التعليم في مصر.. السُلطة تدجِّن المواطن

انتهجت سياسات السيسي التعليمية مسارين مختلفين: دعّم عسكرة التعليم في أحدهما، وتعزيز شراكات دولية ومحلية في ثانيهما، لتدشين تعليم استثماري موسع مقابل تراجع مجانية وجودة التعليم الحكومي، الجامعي وما قبل الجامعي، والذي أرسته "دولة يوليو". ويظهر واقع التعليم في مصر اليوم أننا أمام منحنيين: أحدهما تصاعدي ويمثل التعليم الخاص والدولي، وهو مرتفع التكلفة، والآخر تنازلي يتمثل في التعليم المجاني، والذي وصل إلى منحدر وفق المعطيات المطروحة.
تلاميذ في مدرسة حكومية في مصر

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

عرف المصريون المدارس النظامية الحديثة في عصر محمد علي في القرن الثامن عشر والذي اقترن اسمه بمصطلح "المستبد المستنير"، وكان يهدف إلى نشر ثقافة وقيم التنوير الأوروبية من أعلى هرم السلطة. يُصبح السؤال هو: كيف تحوَّل المصطلح بعد مئتي عام، من نبتة تنويرية مفترضة إلى نمط قمعي للسلطات الحاكمة في مصر؟

في محاولة تقديم إجابة، نبحث في عدد من المحاور الرئيسية التي قد تمكننا من وضع يدنا على الأسباب الحقيقية لتدهور التعليم العام، من خلال عرض السياسات التعليمية المرتبطة بالسلطة، مروراً بالسياسات المتعلقة بالمخصصات المالية لقطاع التعليم، وأيضاً أنماط التعليم المتعددة داخل الدولة وتأثيرها الاجتماعي والاقتصادي.

كيف مضت السلطة في سياساتها التعليمية؟

انتهجت سياسات السيسي التعليمية مسارين مختلفين: دعّم عسكرة التعليم في أحدهما، وتعزيز شراكات دولية ومحلية في ثانيهما، لتدشين تعليم استثماري موسع مقابل تراجع مجانية وجودة التعليم الحكومي، الجامعي وما قبل الجامعي، والذي أرسته "دولة يوليو".

تعددت مراحل التعليم قبل الجامعي إلى مرحلة رياض الأطفال، ومرحلة التعليم الأساسي الإلزامية (المرحلة الإبتدائية، والإعدادية)، ومرحلة التعليم الثانوي وهي غير إلزامية بأنواعها العامة، والفندقية، والفنية (الزراعية- والصناعية- والتجارية). ثم التعليم الأزهري متمثلاً في المدارس والمعاهد الأزهرية والتي أعلن عن زيادة عددها إلى 900 65 في العام 2019.

بينما تتمثل أنواع التعليم ما بين ما هو حكومي (المجاني، والتجريبي والقومي والديني ومدارس التربية الخاصة ل"ذوي القدرات الخاصة"، والتعليم المجتمعي ويشمل مدارس الفصل الواحد والمدارس المجتمعية ومدارس أطفال بلا مأوى، والمدارس صديقة الفتيات، وفصول محو الأمية وتعليم الكبار)، وخاص (العام، والديني، والتربية الخاصة)، والدولي الأجنبي والمصري (بلغت 805 مدارس دولية في العام 2023).

أبرز المشكلات التي تواجه نظام التعليم المصري هو العجز المزمن في أعداد المعلمين مقارنة بتزايد عدد الطلاب، في ظل تقاعد آلاف المعلمين سنوياً (وفق تقرير من العام 2021، أحيل أكثر من 24 ألف معلم الى التقاعد). وقد تحايلت السلطة على المشكلة باستحداث نظام العقود المؤقتة عن طريق المسابقات، ثم نظام العمل بالحصة الدراسية بنظام المتطوعين.

عدد المدارس الحكومية 804 49 ألف مدرسة، إضافة إلى 450 10 مدرسة خاصة. وعدد المعلِّمين بالتعليم قبل الجامعي يبلغ 699 955 ألف معلم يقومون بتدريس 25 مليون و232 494 ألف تلميذ. ووصلت نسبة المتعطلين من حملة الشهادات المتوسطة وفوق المتوسطة والجامعية، الى نحو 82.2 في المئة من الخريجين، وأما نسبة المتعطلين من حملة المؤهلات العليا كالماجستير والدكتوراه فهي 36.3 في المئة منهم.  

أما التعليم العالي فيشمل المعاهد العليا (176 معهداً حكومياً وخاصاً) والمراكز البحثية (تتوزع بين وزارة التعليم العالي وأكاديمية البحث العلمي والجامعات والوزارات المختلفة)، والجامعات والتي ارتفع عددها إلى 92 جامعة، ما بين الحكومية والأهلية والخاصة المصرية أو الدولية (حسب البيانات الرسمية، هناك 28 جامعة حكومية، و27 خاصة، و4 جامعات أهلية دولية، و15 جامعة أهلية منبثقة من الجامعات الحكومية، و7 أفرع للجامعات الأجنبية بالعاصمة الإدارية الجديدة، و 10 جامعات تكنولوجية) [1].

الواقع والوقائع

يظهر واقع التعليم في مصر أننا أمام منحنيين: أحدهما تصاعدي ويمثل التعليم الخاص والدولي، وهو تعليم مرتفع التكلفة، والآخر تنازلي يتمثل في التعليم المجاني، والذي وصل إلى منحدر وفق المعطيات المطروحة.

حسب إحصاءات العام الجاري 2023، فإن عدد المقيدين في التعليم العالي بلغ 3 مليون و500 ألف طالب (عدد المقيدين في الجامعات الحكومية والأزهرية 2 مليون و400 ألف طالب، مقابل 900 228 طالب في الجامعات الخاصة، والمقيدين في المعاهد الفنية فوق المتوسطة 400 181 طالـب). وعلى الرغم من ضخامة الأرقام، فقد انعكست أوضاع التعليم المتدهورة سلباً على محدِّدات اجتماعية واقتصادية، أدت إلى انحدار عام وبطالة متزايدة. فوفق بيانات حديثة، وصلت نسبة المتعطلين من حملة الشهادات المتوسطة وفوق المتوسطة والجامعية وما فوقها، الى نحو 82.2 في المئة من المتخرجين، ويمثِّل حملة المؤهلات العليا كالماجستير والدكتوراه نحو 36.3 في المئة.

ووفق إحصاءات العام الجاري، وصل عدد المدارس الحكومية إلى 804 49 ألف مدرسة، إضافة إلى 450 10 مدرسة خاصة. فيما أعلن جهاز الإحصاء الرسمي أن عدد المعلمين في التعليم قبل الجامعي بلغ 699 955 ألف معلم (عام- فني- أزهر) يقومون بتدريس 25 مليون و232 494 ألف تلميذ، مقابل مليون و143 ألف معلم قاموا بتدريس 25 مليون و 62 294 ألف تلميذ خلال العام الدراسي 2022، في 067 49 ألف مدرسة حكومية، و 9740 مدرسة خاصة.

مشكلات النظام التعليمي

بتدقيق الأرقام الرسمية المعلنة، نجد أن أبرز المشكلات التي تواجه نظام التعليم المصري هو العجز المزمن في أعداد المعلمين مقارنة بتزايد عدد الطلاب، في ظل تقاعد آلاف المعلمين سنوياً (وفق تقرير من العام 2021، أحيل أكثر من 24 ألف معلم إلى التقاعد). وقد تحايلت السلطة على المشكلة باستحداث نظام العقود المؤقتة عن طريق المسابقات، ثم نظام العمل بالحصة الدراسية بنظام المتطوعين [2]، ما أثار موجة غضب وسخرية عارمة وارتفعت الانتقادات التي تشير إلى أن ذلك يؤشر ربما إلى بدء التعامل بنظام رسمي للسُخرة. ووفق إحصاءات رسمية، فقد تراجعت أعداد مدرِّسي التعليم قبل الجامعي إلى 699 955 ألف معلم للعام الجاري، في مقابل مليون و189 ألف مدرس للعام 2020. ويكفي أن تمنحنا المعطيات نظرة على العجز الصارخ في عدد المعلمين في المرحلة الثانوية بالنسبة لعدد الطلاب خلال العام 2020، حيث أن عددهم مثّل نحو 148 ألف معلِّم درسّوا 2 مليون و156 ألف طالب في الثانوية العامة والأزهرية، كما بلغ عدد معلمي الثانوية الفنية 700 146 ألف درسّوا 2 مليون و54 ألف طالب.

ويرجع العجز حسب الباحثة أمنية صلاح إلى أسباب عدة أبرزها مدى قدرة الأنظمة التعليمية على استبقاء المعلمين في المدارس وخفض معدلات الدوران الوظيفي (ترك وظائفهم إما للحصول على إجازة، أو البحث عن عمل، مدفوعين بضغوط سد احتياجات أسرهم التي لا توفرها أجورهم)، واستنزاف المعلمين (استقالتهم نهائياً قبل سن التقاعد)، وأيضاً التعامل مع المهنة على أنها منخفضة الأجر، ما يجبرهم على التغيب المزمن عن المدارس للحصول على دخل إضافي (تراوحت أجور المعلمين ما بين 2859 الى 4056 جنيهاً، في العام 2022). كما أن من أبرز الأسباب شيخوخة المعلمين حيث يبلغ متوسط أعمارهم 50 عاماً، نتيجة تقييد توظيف الشباب. أيضاً هناك سوء توزيع جغرافي للمعلمين إلى جانب العجز في التخصصات. مثال: على الرغم من أن معلمي المرحلة الإبتدائية للعام 2013 بلغ 749 390 معلم، إلا أن العجز وصل إلى 116 86 معلّم في جميع التخصصات، كما بلغ العجز الإجمالي حينها 160 ألف معلم إلى أن وصل في العام 2022 إلى 675 323 معلم، نتيجة وقف التعيينات في الجهاز الإداري للدولة لعدم وجود موازنات مالية كافية [3].

اهتمت السلطة منذ العام 2016، مع إطلاق "المشروع القومي لبناء المدارس"، ببناء مدارس خاصة للغات لا تستوعب أبناء الطبقات المهمَّشة، كما منحت أراضي للمستثمرين لبناء مدارس خاصة. عزز ذلك دفع الطبقات الفقيرة إلى خارج التعليم وازدياد عمالة الأطفال، وانخفاض أعداد الفتيات بحكم الاضطرار الى الاختيار بين تعليم الذكر أو الأنثى.

اعتماد "التابلت" لا يحل مشكلة التكدس ونقص المعلمين. فقد بلغت نسبة الأسر التى لديها اتصال بالإنترنت المنزلي 37 في المئة فقط من الأسر المصرية)، ما يعني فشل "استراتيجية التعليم الحديثة" نتيجة عدم الدراسة الجدية للعوامل الاجتماعية والتكنولوجية المتعلقة بمستوى دخول العائلات.  

ومع زيادة عدد التلاميذ، أتجهت السلطة إلى مضاعفة المدارس الخاصة مرتفعة التكاليف في مقابل الحكومية المجانية والتي تستوعب الأعداد الأكبر من التلاميذ. ما طرح مشكلة أخرى هي زيادة كثافة الفصول في المدارس الحكومية والتي وصلت إلى نسبة 48.99 في المئة في العام 2023، في مقابل 31.62 في المئة في المدارس الخاصة للعام نفسه. ظاهرة التكدس والكثافة المرتفعة أدت إلى لجوء السلطة إلى اعتماد الفترات المسائية (هناك مدارس تعمل فترتين دراسيتين في اليوم، صباحية ومسائية)، ما أدى إلى اختصار اليوم الدراسي وعدم توافر الفرص لممارسة التلاميذ أنشطة مدرسية.

ولعل من أبرز المشكلات أيضاً نمط التوزيع النسبي للمدارس مقارنة بعدد السكان في محافظات بعينها، خاصة محافظات الصعيد والمحافظات الحدودية. وتوضح البيانات أن بعض المحافظات تعاني من وجود اختلال بين نسبة المدارس وعدد السكان في الفئة العمرية المقابلة، حيث تنخفض نسبة المدارس الثانوية لعدد السكان في محافظات قنا (91 مدرسة ل666 39 ألف تلميذ في السن الرسمي للقيد)، والفيوم (94 مدرسة، ل 127 44 ألف تلميذ)، ما أدى إلى تراجع نسبة القيد الإجمالي في المحافظتين المصنفتين ضمن المحافظات الأكثر فقراً، لتصل في الأولى إلى 19.6 في المئة، وفي الثانية الى20.5 في المئة من عدد التلاميذ المفترض قيدهم، وذلك وفق إحصاءات رسمية. ما يحيلنا إلى مشكلة أخرى تواجه نظام التعليم وهي ظاهرة التسرب. فوفق معطيات للفترة بين العامين 2019-2022، بلغت نسبة المتسربين في المرحلة الابتدائية 0.23 في المئة بواقع 219 30 ألف تلميذ، بينما في المرحلة الإعدادية زادت النسبة لتصل إلى 1.7 في المئة بواقع 95 ألف تلميذ. وتوضّح المؤشرات الرسمية أن معدل الانتقال من المرحلة الإعدادية إلى الثانوية انخفض ليصل إلى 37.5 في المئة، وأن نسبة القيد لطلاب الثانوية العامة وصل إلى 30.4 في المئة في العام 2023، من إجمالي عدد الطلاب في نفس سن الالتحاق.

 وفي المقابل، اهتمت السلطة بزيادة بناء المدارس على أساس مواجهة ظاهرتي التكدس والتسرب من التعليم، لكن المفارقة أنه منذ العام 2016 ومع إطلاق "المشروع القومي لبناء المدارس"، فإن السلطة اهتمت ببناء مدارس خاصة للغات وليست حكومية تستوعب أبناء الطبقات المهمَّشة، كما منحت أراضي للمستثمرين لبناء مدارس خاصة، ما أدى إلى استمرار دفع الطبقات الفقيرة إلى خارج التعليم الحكومي، خاصة مع تدهور الوضع الاقتصادي، لتزداد فرص عمالة الأطفال، وارتفاع التكلفة غير المباشرة للتعليم مع انخفاض مستوى الدخل بخاصة في المناطق المهمشة والريف، وأيضاً سيادة بعض الموروثات الثقافية والاجتماعية التي تَحول دون استمرار الفتيات في التعليم في حال الاختيار بين تعليم الذكر والأنثى.

وعلى الرغم من محاولات السلطات الظاهرية لتحسين الصورة؛ إلا أن كل المؤشرات تشير إلى التراجع الشديد للطلاب في المقررات العلمية والمهارات الأساسية لتعلم القراءة والكتابة والحساب. فالإعلان عن نظام التعليم الجديد المعروف بـ"التابلت" في العام 2018، والذي بموجبه تسلم كافة التلاميذ المستجدين ألواح إلكترونية ("تابلت") لتلقي الدروس خلالها، في نوع من الحلول المفتعلة والبراقة. إلا أنه لم ينجح حتى اللحظة، خصوصاً مع عدم إعطاء المعلِّمين أنفسهم التدريبات الكافية لمواكبة هذا النظام. بل وصل الأمر إلى تعثرات متكررة في فترة الاختبارات الفصلية نتيجة ضعف أجهزة "التابلت" وشبكة الإنترنت التي تنقطع كل عام أثناء الاختبارات، إضافة إلى عدم توافر خدمات الإنترنت لدى كثير من الأسر ذات الدخل المنخفض (وفق إحصاء حديث، بلغت نسبة الأسر التى لديها اتصال بالإنترنت المنزلي 37 في المئة فقط من الأسر المصرية)، ما يعني فشل "استراتيجية التعليم الحديثة" نتيجة عدم الدراسة الجدية للعوامل الاجتماعية والتكنولوجية المتعلقة بعناصر النظام التعليمي والمرتبطة بمستوى دخول العائلات.

ثنائية التعليم والسلطة في ظل الجمهوريات

مرت السياسات التعليمية للسلطة في مصر منذ بدء الجمهوريات بأربع مراحل. بداية أقرت السلطة التي أعقبت وصول عبد الناصر إلى الحكم مجانية التعليم للمرحلة الجامعية وما قبلها، واتبعت استراتيجية تنموية تعتمد على القطاع العام والتوجه نحو الداخل مؤكدة على أهداف الرعاية الاجتماعية والاقتصادية.

ثم جاءت المرحلة الثانية حينما تبنى السادات سياسات الانفتاح الرأسمالي، فاندفع رجال الأعمال للاستثمار في التعليم، وافتتحت مدارس تدرِّس مناهج التعليم الحكومي بمصروفات (المدارس الخاصة). وظهرت "مدارس اللغات" التي تدرّس المناهج بالإنجليزية بمصروفات عالية. ثم ظهرت "المدارس التجريبية" وهي مدارس حكومية تدرس المناهج بالإنجليزية لكن بمصروفات خاصة.

ألزم الدستور السلطة بألّا تقل المخصصات المالية للإنفاق على التعليم قبل الجامعي عن 4 في المئة من الناتج القومي الإجمالي، وأيضاً ألا تقل النسبة المخصصة للتعليم الجامعي عن 2 في المئة. لكن في الواقع فما تمّ إنفاقه فعلياً في العام 2022 لا يتجاوز نسبة 2.4 في المئة. و90 في المئة من المخصصات المالية للقطاع تنفق على الأجور وأمور إدارية، وفق مؤشرات العام 2023.

أدت مشكلة تناقص المعلمين وتكدّس الفصول إلى ظهور أسواق بديلة وأساسية تقدم خدمات تعليمية (مراكز الدروس الخصوصية). فرُصِد ما يزيد عن 12 ألف مركز تعليمي خاص، تحقِّق ربحاً يقارب 20 مليار جنيه سنوياً، ليخرج التعليم الحكومي من إطار المجانية. وقد تراجعت مصر على مؤشر جودة التعليم الأساسي والعالي التابع لمؤشر التنافسية العالمية، الى المرتبة 134 و135 من أصل 138 دولة. 

وفي عصر مبارك، حلت المرحلة الثالثة منذ بداية التسعينيات الفائتة، حيث انتهجت السلطة "برامج الإصلاح الاقتصادي" ووضعت خططاً للتعليم ليرتفع الإنفاق الحكومي بين العامين 1990- 1997 بنسبة 55 في المئة. ثم تمردت الطبقة شديدة الثراء على الواقع التعليمي، ليدخل التعليم الدولي الخاص إلى المشهد، وتفتتح أول مدرسة دولية كندية في مصر في العام 2002. وتوالت المدارس الدولية، ليظهر نوع من التمايز الطبقي في التعليم وتعدد في المدارس والمناهج: تعليم لأبناء الطبقة الدنيا متمثل في التعليم الحكومي المجاني والسيئ، وتعليم للطبقة المتوسطة وهو التعليم الخاص أو الحكومي التجريبي أو قسم التعليم الدولي في مدارس اللغات، وتعليم لطبقة الأثرياء متمثل في المدارس الدولية. 

ولم تترك السلطة الأمر مقتصراً على المستثمرين أو الدول الأجنبية، نظراً للمكاسب المالية الضخمة الناتجة عن الاستثمار في التعليم الدولي، لذا أسست "مدارس النيل" المصرية في العام 2010 لتقديم شهادة تعليمية مصرية مصممة وفق المعايير الدولية (بلغت أعداد المدارس الأجنبية في مصر نحو 57 مدرسة، تنقسم إلى 32 مدرسة أمريكية و11 مدرسة إنجليزية و9 مدارس فرنسية و3 مدارس كندية ومدرستين ألمانيتين، وفق إحصاء رسمي للعام 2011). وهكذا أصبحنا أمام مستويين تعليميين يمثلان طبقتين مختلفتين منعزلين كلية عن بعضهما البعض. حيث تقدم المتخرجون في المدارس الدولية في الحصول على الوظائف العليا ذات الأجر المرتفع، بينما المتخرجون في الجامعات الحكومية في وظائف متدنية بأجور أقل.

ماذا عن الآن؟

بدأت المرحلة الرابعة بحلول السيسي في السلطة، والذي افتتح فترته الرئاسية الأولى بجملة: "ويعمل إيه التعليم في وطن ضايع". وقد حافظ على اتجاهين أساسيين، أولهما التوسع في بناء المدارس الخاصة والدولية، وثانيهما عسكرة التعليم الحكومي. ومن مظاهر ذلك وجود هيئات عسكرية رسمية داخل المدارس المدنية، وترديد الأناشيد التي أنتجتها هيئة الشؤون المعنوية. كما أُسست مدارس خاصة مملوكة للقوات المسلحة.

 واحتكرت الهيئة الهندسية العسكرية بناء المدارس اليابانية، ما يعني سيطرتها على قطاع الإنشاءات المدني بالوزارة. وفي العام 2013، أعلن عن تأسيس "مدارس بدر الدولية للغات" بالسويس ضمن منظومة المدارس الاستثمارية. واشترطت السلطة على المعلّمين المتقدمين لاختبارات التوظيف الجديدة إجراء فحوصات واختبارات في الأكاديمية العسكرية؛ بما يتشابه ولجان القبول في تلك الكليات، وأيضاً اشترطت حصولهم على دورات حول "الولاء" و"مقتضيات الأمن القومي" بالأكاديمية مدتها 6 أشهر من أجل التعيين، ما أثار غضب وسخرية المجتمع.

الإنفاق

ألزم الدستور السلطة بألّا تقل المخصصات المالية للإنفاق على التعليم قبل الجامعي عن 4 في المئة من الناتج القومي الإجمالي، وأيضاً ألا تقل النسبة المخصصة للتعليم الجامعي عن 2 في المئة، على أن تتزايد تدريجياً حتى تصل الى النسب العالمية. ووفق بيانات حكومية، تحسنت المؤشرات الإجمالية لقطاع التعليم قبل الجامعي، فزاد الإنفاق الحكومي ليصل إلى 317 مليار جنيه في العام الدراسي 2023، بزيادة 61 مليار جنيه عن موازنة عام 2022، وفي التعليم الجامعي وصل الإنفاق إلى 159.2 مليار جنيه بزيادة 27.1 مليار جنيه عن العام 2022. بينما في الواقع، لا ترقى المخصصات المالية لتوافق النسبة المقررة دستورياً، وفق المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، والتي أوضحت في تقرير لها أنه بحسب بيانات البنك الدولي لم تتجاوز الميزانية المخصصة للتعليم ثلث النسبة التي تخصصها له الدول النامية في المتوسط. حيث أن النسبة الدستورية المقررة سابقاً كانت 4 في المئة من الموازنة العامة، بينما ما تم إنفاقه فعلياً في العام 2022، لا يتجاوز نسبة 2.4 في المئة. ويبلغ متوسط نصيب الطالب من مخصصات المدارس السنوية نحو 5405 آلاف جنيه، بسبب ما يعانيه قطاع التعليم من خلل في توزيع الميزانية بين الجهاز الإداري من ناحية والمدارس من ناحية. فقد مثّل نصيب ديوان الوزارة من الميزانية لعام 2019، حوالي 5 مليار و9 ملايين جنيه، وهو رقم يوازي مخصصات مدارس القاهرة بأكملها. ووفق تقرير المبادرة، فإن 31.2 في المئة من الأموال المضافة إلى ميزانية التعليم هي شكلية، لأنها تمثل نصيب القطاع من مدفوعات فوائد الدين العام والتي تعد خصما من كل أشكال الإنفاق الاجتماعي. كما أن 90 في المئة من المخصصات المالية للقطاع تنفق على الأجور وأمور إدارية، وفق مؤشرات العام الجاري.

أتجهت السلطة إلى مضاعفة المدارس الخاصة مرتفعة التكاليف في مقابل الحكومية المجانية والتي تستوعب الأعداد الأكبر من التلاميذ. ما طرح مشكلة أخرى هي زيادة كثافة الفصول في المدارس الحكومية والتي وصلت إلى نسبة 48.99 في المئة في العام 2023، في مقابل 31.62 في المئة في المدارس الخاصة للعام نفسه.

تنخفض نسبة المدارس الثانوية لعدد السكان في محافظات قنا (91 مدرسة ل666 39 ألف تلميذ)، والفيوم (94 مدرسة ل127 44 ألف تلميذ)، ما أدى الى تراجع نسبة القيد الإجمالي في المحافظتين المصنفتين ضمن المحافظات الأكثر فقراً، لتصل في الأولى إلى 19.6 في المئة، وفي الثانية الى20.5 في المئة من عدد التلاميذ المفترض قيدهم. 

وتتنوع المصادر الأساسية لتمويل التعليم في مصر ما بين التمويل العام الحكومي، ويتمثل في نصيب التعليم من الموازنة العامة وصندوق دعم المشروعات التعليمية والمساعدات الأجنبية. ثم يأتي التمويل من القطاع الخاص عبر استثمارات خاصة وتبرعات ضمن بند المسؤولية الاجتماعية، وأخيراً التمويل من القطاع العائلي. وقد أدت مشكلة تناقص المعلمين وتكدّس الفصول، إلى ظهور أسواق بديلة وأساسية تقدم خدمات تعليمية (مراكز الدروس الخصوصية). فرُصِد ما يزيد عن 12 ألف مركز تعليمي خاص، تحقِّق ربحاً يقارب 20 مليار جنيه سنوياً، ليخرج التعليم الحكومي من إطار المجانية، نظراً لمحاولة العائلات توفير أفضل الظروف لأبنائها [4]. ووفق بيانات العام 2019، فإن متوسط إجمالي ما تنفقه نحو 26 مليون أسرة مصرية على الدروس الخصوصية ومجموعات التقوية بالمدارس (دروس خصوصية مدفوعة داخل المدارس بإشراف رسمي) يبلغ نحو 47 مليار جنيه، بنسبة تمثل 37.7 في المئة من إجمالي الإنفاق على قطاع التعليم [5].

وعلى الرغم من إعلان السلطة عن مجهودات لتطوير المنظومة التعليمية، إلا أن الواقع يشير إلى تدهور كبير، حيث تراجعت مصر على مؤشر جودة التعليم الأساسي والعالي التابع لمؤشر التنافسية العالمية، للمرتبة 134 و135 من أصل 138 دولة، في العام 2017. وهو ما يُظهِر حالة التدهور الكبيرة في نوعية الخدمات التعليمية المقدمة للمواطنين وعدم كفاية الإنفاق العام على التعليم. وتظهر الشواهد أن السلطة تتجه بشكل موسع لأشكال من خصخصة التعليم بما يتوافق وسياساتها العامة التي تفرض مزيدا من الأعباء على المواطنين دون تحمّل تكلفة تذكر.

اقرأ أيضا: "التعليم قضية"

______________________

*النص الثالث من دفتر "انهيار التعليم العام في منطقتنا يرهن المستقبل" بدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ.

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________________

1- بدأ التعليم الجامعي الأجنبي بالجامعة الأمريكية في العام 1919، ثم توالى إنشاء الجامعات الأجنبية ما بين جامعات خاصة مثل جامعة مصر الدولية، والجامعة الألمانية، والجامعة البريطانية، وجامعة الأهرام الكندية، والجامعة المصرية الروسية، أو جامعات أهلية مثل الجامعة الفرنسية، أو جامعات ذات طبيعة خاصة مثل الجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا، أو الجامعات التي تم إنشاؤها وفق اتفاقيات دولية مثل الجامعة الدولية الفرنسية للتنمية الإفريقية ("جامعة سنغور")، وجامعة برلين التكنولوجية، والجامعة المصرية الصينية، وجامعة "إسلسكا مصر ESLSCA". وقد توسعت السلطة الحالية منذ العام 2019 في إنشاء الجامعات الدولية، وخططت لإنشاء 8 منها في المرحلة الأولى من إنشاءات العاصمة الإدارية الجديدة، وتضم الجامعة الألمانية الدولية للعلوم التطبيقية، والجامعة الكندية الجديدة، والجامعة الأمريكية الدولية، والجامعة البريطانية الجديدة، وجامعة مصر الدولية كأحد فروع جامعة سيناء، علاوة على مجمّع الجامعات الأوروبية، والذي يضم الجامعة المجرية، والجامعة السويدية.
2- في العام 2019، أعلنت السلطة عن نظام جديد للتعاقد المؤقت لمدة سنة، يعرف باسم نظام المسابقات، ويعني تقدّم المعلم لامتحانات رسمية وتصفيات، وقد تعددت المسابقات منذ ذلك الوقت، مثل مسابقة 36 ألف معلم، ومسابقة 120 ألف معلم، ومسابقة 30 ألف معلم. وفي العام 2021، صدر قرار جديد ينص على فتح باب التطوع للعمل بالمدارس مجاناً مقابل شهادة خبرة أو التعاقد مقابل 20 جنيهاً للحصة.
3- بدأ الأمر منذ العام 1998، حينما توقف توظيف المتخرجين في كليات التربية في المدارس بدعوى عجز الموازنة بقرار من رئيس وزراء مبارك حينئذٍ كمال الجنزوري، بعد أن كانت مهنة التدريس تتم بتكليف إجباري حكومي منذ عهد جمال عبد الناصر، ما ترتّب عليه تحولهم إلى مهن أخرى أو انضمامهم إلى المتعطلين عن العمل.
4- احتل التعليم المدفوع مكان الصدارة لدى الأسر المصرية متوسطة ومرتفعة الدخل، ما بين التعليم الخاص (يدرس المناهج المصرية بلغة أجنبية)، والتعليم الأجنبي الموزع ما بين مدارس الراهبات والإرساليات، والمدارس الأجنبية الدولية والمدارس الدولية الرسمية (مدارس تشاركية بين الحكومة المصرية ورابطة المدارس الخاصة والدولية، وتدرِّس مناهج حكومية دولية بنظامي (أي جي) البريطاني أو البكالوريا الدولية (أي بي)، وقد وصل عددها إلى 17 مدرسة).
5- وفقاً للبيانات، فإن نسبة الإنفاق في العام 2018 على الدروس الخصوصية ومجموعات التقوية للأسرة الواحدة في المدن الحضرية تبلغ 2314.8 جنيه سنوياً تمثل 32.2 في المئة من قيمة الإنفاق على التعليم وهي 7189 جنيها سنوياً، مقابل 1686 جنيه تمثِّل 45.6 في المئة من إجمالي 3698 جنيها قيمة الإنفاق على التعليم في الريف.

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...