم تكتسِ بالغرائبية، أو الخلفية الاستشراقية المثقلة بأحكام أوروبية مسبقة، عند الحديث عن بلادنا في تلك الحقبة، بغض النظر عن المنطلقات الحضارية أو الدينية لكتّابها.

بعد غربلة آثار الرحالة والمستشرقين التي تشكل مكتبة ضخمة، تجذبنا بعض النصوص التي صاغها أصحابها بواقعية، لترسم معالم المدينة وتتحدث عن ناسها. وتأتي في الصدارة أعمال الرحالة الذين كانت أهدافهم معرفية، بعد تذليل الحاجز اللغوي بينهم وبين أهل البلاد.

الاستكشاف والمعرفة

إن لم تكن الزيارة بهدف الحجّ، فما الدافع من ورائها؟

رأى الكاتب التشيكي فرانتيشيك كليمنت (1851 - 1933) صاحب كتاب "فلسطين" (براغ، 1895)، الذي وصف فيه رحلته سنة 1870، أن "الناس لا يقصدون فلسطين للترفيه عن أنفسهم، لكن بهدف الاستكشاف والمعرفة، ونستثني من ذلك الحجاج المتدينين". وقدم عدداً من النصائح وعرضاً للأغراض واللوازم المطلوبة. أظهر كليمنت في نصوصه موهبته في الرصد، فكتب بواقعية مستخدماً الاسم الأدبي كويدو مانسفيت، مبتعداً عن أسلوب من سبقوه عند حديثهم عن الشرق، وترك إلى جانب كتاب "فلسطين" كتابين هما: "من يافا إلى القدس" (1894)، و"من ريح الصحاري" (1909) وقصصاً نشرها في مجلة "كفيتي".

عرفنا رحلة أخرى وصل صاحبها إلى غزّة، وكان هدفها معرفياً، وهي رحلة الطبيب الروسي أرتيمي ألكسيفيتش رافالوفيتش (1816-1851)، الذي دوّنها في تقرير بعنوان "رحلة من القاهرة إلى فلسطين: العريش، غزة، يافا، القدس"، نشرته "مجلة وزارة الشؤون الداخلية" الروسية في سان بطرسبورغ سنة 1847. وينتمي هذا التقرير إلى مجموعة "تقارير طبيب روسي أُرسل إلى الشرق"، التي نشرتها الدورية تباعاً.

يقول سوفورين: "استقبلوا خليطاً كبيراً من الدم الغريب من الإغريق والفرنجة والعرب، ولكن في لغتهم وعاداتهم ودينهم، لا يزال فلاحو فلسطين الحاليون قريبين جداً من الكنعانيين. مصيرهم يؤكد أن الحروب، حتى حروب ذلك الزمن القديم التي كانت تؤدي إلى إبادة ثلث السكان واستعباد من تبقّى منهم، غير قادرة على إزالة شعب جذوره ترسخت في الأرض واعترف بنفسه كشعب، وأنه المالك الأصلي للبلاد".

كذلك، تتصدر غزة كتاب فرديريك آرثور نايل (1821-1863) "ثماني سنوات في سوريا وفلسطين آسيا الصغرى من 1842 حتى 1850". خصص نايل لغزة 22 صفحة بعد إقامته شهوراً فيها. وقد صدر كتابه في مجلدين في لندن عام 1851. يعتبر هذا الكتاب أبرز أعمال نايل عن بلادنا، فقد عمل في تلك المرحلة ملحقاً في القنصلية البريطانية في سوريا، ولا يخفى أن الهدف من وراء تجواله يتعلق بعمله، إلا أنه ترك أعمالاً أخرى ذات نكهة أدبية، ومنها "أمسيات في أنطاكيا: مشاهد من الحياة السورية (1854)، و"جرّة زيتون" (1862).

غزة 1850 تتصدر كتاب فريدريك نايل

عوائق لغوية

أبرز من تحدث عن الحاجز اللغوي بين الرحالة وأهل البلاد، وضرورة تذليله، فرانتيشيك كليمنت، يقول: "على المسافر أن يستعدّ بجد لهذه الرحلة، وعليه إتقان اللغة العربية إلى درجة تجعل التواصل مع السكان العرب ميسراً، وأن يحفظ عن ظهر قلب مئتي جملة قصيرة وعدداً مماثلاً من الكلمات للاستخدام اليومي المستمر، وستكون كافية بناء على تجربتنا الخاصة". أما الغاية من ذلك فيورده في قوله: "إذا ما انغمس المسافر جزئياً في عادات العرب وأعرافهم، فستكون حصيلة رحلته مهمة جداً ومضمونة مسبقاً".

كذلك فعل الكاتب الروسي ألكسي ألكسيفيتش سوفورين (1862-1937)، الذي زار غزة عام 1889، وتأخر في نشر كتابه "فلسطين" (1898) نحو عقد من الزمن، لكن فيه معلومات عن الإقامة وتكاليفها، وعَرّف الكاتب بعادات أهل البلاد وأعرافهم. وهو على الرغم من تضمينه الكتاب أقوال من سبقوه بغثها وسمينها - وهذا يؤخذ عليه - إلا أنه يمكن الركون فقط إلى ما شاهده بأمّ عينه وسمعه بنفسه.

في المقابل، نرى أن فرديريك نايل يجاهد كي يتجاوز الحاجز اللغوي، ويضيق ذرعاً بالمترجمين الذين قد لا يحسنون الترجمة، مستخدما مصطلح "دراغومان" التركي، وهو تحريف للفظة "ترجمان". ويُشعر القارئ بعزلة المسافر الأوروبي عن المحيط العربي إن لم يلمّ، ولو قليلاً، بأساسيات العربية المحكية في فلسطين.

ونلحظ، مثلاً، أن رحلة الشاعر البولندي يوليوش سلوفاتسكي (1809-1894) لم تكن ميسرة. فبالإضافة إلى ضعف التواصل، وصل إلى غزة سنة 1836 مرهقًا مشوش الذهن بعد معاناة شديدة في الحجر الصحي وليال ممطرة عاصفة. لم تسعفه الكلمات لوصف المدينة في رسائله إلى والدته، لكن ثمار الرحلة إلى المشرق بدأت في الظهور بعد مغادرته بلادنا، فأنتج رائعته في الدراما الشعرية "أنهللي".

لم يرد على ألسنة الرحالة الذين زاروا غزة وكتبوا بواقعية بعيدة عن الموروث الديني أو الاستشراقي أي ذكر لليهود فيها. والكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في المدينة هي كنيسة العائلة المقدسة للاتين، والتي تأسست سنة 1974. يُذكر أن هذه الكنيسة آوت مطلع كانون الأول/ ديسمبر 2023 نحو 600 لاجئ ولاجئة، وتعرضت لغارات إسرائيلية ورصاص القناصة الصهاينة.

تلك كذلك كانت حال الكاتب الروسي نيقولاي فاسيليفيتش غوغول (1809-1852)، الذي كان يجول هائماً في ضوضاء نفسه يكاد يكون منفصلاً عن الواقع المتحدث بلغة غريبة عنه، فقد طغى الجفاف على ناظريه، فهو من جهة لم يفرّق بين الأمكنة، ومن جهة أخرى، لم ترَ عيناه جمال فلسطين الذي تغنى به الشاعر بيوتر أندريفيتش فيازيمسكي (1792-1878)، ولا الطبيعة الساحرة التي جسدتها لوحات مكسيم نيكيفوروفيتش فوروبيوف (1787-1855) وتلميذاه غريغوري ونيكانور تشيرنيتسوف، وفاسيلي دميتروفيتش بولينوف (1844-1927) وآخرون.

في فلسطين بريشة ألكسي كيفشينكو

البساط الأخضر

يُحرَم الواصل إلى غزة براً من الجنوب من مشهد رائع، وتلك كانت حال نايل وسلوفاتسكي ورافالوفيتش، لكن الشرفة المطلة على المدينة يصل إليها المسافر من القدس، وهو الطريق الذي سلكه ألكسي سوفورين وفرانتيشيك كليمنت. يقول الأول: "... للوصول إلى غزة علينا الذهاب إلى جبل المنطار. إذ تقع المدينة على بعد نصف ساعة منه. من هذا التل ينفتح مشهد واسع في جميع الاتجاهات، ويمكننا رؤية غزة كلها. تبدو صغيرة جداً للوهلة الأولى، فمن المستحيل حتى أن نفهم أين ذهب سكانها البالغ عددهم 16 - 18 ألف نسمة. إنها ترقد مثل سجادة خضراء طويلة ملقاة بين الرمال. إلى اليمين، مبنى من طبقتين فوق تلّ يسكن فيه القائمقام. يوجد أيضاً مكتب تلغراف وخان للمسافرين. وخلفه ترتفع مئذنة المسجد الرئيس الضخمة والجميلة ذات الزوايا الثماني. إلى اليسار، على السجادة الخضراء، توجد بقعة صفراء كبيرة، تبدو للوهلة الأولى كثباناً رملية، ولكن إذا ما دقّقنا النظر نجدها أكواماً من المنازل الترابية. هذا هو قلب غزة. لا تخضع المدينة لحراسة المآذن ورؤوس أشجار النخيل الخضر فحسب، بل ترتفع فوقها مدخنة مصنع للصابون كذلك".

يجاهد الدبلوماسي البريطاني فرديريك نايل (1821-1863) كي يتجاوز الحاجز اللغوي، ويضيق ذرعاً بالمترجمين الذين قد لا يحسنون الترجمة، مستخدما مصطلح "دراغومان" التركي، وهو تحريف للفظة "ترجمان". ويُشعر القارئ بعزلة المسافر الأوروبي عن المحيط العربي إن لم يلمّ، ولو قليلاً، بأساسيات العربية المحكية في فلسطين.

يقول نايل: "تصل القوافل إلى غزة من مصر يومياً. عدد الروم فيها نحو ألف وخمسمئة، والأرمن قليلون جداً، وليس هناك يهود أبداً...غزة هي المدينة الأكثر تسامحاً في تركيا كلها. كان أحد هذه المساجد في الماضي كنيسة مسيحية، وكان هناك صليب منحوت وسط البهو وكان مرتفعاً للغاية ولم يزل. يعيش المسلمون هنا مع جيرانهم المسيحيين بوفاق، نادراً ما يتجادلون أو لا يتجادلون أبداً".

أما كليمنت فانطلق من جبل نيبو (شرقي الأردن)، يقول: "... وبعد سبع ساعات من الراحة ليلاً، نهضنا وركبنا عند الرابعة صباحاً، وواصلنا السير في الهواء الطلق إلى المرتفعات، على طول الطريق المؤدي من القدس مباشرة إلى غزة. لفتتنا الكهوف الصخرية، وفكرنا في زمن كانت تؤوي مجتمعاً من الزاهدين. مررنا في منطقة جبال يهودا الأقل إثارة للاهتمام، وسننزل منها بعد ذلك إلى سهل الفلسطينيين المبارك. ها هو المشهد بأكمله ينكشف أمامنا الآن، سهل منبسط تتخلله تلال خفيضة، مشهد رائع، هناك عدد قليل من القرى. سهل رحب فسيح، لو انتظمت ظروف الزراعة فيه لازدهر وأنتج محاصيل وافرة، إلا أن المشاحنات بين البدو وسكان الريف حيناً، وابتزاز الحكومة للفلاحين الفقراء، ومعاملتهم وفق منطق القوة، من العوامل التي لم تسمح لهم بتنمية السهل. نحو الساعة الثانية ظهراً ظهرت لنا أخيراً أشجار النخيل النحيلة وبساتين البرتقال والزيتون التي تزنر مدينة غزة، وخلال ربع ساعة توقفنا في أحد هذه البساتين. نصبنا خيامنا على الفور، ولم ننتقل منها سوى في اليوم التالي".

غزة الغارقة في أخضر سعف النخيل والأشجار المثمرة أول ما ترتطم به عين المسافر، ويرد تعبير "البساط الأخضر" و"البستان الضخمة" لدى الآخرين، ومنهم يوليوش في إحدى رسائله.

ويضيف كليمنت في موضع آخر: "تقع غزة اليوم على ارتفاع 55 متراً فوق مستوى سطح البحر، وأكبر عيب فيها هو أن الطريق الرملي غير المريح يستغرق ما يقرب من ثلاثة أرباع الساعة للوصول إلى الشاطئ. المدينة نفسها تعاني أكثر من غيرها نتيجة هذا الموقع غير السار، بحيث من المحتمل أن تظل مغلقة أمام الاتصال المباشر عن طريق البحر. وأجمل منظر للمدينة توفره تلة المقبرة، الواقعة على مسافة غير بعيدة إلى الجنوب الشرقي. من هناك تنكشف أمام العين أكثر المساحات الخضراء المظللة بالألوان، كأن المدينة تقع وسط حديقة ضخمة، يوجد فيها عدد كبير من المباني. مياه الينابيع هنا ممتازة وهي تتدفق بغزارة، تبث الحياة في الأراضي المزروعة وتعطي ثماراً رائعة".

وقد وصف سوفورين المشهد عن قرب، يقول: "حقول غزّة مليئة بالخصب ومعظم الناس يزرعون الحنطة والذرة البيضاء. تحيط بالمدينة أشجار الزيتون والتين، إلى جانب أشجار أخرى كبيرة وجميلة، أما أشجار النخيل فتسود على كل شيء".

سوق المدينة

يهبط الرحالة من الجبل إلى "سهل الفلسطينيين المبارك"، وأول ما يجذبهم سوق المدينة. يقول سوفورين: "السوق في غزة ليس كبيراً، لكن من الواضح أنه يكفي أبناء المدينة على كثرتهم. هناك أشياء كثيرة في غزة تذكّرنا بمصر. مناخها نفسه يشبه مناخ دلتا النيل سواء في شمسه أو في أشجار النخيل التي تنمو هنا بحرية. المباني، على الرغم من كل الزخارف التصويرية، إلا أنها تكتسي إلى حد ما بطريقة البناء القاهرية، على سبيل المثال، مئذنة المسجد المثمّنة".

ويقول كليمنت: "الحياة في المدينة مطبوعة بالطابع المصري نتيجة ارتباطها الحيوي بذاك البلد. يمكننا ملاحظة ذلك في السوق التي تكررت زياراتنا لها، وهي سوق كبيرة جيدة التجهيز، تشبه بصورة كبيرة الأسواق المنتشرة في المدن المصرية. أول ما اشتريناه هناك بعض من تمور غزة الشهيرة والممتازة ذات المذاق الرائع والحجم الكبير. يزودنا بائع الفاكهة بأنواع متعددة من التمور في مقابل المجيدية الفضية (ربع المجيدي). في غزة، تمتلئ أيدينا بقطع النقد النحاسية التركية، ولا يمكننا أن نعرف إذا ما كانت كلها تساوي نصف مجيدي أو بشلكاً قصديرياً. مشكلة التعامل بالنقود المعدنية التركية فظيعة للغاية هنا. يتباين سعر صرف النابليون والروبل القيصري الفضي والليرة الإنكليزية بين مدينة وأخرى، وكذلك تتقلب قيمة المجيدية التركية الأكثر انتشاراً من حيث عدد القروش التي يتلقاها الأجنبي مقابلها. لذلك يكون سؤالنا الأول في كل مدينة نزورها: كم قرشاً مقابل النابليون؟ وهو سؤال ضروري للنفقات الصغيرة، ويمكن للمسافر تفادي الخسارة، لكن يتحتم عليه دائماً فحص قطع النقد الذهبية، لأن أغلبيتها تحتوي على شقوق صغيرة، وبالتالي يخسر المسافر عند صرفها لأن وزنها ناقص. الخسارة واقعة لا محالة عند التعامل مع الصرّافين، سواء في الشارع أو في المحال التجارية، بل حتى مع عدد من البنوك، ويكثر أن تبقى قطع النقد المعدنية في جيوب المسافرين في أثناء عودتهم إلى ديارهم كتذكار من فلسطين". ويضيف في موضع آخر: "بين هذه الأبنية القديمة يعثر الناس على تحف معدنية جميلة وعملات معدنية وتماثيل رخامية من العصور الغابرة. يتجول أحد الموظفين المحليين حول الأجانب بصورة دائمة، ويعرض عليهم شراء أحذية متنوعة عالية الجودة بأسعار بخسة. قد يرغب في الحصول على ليرة كاملة لكنه يرضى ببعض القروش".

أهل البلاد

"كانت مفاجأة كبيرة لأهل مدينة غزة أن يروا أجنبياً أشقر الشعر قادماً إليهم من وسط هذه البلاد"، كما قال كليمنت. أما سوفورين فلفته لباس النساء، يقول: "إن طريقة تغطية النساء وجوههن هنا أقرب إلى الطريقة القاهرية منها إلى الفلسطينية، ففي القدس، تغطي النساء وجوههن بالشاش الملوّن. لدى النساء في غزة شريط من الكتان يتدلى من عصابة الرأس وينقسم إلى قسمين أدنى الأنف... تتطلّب الأعراف أن تتجنّب النساء مقابلة الإفرنج. لا يمكننا التعرّف إلى أعمارهن إلا من رؤيتنا أيديهن، فإذا لم تكن ذابلتين ومتجعدتين، فعمر المرأة أقل من عشرين عاماً، ولكن فوق هذا السن، وفق العرف المحلي، يعتبرن نساء كبيرات. التقينا بطفلة مغطاة الوجه. وعندما رأتنا توقّفت ثم ابتعدت قليلاً. كانت تبدو فقيرة تحمل جرة فخارية على كتفها. كان بإمكاننا رؤية وجهها الشاحب والمرهق".

يقول الكاتب التشيكي فرانتيشيك كليمنت "المشهد بأكمله ينكشف أمامنا الآن، سهل منبسط تتخلله تلال خفيضة، مشهد رائع، هناك عدد قليل من القرى. سهل رحب فسيح، لو انتظمت ظروف الزراعة فيه لازدهر وأنتج محاصيل وافرة، إلا أن المشاحنات بين البدو وسكان الريف حيناً، وابتزاز الحكومة للفلاحين الفقراء، ومعاملتهم وفق منطق القوة، من العوامل التي لم تسمح لهم بتنمية السهل".

يقول كليمنت: "أجمل منظر للمدينة توفره تلة المقبرة، الواقعة على مسافة غير بعيدة إلى الجنوب الشرقي. من هناك تنكشف أمام العين أكثر المساحات الخضراء المظللة بالألوان، كأن المدينة تقع وسط حديقة ضخمة، يوجد فيها عدد كبير من المباني. مياه الينابيع هنا ممتازة وهي تتدفق بغزارة، تبث الحياة في الأراضي المزروعة وتعطي ثماراً رائعة".

وربما لن نقف على وصف أفضل لأهل غزة وفلسطين عموماً من شهادة سوفورين حين يقول: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون. ولكن إذا ما أعطي هؤلاء القرويون في فلسطين اسماً ليس بسبب نمط عيشهم، بل بسبب الأصل، فينبغي بالطبع أن يطلق عليهم اسم الكنعانيين، وهو اسم تلك القبيلة القديمة.. أرضهم دمّرها الغزاة، ولكن لم يستطع أحد أن يدمّرهم في النهاية، تحوّلوا إلى حطّابين وسقاة ورعاة. استقبلوا خليطاً كبيراً من الدم الغريب من الإغريق والفرنجة والعرب، ولكن في لغتهم وعاداتهم ودينهم، لا يزال فلاحو فلسطين الحاليون قريبين جداً من الكنعانيين. مصيرهم يؤكد أن الحروب، حتى حروب ذلك الزمن القديم التي كانت تؤدي إلى إبادة ثلث السكان واستعباد من تبقّى منهم، هي غير قادرة على إزالة شعب جذوره التي ترسخت في الأرض واعترف بنفسه كشعب، وأنه المالك الأصلي للبلاد. إن دماء ولغة ومعتقدات الشعوب الغريبة تترك آثارها هنا، لكن لا يمكن لأي من الغزاة أن يطمس وجه هذه البلاد المكسو بطبقة قديمة من الطين، تبدو مرنة جداً. يمكن للعاصفة أن تبعثر غابة من القصب في اتجاهات الرياح الأربع، ولكن يأتي طقس هادئ، فتنتصب مرة أخرى على جذورها، تقف كفرشاة ذات شعر كثيف متناسق. التاريخ يقود من دون وعي قانون الأخلاق العليا، حيث الأخير سيغدو الأول في الوقت المناسب. ويتحقّق ذلك بطريقة طبيعية وبسيطة بشكل مدهش. إذا استعبدت جحافل أجنبية البلاد وشعبها الأصلي، فإن الأجنبي المنتصر يبذل دائماً عملاً شاقاً ويُهزم في الميدان. قوّة العمل نفسها تكيّف جسد ابن البلاد مع المناخ، وتمنعه ​​من الضعف والخمول. وهكذا ينتصر السكان الأصليون، نصف المدمّرين، على الغزاة".

السماحة والتسامح

يجذب المسجد الكبير الرحالة كمعلم رئيس في المدينة. يقول نايل: "تصل القوافل إلى غزة من مصر يومياً... عدد الروم فيها نحو ألف وخمسمئة، والأرمن قليلون جداً، وليس هناك يهود أبداً...غزة هي المدينة الأكثر تسامحاً في تركيا كلها. لقد سمحوا لي بدخول المساجد بحرية حتى وأنا أرتدي حذائي. كان أحد هذه المساجد في الماضي كنيسة مسيحية، وكان هناك صليب منحوت وسط البهو وكان مرتفعًا للغاية ولم يزل... يعيش المسلمون هنا مع جيرانهم المسيحيين بوفاق، نادراً ما يتجادلون أو لا يتجادلون أبداً".

فيما يقول كليمنت: "أكثر ما جذب اهتمامنا، من بين مباني المدينة، المسجد الكبير الذي بني على أنقاض كنيسة صليبية، والتي كانت بُنيت بدورها فوق معبد قديم. لا يوجد أي تعصب تجاهنا ولم نتعرض لأي إساءة هنا في غزة أو في فلسطين كلها، ولم يحدث أن كنا في خطر من جانب المسلمين. دخلنا المسجد من دون سابق إنذار بجواربنا. داخله، أضيف صحن إلى صحون الكنيسة القديمة الثلاثة، مع المحافظة على الأروقة والنوافذ والمداخل بأسلوبها الأصلي. يوجد حول المسجد فناء مرصوف بصورة جميلة، يمكنك من خلاله المشي إلى المدارس ذات الطراز العربي. في إحدى الغرف تحلّق نحو 30 ولداً فلسطينياً حول معلمهم وهم يرتلون بانسجام تام السورة الـ109 من القرآن، وهي تقول: "وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ. وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ". إنها سورة معقولة بشكل رائع. كانت جوقة الأطفال ترتلها بصوت جميل عال، ومع الأولاد معلمهم الجالس على درجة مرتفعة فوق سجادة رثة. حاولنا عدم إزعاجهم وهم يتابعون الترتيل. هناك مسجد قديم آخر، دُفن فيه هاشم، جد النبي محمد. فيه منحوتات شبكية قديمة رائعة الصنع تؤدي إلى المنبر المزخرف. ويتمتع بساحة أمامية جميلة ذات أعمدة. في أثناء مرورنا بشوارع المدينة الداخلية، لاحظنا في كل مكان تقريباً البقايا الرائعة للمباني القديمة وأعمدة الغرانيت وأبنية الحجر الرملي. غالباً ما تكون الأعمدة مصنوعة بصورة متقنة من الرخام الأبيض، وفوقها تيجان تبرز جمالية العمارة الداخلية خلفها. كما أن الكتل الحجرية الكبيرة أمر شائع هنا".

عن مسجد هاشم يقول سوفورين: "المسجد الرئيس الذي يضم قبر هاشم، جد محمد النبي، الذي كان تاجراً عربياً توفي هنا. بُني المسجد على أنقاض كنيسة مسيحية. يظهر ذلك من أعمدته الرخامية الرمادية الرقيقة مع العروق الزرق، المغطاة بتيجان كورنثية أنيقة. تبدو الأعمدة أسيرة أقبية الجير الأبيض الثقيلة التي تدعمها... لا شك أن الجير الذي يغطي الأقبية والجدران بكثافة يخفي اللوحات والفسيفساء المسيحية. قد يأتي يوم يشكر فيه أهل الفن المسيحي هذه البساطة الإسلامية لأنها حافظت على أعمال الفنانين القدماء سليمة".

الكذبة الصهيونية

كما هي العادة لدى الصهاينة، يبدأ الأمر بكذبة مثل فقاعة صابون هشّة تتجمع عليها الأغبرة فيصير لها وجود فعلي. اليوم تعيد الأوساط الصهيونية في البلاد السلافية إعادة إحياء كذبة غير قديمة، فحواها أن "كلمات عبرية منقوشة أسفل عمود في حديقة الكنيسة الكاثوليكية، شمال مدينة غزة، تدلل على وجود حي يهودي في المدينة في القرن التاسع عشر"! لا يمكن لباحث مناقشة مسألة وجود جملة عبرية أسفل عمود لم يره أحد، لكن ما هو أصل كذبة ربط جملة عبرية بوجود حي يهودي؟

لم يرد على ألسنة الرحالة الذين زاروا غزة وكتبوا بواقعية بعيدة عن الموروث الديني أو الاستشراقي أي ذكر لليهود فيها، بل نجد أنه كان من الأولى على كليمنت ويوليوش الكاثوليكيين أن يزورا تلك الكنيسة، مع العلم أن الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في المدينة هي كنيسة العائلة المقدسة للاتين، والتي تأسست سنة 1974. يُذكر أن هذه الكنيسة آوت مطلع كانون الأول/ ديسمبر 2023 نحو 600 لاجئ ولاجئة، وتعرضت لغارات إسرائيلية ورصاص القناصة الصهاينة الذين قتلوا بدم بارد أما وابنتها في 16 كانون الأول/ ديسمبر، حيث أعرب رئيس أساقفة وستمنستر الكاردينال فنسنت نيكولز (أبرز شخصية كاثوليكية في بريطانيا) عن رُعبه من ذلك، وأدان البابا فرانسيس الهجوم بشدة.

يقول سوفورين: "السوق في غزة ليس كبيراً، لكن من الواضح أنه يكفي أبناء المدينة على كثرتهم. هناك أشياء كثيرة في غزة تذكّرنا بمصر. مناخها نفسه يشبه مناخ دلتا النيل سواء في شمسه أو في أشجار النخيل التي تنمو هنا بحرية. المباني، على الرغم من كل الزخارف التصويرية، إلا أنها تكتسي إلى حد ما بطريقة البناء القاهرية، على سبيل المثال، مئذنة المسجد المثمّنة".

على أي حال، نجد أن الرحالة صرحوا جهاراً، ولم يطلب منهم أحد ذلك، بعدم وجود يهود أو أي معبد أو مَعْلم لهم في المدينة. والكذبة الصهيونية بحد ذاتها ليست قديمة، وهي تعود إلى ما ردده الرئيس الأسبق لكيان العدو إسحاق بن تسفي في الخمسينيات، وكرره رئيس صحيفة "هاليفانون" العبرية ويشيل بريل. ومنبع الحكاية تاجر الشاي زئيف كالونيموس فيسوتسكي (1824-1904)، أحد قادة "حركة أحباء صهيون"، جال في أرجاء فلسطين في ثمانينيات القرن التاسع عشر وعبّر عن أحلامه ببناء مستوطنات يهودية في جميع المدن العربية، وعدّد تلك المدن على مسامع أبناء جلدته، ومنها "اللد والناصرة ونابلس وغزة ورام الله وبيت لحم وعسقلان وعمّان وصور وصيدا"، زاعماً أن "هذه هي أرض إسرائيل الموصوفة في التناخ".

كان هذا التاجر يحلم بنقل اليهود من روسيا القيصرية إلى فلسطين، ومن الواضح أن ورود غزة في هذا السياق هو كورود صيدا أو أي مدينة أخرى ولا يمكن توظيفه في تدعيم الكذبة الإسرائيلية... إلا أن الدعاية والتضليل يسودان في الزمن الراهن فيما يصمت كثيرون من الباحثين والمؤرخين صمت الموتى.

مقالات من فلسطين

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

للكاتب نفسه