تعرّض مواطنٌ من قرية في الضنّيّة للدغة عقرب ولم تتوافر حقنة مضاد للسم ولا حقنة كزاز. صورة الشاب يغالب الاغماء في سيارة إسعاف، تناقلها متعاطفون على المجموعات الاخباريّة في محاولة لاستقطاب علاج سريع. ودون أن يعبّروا عن استغرابهم لعدم توافر هذا العلاج المفترض انتشاره في منطقة جبليّة تتكاثر فيها القوارض.
حملنا الواقعة إلى الأهالي وكان التأكيد: المواطنة خديجة عيسى من بلدة عاصون تقول أنّ "الحادث واقع راسخ نتعايش معه. لقد تعرّض شقيقي لعضّة كلب منذ شهور، ولم نجد حقنة في الصيدليات، فاضطررنا للنزول إلى مستشفى طرابلس الحكومي، متكبّدين مشاق الوقت والتنقلات وتكاليفها".
وتضيف المواطنة فرح الصياح من بلدة سير أنّ الوصول إلى المستشفى المعروف بـ"مستشفى سير الضنية الحكومي" - والمفاجىء أنه المستشفى الوحيد في المنطقة - أصعب من النزول إلى طرابلس "لأنّه مبنيّ على تلّة عالية ومنعطفاتها قاسية، عداك عن انقطاع الطريق بالثلوج وخطورة انزلاق السيارة في فصل الشتاء. حين يتعرّض أحدنا لحادث طارىء يقع احتمال أن يتزايد الضرر من جرّاء الطريق إلى المستشفى".
ويشارك أهالي الضنية على الدوام تجارب أليمة على وسائل التواصل الاجتماعي تشكو رداءة الخدمات الطبية في منطقتهم. ولكنّ صرخاتهم تبقى حبيسة العالم الافتراضي دون أن تستجلب إجراءات نوعيّة لاحتواء هذه المعاناة، التي تبيّن أنّ جذورها متشابكة، وتتفرّع منها أزمة طبيّة مزمنة يمكن تمييزها بسهولة عن النزيف الطبي والاستشفائي الذي أصاب لبنان منذ خريف 2019.
عوارض التصحّر الطبيّ
لا يمكن فهم وضع الطبابة في الضّنّية دون العودة ولو بشكل خاطف إلى تكوينها الجغرافي والسكانيّ الذي يُنتِج عوامل مُقرِّرة لشروط العيش: منطقة ريفية من شمال لبنان يضمّ اتحاد بلدياتها 39 قرية وبلدة، وهي امتداد ل"جبل المكمل" الذي يبلغ أقصى ارتفاعه في الضنية 3088 متراً عند "القرنة السوداء"، أعلى قمة في لبنان والمشرق العربي. وعلى امتداد مساحتها البالغة 362 كيلومتراً مربعاً، تمتاز الضنية بكسائها الأخضر الذي يفصح عن تنوع بيولوجي، واحتضانها لأشجار نادرة أهمها في أحراج اللزاب والأرز، فضلاً عن غزارة مياه منقطعة النظير، لقيامها على أضخم خزان مياه في منطقة الشرق الأوسط[1].
وقبل عام 1993، كانت قرى الضنّيّة مُلحقة إدارياً بطرابلس، مجسّدة جزءاً ممّا يُعرف بـ"قرى طرابلس" التي تحدّها من جنوب الغرب. ولا يزال الترابط الجغرافي بين المنطقتين واحداً من المُشكّلات العميقة لمجتمع الضنّية، وأهمّها النزوح. كما يمتلك التنوّع الطوبوغرافي البازخ للمنطقة تأثيراً في استقرار السكان: بين جرود عالية يندر فيها السكان بسبب قساوة البرد، وتحتها التكوين الجبليّ الوسطي والقابل للعيش الذي يضمّ النسبة الأعلى من السكان، وأدناها شريط ساحليّ.
وعلى الرغم من احتشادها بالناس والموارد، تكاد الضنّية أو هي غدت بالفعل تحت ألطاف "التصحّر الطبيّ". هذا التقييم السوسيولوجي ظهر للمرة الأولى في فرنسا خلال العقد الماضي، ويعرّف المنطقة المعنيّة بهذه الظّاهرة بـ"الصحراء الطبية" (désert médical)، والتي صارت تتمدّد في المدن وقبلها في القرى، معلنة انتهاء الأيام التي كان فيها لكل قرية طبيبها. ولذلك فإن التمثيل التقليدي المرتبط بمفهوم "التوافر الدائم" للأطباء، ينتمي إلى الماضي ولم يعد من الممكن تأسيسه كنموذج مرجعي[2].
تمتاز الضنية بكسائها الأخضر الذي يفصح عن تنوع بيولوجي، واحتضانها لأشجار نادرة أهمها في أحراج اللزاب والأرز، فضلاً عن غزارة مياه منقطعة النظير، لقيامها على أضخم خزان مياه في منطقة الشرق الأوسط. وهي تحتشد بالموارد والناس.
أطلِقت تسمية "الصحراء الطبية" أوّلاً على المناطق التي تفتقر إلى الأطباء، وتُحدّد بناء إلى مؤشرين: مقارنة الكثافة الطبية المحلية بمتوسط الكثافة الطبية الوطنية، أو تقييم الفجوة بين العرض والطلب على الرعاية الصحية.
وقد تكون المقارنة بالكثافة الطبية الوطنية غير شاملة، غير أننا نستنتج قصوراً صارخاً في الطبابة في الضنية وفق عوامل حصّلناها كالآتي: 34 طبيباً فقط بمن فيهم أطباء الأسنان لديهم عيادات خاصة في الضّنّية، بحسب التقرير الصحي-الاجتماعي (2023) الذي أمددنا به "الضنية للمعلوماتية والاحصاء". وهؤلاء يردّون على حاجة 180000 شخصاً من أبناء المنطقة، بالإضافة إلى 75 ألف لاجىء سوريّ[3]. من ناحية ثانية تُقارن بوضع الطبابة في لبنان، لا وجود لأي مستشفى خاص في الضنية، بينما القطاع الاستشفائي الخاص يقوم بمهمة 80 في المئة من الشعب اللبناني.
وتتزايد التهديدات بالوفاة في الضنية، خصوصاً حين ننظر إلى الأمراض الأكثر انتشاراً، ويظهرها التقرير[4] المذكور كالآتي: السكري، وضغط القلب، وسيلان الدم، ونقص الفيتامينات، وتنظيم ضربات القلب. وتؤكد منظمة الصحة العالمية أنّ أمراض القلب لا تزال المسبب الأول للوفاة في العالم.
الموت مصير الجرحى
لا مشاريع سياحية أو إنماء، ولا تقارير بحجم متاحفها التاريخية والطبيعية المغمورة وتلك البادية للعين، ولكن بدون إدارة منصفة... مَن يقرأ أخبار "الضنية" تستوقفه الأخبار عن موت النّاس. تتناقلها المواقع المحلّية على نحو "متفرقات" بعناوين رنّانة لوفاة في حقيقتها لا تعني سوى أهلها. نرصد مثلاً:
"يحيى فارق الحياة بعد سقوطه من الطابق الثالث في بلدة بيت الفقس في الضنية" (22 تموز/يوليو 2023)،
"توفي الطفل ح. ص. سوري الجنسية (...) متأثراً بجراحه إثر تعرضه لحادث صدم من قبل سيارة على طريق عام بلدة بقاعصفرين ـ الضنية" (5 تموز/يوليو 2023)،
"توفي الطفل بهاء اسماعيل، إثر تعرضه لحادث صدم على أوتوستراد بلدة بخعون. وكان قد نقل الى مستشفى السيدة في زغرتا للعلاج لكن ما لبث أن فارق الحياة" (5 كانون الأول/ديسمبر 2022)،
"توفي الطفل هادي عبد الهادي ناصر بعد سقوطه من على شرفة منزله الكائن في بلدة دبعل الضنية (...). ليتم نقله إلى مستشفى قيصر معوض (زغرتا). إلا أنّه ما لبث أن فارق الحياة" (7 نيسان/أبريل 2021).
هناك 34 طبيباً فقط، بمن فيهم أطباء الأسنان، لديهم عيادات خاصة في الضّنّية، بحسب التقرير الصحي-الاجتماعي (2023). وهؤلاء يردّون على حاجة 180.000 شخصاً من أبناء المنطقة، بالإضافة إلى 75 ألف لاجىء سوريّ. يضمّ اتحاد بلديات هذه المنطقة الريفية من شمال لبنان 39 قرية وبلدة.
المشترك بين هذه الحوادث وكثير غيرها، أنّ المصابين نُقلوا إلى مستشفيات زغرتا وطرابلس، وكانوا على قيد الحياة. عندئذٍ، يساور القارىء سؤال "ماذا لو..." أُسعف هؤلاء بداخل الضنية، وبالغنى عن مسافات تتطلب على الأقل 35 دقيقة لبلوغ المستشفيات، أما كانت حظوظ نجاتهم أكبر؟
انطباع لا يخالفه لقمان جيدا، مسؤول جهاز "الطوارىء والإغاثة" في الضنية، وهو جهاز الاسعاف الوحيد في المنطقة ويخدم فيه 65 مسعفاً ومساعدوهم. ويعيد تفصيل واقع مستشفى الضنية الحكومي، مضيفاً أنّ سيارات الاسعاف تضررت بفعل وعورة الطريق، وأنّهم مؤخراً نقلوا جريحاً إلى المستشفى فوجدوا في الطوارىء خمسة مصابين يستقبلهم طبيب واحد وممرض. كما أنّ قسم جراحة الكسور توفّر منذ صيف 2023 فقط... ويزوّدنا بتقرير حول مهام الاسعاف منذ بداية 2023 حتى تموز/يوليو من السنة، ليتبيّن من خلال عملية حسابية أنّ 377 حالة نُقلت داخل الضنية من أصل 1148، ما يعادل 32.8 بالمئة فقط من الحالات، فيما البقية توزعت بشكل عام ضمن مستشفيات طرابلس وزغرتا، وحالات قليلة في مستشفيات محافظة عكار ومنطقة المنية وحتّى بيروت.
مستشفى وحيد ومتعثّر
يمكن اعتبار مستشفى الضنية الحكوميّ عقدة الرّبط لخيطٍ أزماتيّ طويل. كانت العراقيل والقرارات العاثرة حليفة المستشفى منذ وضع حجر أساسه عام 1996. تأخر بناؤه سنتين لتأمين المساحة المطلوبة، واستقرّ الخيار على أرض في بلدة عاصون التي ترتفع على علو 1200 متراً وطريقها غير مؤهلة. وكانت الأرض محل خلاف بين عائلتين ميسورتين تتملكانها من جهة والدولة اللبنانية من جهة أخرى. ثم تنازل الملّاكون لوزارة الصحة عن الأرض. وافتُتح المستشفى في 28 تشرين الأول/أكتوبر 2002. وقبل ذلك التاريخ لا وجود لأي مستشفى في الضنية[5].
وتُلازِم المستشفى نقاط ضعف تأسيسية، في مقدّمها النقص في الطاقم الطبّيّ، بسبب نزوح قسم كبير من أطباء الضنية إلى طرابلس. وفي المقابل، لا يعرف المستشفى إلّا نادراً وبأوقات محددة اتجاهاً معاكساً للأطباء.
ولغاية العام الماضي الذي يؤرخ لعشرين سنة على إنشائه، افتتح المستشفى أخيراً قسماً للعناية الفائقة، ولكنه خارج عن الخدمة بسبب "عدم امتلاك القدرة التشغيلية"، بحسب مدير المستشفى بشار جمال[6].
ويلخّص السبب بالكادر البشري، فمن الصعب استقطاب أطبّاء الانعاش والممرضين، خصوصاً أنّ افتتاح القسم تزامن مع هجرة وطنية للأطباء. كما أنّ الممرّضين الّذين تابعوا دراستهم في السنوات الثلاث الماضية، والتي تخللها التعليم عن بعد والأعطال وبداية انهيار المؤسسات التعليمية، تراجعت جدارتهم بشكل ملحوظ. أمّا الممرضون المصنّفون بالكفاءات النادرة فهم إمّا نزحوا إلى طرابلس، أو توظّفهم المستشفيات الخاصّة أو يتعاقدون في برامج المنظّمات الدولية، لقاء حوالي 800 دولار شهرياً، فيما المستشفى يدفع للممرض/ة نحو 30 مليون ليرة لبنانية (حوالي 330 دولارًا أمريكيّاً فقط).
كما يعاني الموظّفون مثل أقرانهم في المستشفيات الحكومية من تأخر تقاضي الرواتب وتضاؤل قيمتها بسبب انهيار الليرة اللبنانيّة. وبسبب الأرصدة المصفّرة والسياسات المصرفية المتلاعبة، أُغلقت حساباتهم المصرفيّة، فعرقلت توطين المعاشات. ولغاية تموز/يوليو 2023، تقاضى الموظفون رواتب الأشهر الثلاثة الأولى من العام، وبقية الشهور رُهنت بسلفة حكومية من وزارة الصحة.
تُلازِم مستشفى الضنية الحكوميّ، وهو المشفى الوحيد في هذه المنطقة التي تبلغ مساحتها 362 كيلومتراً مربعاً، نقاط ضعف تأسيسية، في مقدّمها النقص في الطاقم الطبّيّ، بسبب نزوح قسم كبير من أطباء الضنية إلى طرابلس. وفي المقابل، لا يعرف المستشفى إلّا نادراً وبأوقات محددة اتجاهاً معاكساً للأطباء. ثم أنه مبني على أرض في بلدة عاصون التي ترتفع على علو 1200 متراً وطريقها وعرة وغير مؤهلة، وتنقطع بالثلوج شتاء.
يستعين الأهالي في المقام الأول بـ"مراكز الرعاية الصحية الأولية" المعروفة بـ"المستوصفات"، والتي تحافظ على نموّ منتظم في الضنية. يوجد في الضنية 8 مراكز للرعاية الصحية الأولى، واحد منها فقط تابع لوزارة الشؤون الاجتماعية، والبقية أسستها إما بلديات أو جمعيات، والعدد الأكبر منها تابع للجمعية الطبية الاسلامية التي أنشأتها "الجماعة الاسلامية".
وتُلازِم تعقيدات هيكليّة المستشفى، كونه مؤسسة عامّة ولكنها تتمتّع باستقلاليّة ماليّة وإداريّة، وفي الوقت نفسه مقيّدة مالياً من وزارة الصحة التي تفرض مقابل ربح 5 في المئة فقط من المرضى[7]. وهؤلاء بغالبيتهم، ظروفهم الاقتصادية ضيّقة، وتغطيهم وزارة الصحة التي بدورها انكمشت قيمة تغطيتها، كما تؤجّل دفع المستحقّات لشهور طويلة.
المستوصفات ومحاولات التعويض
هل توجد بدائل أو محاولات تعويض؟
يستعين الأهالي في المقام الأول بـ"مراكز الرعاية الصحية الأولية" المعروفة بـ"المستوصفات"، والتي تحافظ على نموّ منتظم في الضنية.
وأكبر هذه المراكز وآخرها "مركز بخعون للرعاية الصحية الأولية" الذي افتتح في آب/أغسطس 2023، وهو مؤهّل بمواصفات وخدمات متقدّمة توازي المستشفيات بالحد الأقصى المسموح به، مثل إجراء عمليات جراحية وولادات. وفي خلفيته نستنتج أنّه من حواضر المجتمع المحلّي: أسسه اتحاد بلديات الضنية في الطابق الأول من مقرّه، وتحمّل نفقاته أطبّاء وفاعلون في الشأن العام من المنطقة، و95 في المئة من أطبائه من أبناء المنطقة.
ووفق تقرير وزارة الصحة العامة حول مراكز الرعاية الصحية الأولية في لبنان، يوجد في الضنية 8 مراكز للرعاية الصحية الأولى، واحد منها فقط تابع لوزارة الشؤون الاجتماعية، والبقية أسستها إما بلديات أو جمعيات، والعدد الأكبر منها تابع للجمعية الطبية الاسلامية التي أنشأتها الجماعة الاسلامية المنخرطة منذ عقود في الضنية في الخدمات الطبية والتعليم.
تستتبّ هذه المعادلة في لبنان، لجهة الالتزام الكلاسيكي لكيانات سياسية تمتّن حضورها في تقديم خدمات مكان الدولة. وهذا قبل أن يشهد لبنان منذ نحو 15 سنة طفرة الجمعيات غير الحكومية. ويعْقد توسّعها المترامي وميزانياتها الهائلة التي تتلقاها من الخارج - علاقة جدلية مع غياب الدولة اللبنانية وضعف وإضعاف مؤسساتها وخدماتها - بما فيها الطبية.
لبنان: الأشخاص المعوقون و"لعنة المكان"
22-04-2022
والجدير بالملاحظة أنّ الإحاطة الرسمية بهذه القنبلة الموقوتة غير دقيقة حتى لدى جهة الرصد الذي يبتدىء منه أي تخطيط. فالتقرير المذكور حول مراكز الرعاية صادر عن وزارة الصحة في أيار/مايو 2023، وغفل عن إحصاء 4 مراكز رعاية طبية أوليّة[8] أخرى، أي الثلث، وتأكّدنا أنّها لا تزال نشطة وتستقبل المستفيدين، ليكون العدد الفعليّ 12 مركزاً.
الطبابة في حساب "الآغاوات"
في زمن الأزمة أكثر من أي وقت، تستتبع تفسير المشاكل في لبنان "قصّة إبريق الزيت"، ويؤجل الوعي بها حتى تتفاقم إلى مستوى الكارثة، ثمّ تأتي معالجات هشّة وقصيرة النظر، أو لا تأتي، وهذا الطاغي. ترتيب لا يستثني تصحّر الضنّية الطبيّ، وهي منطقة طرفيّة لا تحظى باهتمام الدولة، وضمن سياق عالميّ يهمل الأرياف.
لنضيّق الإطار: ثمّة "مركزيّات" تعتمل في القطاع الطبّي والاستشفائي في لبنان، تتداخل في حلقات من الأوسع إلى الأضيق، وجميعها كتّلت قوّة نابذة للكفاءات والمشاريع الطبية في الضنية.
الحلقة الأولى والأشد استعصاءً، لأنّ عليها قائم لبنان في دولة شديدة المركزيّة، تُركّز مواردها وإنماءها وخدماتها في العاصمة بيروت وامتدادها الشمالي نحو جبل لبنان.
الحلقة الثّانية ترتكز في طرابلس، عاصمة محافظة لبنان الشمالي التي تضمّ الضنّية. هي المدينة الكبرى القريبة، والمركز الذي يستقطب العائلات الضناوية الميسورة والمتعلمة بمن فيهم الأطباء، وقسم منهم ينتقل إلى الضنية في الصيف. ولنتذكّر أنّ منطقة الضنية لا تخرج عن الإطار العام الوطني بالنسبة للتركيز الديمغرافي في المدن[9]، على الرغم مما للضنية من خصوصيات معيّنة.
وتلتفّ الضنية نفسها حول مركزيّة ثالثة، وإن كانت عاصمتها الإداريّة بلدة "سير"، فإنّ معظم الخدمات موجودة في بلدة بخعون، ويعود الأمر بشكل أولي إلى تحدّر العائلات النافذة من البلدتين.
ينقلنا هذا إلى طبيعة الروابط في المجتمع نفسه الذي يختبر "نظام تكافل" ميكانيكيّ، تقوده هذه العائلات، فتقدّم المعونات والخدمات الطبية، ولكن ضمن أطر محدّدة:
عائلات يلتحم لقبها بالـ"آغا"، لأنها تتمتع بسلطة ورثتها من زمن "الأغاوات"[10] العثماني بفضل امتلاكهم الأراضي التي تشكّل الشرط الأول للامتيازات الإقطاعيّة الممنوحة من الباب العالي. ولكن لم يعد لها وجود كعائلات مقيمة في الضنية، وانصرفت تقريباً عن الاهتمام بشؤون المنطقة.
وهناك عائلات تتمتّع بوزن إجتماعي منذ بداية التسعينيّات التي عززت ريعيّة لبنان من خلال معادلة السياسة/المال، وهي العائلات الّتي تسيّر اليوم مرافق الضنية وشؤونها. فمَن يمتلك هنا السلطة السياسية من نواب ووزراء هم بالضرورة ميسورو الأحوال، وينتمون إلى أطراف سياسية نقلت صراعاتها على شكل منافسات محلية، وهي واحدة من الديناميكيات العصية في مجتمع تقليديّ ريفيّ. حقيقة لا تجافي واقع مستشفى الضنية الحكومي، حيث ترهق كاهل المستشفى توظيفات نفعيّة، كما تتوالى على إدارته مجالس ترجع بالمداورة إلى مَن فاز في الانتخابات النيابية و/أو البلدية، وهذا يبتُر إدارة ومالية المستشفى ويخلخل أساساتها. وتتكرر احتجاجات وشكاوى كثير من الموظفين من "فساد" إداري وليد هذه المزايدات. ويأتي الرد جاهزاً ومبرَماً بـ"الوقت ليس مناسباً الآن" لغربلة الموظفين، وهذا منذ تأسيس المستشفى.
تستتبّ في لبنان معادلة الالتزام الكلاسيكي لكيانات سياسية تمتّن حضورها في تقديم خدمات مكان الدولة. وهذا قبل أن يشهد لبنان منذ نحو 15 سنة طفرة الجمعيات غير الحكومية. ويعْقد توسّعها المترامي وميزانياتها الهائلة التي تتلقاها من الخارج - علاقة جدلية مع غياب الدولة اللبنانية وضعف وإضعاف مؤسساتها وخدماتها - بما فيها الطبية.
هناك عائلات تتمتّع بوزن إجتماعي منذ بداية التسعينيّات التي عززت ريعيّة لبنان من خلال معادلة السياسة/المال، وهي العائلات الّتي تُسيِّر اليوم مرافق الضنية وشؤونها. فمَن يمتلك هنا السلطة السياسية من نواب ووزراء هم بالضرورة ميسورو الأحوال، وينتمون إلى أطراف سياسية نقلت صراعاتها على شكل منافسات محلية، وهي واحدة من الديناميكيات العصية في مجتمع تقليديّ ريفيّ
ومن الضنيّة هاجرت مئات العائلات المغتربة الّتي تمد المقيمين بالمساعدات، ولكن أكثرها موجّه إلى حاجيات المأكل والكسوة والدواء، حتّى أنّ المساعدات الّتي وصلت إلى الضنية من خلال حوالات "وسترن يونيون" لكسوة ومصاريف العيد بلغت في عام 2018 مليون دولار أمريكي[11]! ويحافظ المغتربون على الحد الأدنى من استقرار عوائلهم في الضنية منذ هجرة الرعيل الأول إلى أستراليا التي تكثفت منذ [12] 1977، وكذلك تجّار يمتلكون في الضنية الأراضي الزراعيّة فيصدّرون برادات الفواكه والخضار إلى الخليج وخصوصاً الكويت والسعودية.
ما تقدّم يُبرز ملامح شريحة قاعديّة مقتدرة، ومؤهّلة للنهوض بأي مستشفى أو مرفق صحّيّ من الدرجة الأولى، إلّا أنّ الاستثمار الاقتصادي في الضنية لا يزال يرتبط بالزراعة والتجارة بالمحاصيل، وكذلك تزدهر في المنطقة المطاعم السياحيّة، وهي جميعها مصادر أرباح سريعة، بعكس المكسب الطويل الأمد الذي يمكن أن يدره المستشفى.
في المحصلة، من غير الواضح أيّ جرس إنذار يجب أن يُرنّ ومَن سيسمعه لإنقاذ أهالي "الضنية"، فيوقف زحف الصحراء الطبيّة في منطقة عامرة بالناس والموارد... من المسلّم به أنّ فشل الدولة اللبنانيّة وإهمالها المزمن يضع أي مبادرة رسميّة في خانة اليأس، فيبقى لوعي وقرار أبناء المنطقة المقتدِرين مجالاً للتدخل لعلّه الوحيد، إن وُضع خارج رقعة الخصومات والمكاسب المحلّيّة - وهنا يقع الاختبار الصعب والمؤجل إلى لحظة غير منظورة.
1-حسين الصمد، "الدراسة التفصيلية للمنطقة الزراعية المتجانسة رقم 31- منطقة الفاكهة في الضنية محافظة لبنان الشمالي"، ص.27. ↑
2- Olivier Babinet et Corinne Isnard Bagnis, « Les déserts médicaux en question(s) », Hygée Editions, Rennes Cedex, 2021, p.9. ↑
3-العدد التقريبي للسكان حسب رئيس اتحاد بلديات الضنية محمد سعدية خلال مكالمة هاتفية في 21 آب/أغسطس 2023. ↑
4-شمل الاحصاء 16430 حالة مرضيّة ضمن كلّ قرى وبلدات الضنية. ↑
5-"التخطيط الاستراتيجي لإنماء منطقة الضنبة شمال لبنان"، برنامج الأمم المتحدة الانمائي واتحاد بلديات الضنية، 2012، ص. 123. ↑
6-خلال مقابلة عبر الهاتف اجربناها في 22 تموز/يوليو 2023. ↑
7-من مقابلة معمقة مع المدير السابق للمستشفى عمر فتفت أثناء إجراء بحث ميداني لبرنامج الأمم المتحدة للسكان عام 2011. ↑
8-مراكز الرعاية الصحية الأولية غير المذكورة هي: مستوصف بيت الفقس، مستوصف نمرين، مستوصف كفرحبو، مستوصف مار نقولا الخيري. ↑
9-في عام 2022، 11 في المئة فقط من سكان لبنان يقطنون الأرياف- (تقرير آفاق التحضر في العالم الصادر عن الأمم المتحدة). ↑
10-عمر تدمري وخالد تدمري، "دراسة حول تاريخ الضنّية وتوثيق معالمها الأثريّة والتراثيّة"، ص.87. ↑
11-شهادة لموظفة سابقة في اتحاد بلديات الضنية في مقابلة هاتفية بتاريخ 21 آب/أغسطس 2023. ↑
12-"... على يد أحد أبناء إيزال المدعو عمر ياسين الذي عمل آنذاك مستشاراً لدائرة الهجرة الاسترالية"، محمد مصطفي يوسف، "الضنية عبر العصور". ↑