هذه كتابة شبه ذاتية، شبه موضوعية، تأتي على وقع التَماس على مدى أكثر من شهر مع الحياة العامة في جمهورية مصر العربية. أربعون يوماً تقل أو تزيد، بدأتْ مع مصطلحٍ لمع كالبرق ثم خبا من قلب القاهرة هو "معركة توكيلات الانتخابات الرئاسية". وقبل أن ينسحب طيفه، أضاءت السماء بكامل وميضها وتألق جل وهجها من داخل قلب غزة مع انطلاق "طوفان الأقصى"، ثم انهال الوجع.
أربعون يوماً، تقل أو تزيد، تقول إني لست وحدي، على الأقل حينما يتعلق الأمر بالوجع، فهذه الأيام كفيلة بأن تغير معنى الحياة في قلب وفم كل من يعيش الآن على وجه الأرض..
أربعون يوماً تقل أو تزيد، أتممت في منتصفها عامي الأربعين. وفي تلك الليلة، وفي ظل اضطراري للارتكاز إلى حائط في أحد شوارع وسط القاهرة بينما تمتزج دموعي بأضوائها المبهجة الغائمة، سألت نفسي:
لماذا أنا هنا؟ وما معنى البقاء على قيد الحياة في تلك اللحظة من عمر الأمة إذا لم يكن لكل منا دور محدد في إزاحة هذه الغمة؟ وكيف يعينني دوري على إعادة تعريف نفسي وحدود حلمي وعجزي وقدرتي ـ مثلهم ـ على المقاومة؟
ما معنى أن أبلغ هذه السن المرتبطة في ثقافتنا بالنضج واكتمال الشكر وتلقي النبوة، بينما لا يتحمل قلبي استمرارية متابعة النشرة الإخبارية؟ وكيف يمكن الاستفراد بالنفس والتحدث معها في أي شيء بينما النشرة قد تحولت إلى بث مباشر من قلب الجرح المفتوح من حدود يافا إلى خان يونس وعودةً إلى الناصرة؟ وكيف أنني على بعد خطوة من المكان الأقرب لقلبي وذاكرة عقلي ووجدان أحرار شعبي ـ "ميدان التحرير" ـ ولكني لا أراه بينما تسمع أذناي أصوات القصف في شوارع غزة التي تبعد 500 كيلومتراً من مدينتي التي كانت باسلة يوماً ما، الإسماعيلية؟
كيف يمكن اعتياد الحياة من الآن وصاعداً؟ وكيف لا تكون، وقد مر من قبل على هذه الأرض آلاف المجازر والأهوال؟ وماذا إذا استمر تعرقل وتعثر الحال؟ هل سيفقد الرفاق وللأبد أثر القوة الجماعية؟ وهل يمكن أن أساهم في إنجاز شيء ما بصورة فردية؟
هل يأتي يوم تُحرِّرنا فيه مصر من وجعنا المكلوم منها وبها وعليها، فأجد نفسي على حين غرة ملتحمة بملايين أعرفها ولا تعرفني؟ هل ترضى عنا الأيام؟ وهل سنمتلك حينها القدرة على التخلص من كل أصحاب الأحذية الثقيلة محلياً ودولياً في آن؟
كيف يمكن أن يأتي كل هذا بينما أفقد في تدهور ملحوظ، أنا وغيري، كل ما يربطنا ببلدنا من علاقة صحية؟ وهل إنْ قمعت نفسي وردّدت كما غيري تلك الكلمة القاسية العصية "للقصة بقية"، هل يمكن أن تغفر لنا الدماء التي تُسفك الآن؟
ثم وأخيراً.. وباتجاه التفكير في المشاركة في صياغة حلٍ ما..
إذا كانت السلطة المصرية غير قادرة على قيادة صحوة عربية باتجاه حماية رسمية للشعب الفلسطيني عبر قوتها الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، وإذا كانت المعارضة المصرية غير قادرة على قيادة صحوة ثورية تخترق ميادين مصر باتجاه السعي إلى تعديل سياسات الحكم، وفي القلب منها السياسة الخارجية، وتجاه القضية الفلسطينية أولاً، فهل من الممكن أن تتفق الدفتان المتنافرتان، في تلك اللحظة الاستثنائية، على الرضوخ لهذا النبض الإنساني الضميري، والسماح لمن يريد من شعب مصر بل ومن كل شعوب العالم بالتوجه في مسيرة سلمية لمدنيين غير مسلحين سيراً على الأقدام من أمام معبر رفح المصري إلى داخل قلب غزة؟
هل يمكن إطلاق تلك الصيحة؟ وهل يمكن الاستجابة لها؟
وإن كان لا سبيل للاستماع، ولا منطق يسمح بالاتفاق في ظل سياسات حكم تعتمد وفقط الممارسات الأمنية التي عنوانها التجبر والتعالي والتلفيق والقمع والقبض واستخدام جيش من البلطجية، فما الذي سيبقي في يد كل من لا يملك أن تستمر أيامه بينما الموت هناك على بعد كيلومترات قلائل يحصد الرؤوس بشكل لحظي؟
هل ـ فقط ـ تستمر المبادرات عبر الفضاء الإلكتروني أو السياق السياسي أو عبر ما يتيسر من "شارع" محاط بسياج أمني ومدجج بالسلاح؟
هل تفضي تلك إلى شيء آخر؟ هل نملك التوقف عنها وإن لم نملك أن نسعف بها؟ وهل ينتظرنا الموت؟
ثم..
هل وكيف ولم لا.. يتوقف الموت دون تدخل منا، سواء بقينا جالسين كمداً في بيوتنا أو محمولين قسراً إلى زنازين لا تغيِّر من الواقع شيئاً، بل تزيده عبثاً؟
..
انتهت الأسئلة، ولم ينته التيه، ولن ينتهي غالباً، ولكن لعل الموت ينتهي.